الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ((١٠٢)) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ((٧٠)) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
عبـادَ الله:
اللهُ سبحانه وتعالى يَخْـلُـقُ ما يشــاءُ، ويَصْطَــفِي مِنْ خَلْـقِه مــا يَشَـاءُ؛ يقـولُ سبحـانـه: ﴿اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا ومِنَ النَّاسِ﴾ [الحج: 75]؛ فالله عز وجل خَلَقَ الملائكةَ، واصْطَفَى مِنْهُمُ الملائكةَ المُقَرَّبِينَ كَجِبْرِيلَ ومِيكَائِيلَ وإِسْرَافِيلَ وغَيْرِهم منَ الملائكةِ، وخَلَقَ الأنبياءَ وفَضَّلَ بَعْضَهُم على بعضٍ؛ يَقُـولُ جَــلَّ وعَــلَا: ﴿تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ورَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾ [البقرة: 253]، واصْطَفَى مِنْهُمْ أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ؛ وهم محمدٌ، وإبراهيمُ، ومُوسَى، وعِيسَى، ونُوحٌ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
وَكَمَا أنَّ اللهَ فَضَّلَ بَعْضَ الملائكةِ على بَعْضٍ وبَعْضَ الرُّسُلِ على بَعْضٍ فَضَّلَ كَذَلِكَ بعضَ الأماكِنِ على بَعْضٍ، وبعضَ الأزمِنَةِ على بَعْضٍ.
فمِنَ الأماكنِ المُفَضَّلَةِ المُبَارَكَةِ عند الله عز وجل، والَّتِي يَتَضَاعَفُ فيها الجزاءُ على العَمَل الصالحِ، كَمَا يَشْتَدُّ الْوَعِيدُ على فعْلِ السَّيِّئَاتِ فيها المسجدُ الحرامُ، والمسجِدُ النَّبَوِيُّ، والمسجدُ الأقصى.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «صَلاَةٌ فِى مَسْجِدِى هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِواهُ إِلاَّ الْـمَسْجِدَ الْـحَرَامَ وصَلاَةٌ فِى الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلاَةٍ».
وَأَمَّا الْأَزْمِنَةُ فَكَثِيرَةٌ؛ فَأَفْضَلُ الشُّهُورِ شَهْرُ رَمَضَانَ، والْأَشْهُرُ الْـحُرُمُ، وأَفْضَلُ الْأَيَّامِ أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الْـحِجَّةِ، وأَفْضَلُ اللَّيَالِي لَيَالِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأَفْضَلُ السَّاعَاتِ أَوْقَاتُ السَّحَرِ، وأَفْضَلُ الْأَيَّامِ يَوْمُ النَّحْرِ أَوْ يَوْمُ عَرَفَةَ عَلَى خِلَافٍ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ.
وَهَذِهِ الْأَوْقَاتُ الْـمُبَارَكَةُ يُضَاعَفُ فِيهَا الْجَزَاءُ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ فَهِيَ نَفَحَاتٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ عَوَّضَ اللهُ سبحانه وتعالى بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةَ الْـمُبَارَكَةَ عَنْ قِصَرِ أَعْمَارِهَا؛ ومِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الْأَشْهُرُ الْـحُرُمُ والْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ شَهْرِ ذِي الْـحِجَّةِ.
يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاواتِ والْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 36].
يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ رحمه الله في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: « أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ في حَجَّتِهِ، فَقَالَ: [أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَواتِ والْأَرْضَ؛ السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلَاثَةٌ مُتَوالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وذُو الْـحِجَّةِ، والْـمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وشَعْبَانَ]. ثُمَّ قَالَ: [أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟] قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: [أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟] قُلْنَا: بَلَى. ثُمَّ قَالَ: [أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟] قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: [أَلَيْسَ ذَا الْـحِجَّةِ؟] قُلْنَا: بَلَى. ثُمَّ قَالَ: [أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟]. قُلْنَا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: [أَلَيْسَتِ الْبَلْدَةُ؟] قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: [فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وأَمْوالَكُمْ - قَالَ: وأَحْسَبُهُ قَالَ: وأَعْرَاضَكُمْ - عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلالًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلَا هَلْ بَلَغْتُ؟ أَلَا لِيُبَلِّغَ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ مِنْكُمْ، فَلَعَلَّ مَنْ يُبَلَّغُهُ يَكُونُ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ يَسْمَعُهُ] ».
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ قَالَ: مُحَرَّمٌ، ورَجَبٌ، وذُو الْقَعْدَةِ، وذُو الْـحِجَّةِ.
وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم في الْـحَدِيثِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يوم خلق الله السموات والْأَرْضَ»، تَقْرِيرٌ مِنْهُ، صَلَوَات اللهِ وسَلَامُهُ عَلَيْهِ، وتَثْبِيتٌ لِلْأَمْرِ عَلَى مَا جَعَلَهُ اللهُ تَعَالَى في أَوَّلِ الْأَمْرِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيمٍ ولَا تَأْخِيرٍ، ولَا زِيَادَةٍ ولَا نَقْصٍ، ولَا نَسِيءٍ ولَا تَبْدِيلٍ، كَمَا قَالَ في تَحْرِيمِ مَكَّةَ: «إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَواتِ والْأَرْضَ، فَهُو حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
أَمَّا أَيَّامُ الْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ شَهْرِ ذِي الحِجّةِ: فَهِيَ أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا وأَعْظَمُهَا وقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: (أَفْضَلُ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامُ الْعَشْرِ)، ولِفَضْلِهَا وعِظَمِهَا اسْتَحَقَّتْ أَنْ يُقْسِمَ اللهُ سبحانه وتعالى بِهَا في كِتَابِهِ، قَالَ الله سبحانه وتعالى: ﴿والْفَجْرِ١ ولَيَالٍ عَشْرٍ﴾ [الفجر: ١ - ٢]، وَهِي عَشْرُ ذِي الْـحِجَّةِ عَلَى قَوْلِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْـمُفَسِّرِينَ.
أَحَبُّ الأَعْمَالِ إِلَى الله فِي هَذِه العَشْر:
وَهَذِهِ الأيَّامُ المُبَارَكَاتُ هِيَ أَحَبُّ الْأيَّامِ إِلَى الله تَعَالَى، والْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى الله فَهِي مَوْسِمٌ وأَيُّ مَوْسِمٍ؟!! مَوْسِمٌ لِلْمُتَاجَرَةِ مَعَ الله والتَزَوُّدِ بِمَا يُرْضِيهِ والْبُعْدِ عَمَّا يُسْخِطُهُ، وهِي مَيْدَانُ السَّبْقِ إِلَى الْخَيْرَاتِ ﴿وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ [المطففين: ٢٦].
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَحَبُّ إِلَى اللهِ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ -يَعْنِي: أَيَّامَ الْعَشْرِ- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، ولَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: ولَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ، إِلَّا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ).
وَهَذَا يَدُلُ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ في أيَّام الْعَشْرِ أَفْضَلُ مِن الْجِهَاد بِالنَّفْسِ وأَفْضَل مِنَ الْجِهَاد بِالْـمَال وأَفْضَلُ مِن الْجِهَاد بِهِمَا والْعَوْدِ بِهِمَا أَو بِأحَدِهِمَا فَلَا يَفْضُل الْعَمَلَ فِيهَا إلَّا مَنْ خَرَج بِنَفْسِه ومَالِه ولَم يَرْجِع لَا بِالنَّفْسِ ولَا بِالْـمَالِ، فَضْلٌ عَظِيمٌ وخَيْرٌ عَمِيمٌ ومِنْحَةٌ جَلِيلَةٌ وأيَّامٌ شَرِيفَةٌ لَا يَعْرِفُ قَدْرَهَا إلّا أُولُو الْعَزْمَات مِنَ الرِجَال.
يَقُول ابْنُ كَثِير رَحِمَهُ الله:
(وبِالْـجُمْلَةِ، فَهَذَا الْعَشْرُ قَدْ قِيلَ: إِنَّهُ أَفْضَلُ أَيَّام السَّنَةِ، كَمَا نَطَقَ بِهِ الحَدِيثُ، وفَضْلُه كَثِيرٌ عَلَى عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ، لِأَنَّ هَذَا يُشْرَعُ فِيهِ مَا يُشْرَعُ فِي ذَلِكَ مِنْ صَلَاةٍ وصِيَامٍ وصَدَقَةٍ وغَيْرِهِ، ويَمْتَازُ هَذَا بِاخْتِصَاصِهِ بِأَدَاءِ فَرْض الحَـجِّ فِيه).
تَنَوُّع فَضَائِل الْعَشْرِ مِنْ ذِي الْـحِجَّةِ:
وَفَضَائِلُ هَذِه الْعَشْرِ كَثِيرَةٌ ومُتَنَوِّعَة، فَمِن فَضَائِلِهَا أَنَّ الله تَعَالَى قَرَنَهَا بِأفْضَلِ الْأَوْقَات، قَرَنَهَا بِالْفَجْرِ والشَّفْعِ والْوَتْر واللَّيْلِ، أَمَّا اقْتِرانُهَا بِالْفَجْرِ فَلِأَنَّه الْوَقْتُ الَّذِي بِحُلُولِه تَعُودُ الْـحَيَاةُ إِلَى الْأبْدَانِ بَعْد الْـمَوْتَةِ الصُّغْرَى وتَجْتَمِعُ فِيه الْـمَلاَئِكَة، وهُو أقْرَبُ الْأَوْقَاتِ إِلَى وقْتِ النُّزُول الْإلَهِيِّ في الثُّلُثِ الْأَخِير مِنَ اللَّيْل، وقَرَنَهَا بِالشَّفْعِ والْوَتْرِ لِأَنَّهُمَا الْعَدَدَانِ الْـمُكَوِّنَانِ لِلْمَخْلُوقَاتِ، فَمَا مِن مَخْلُوقٍ إلَّا وهُو شَفْعٌ أَو وتْرٌ حَتَّى هَذِهِ الْعَشْر فِيهَا شَفْعٌ وهُو يَوْم النَّحْر، وفِيهَا وتْرٌ وهُو يَوْمُ عَرَفَةَ، وقَرَنَهَا بِاللَّيْل لِفَضِيلَتِه فَقَد قُدِّم عَلَى النَّهَار وذُكِر في الْقُرْآنِ أَكْثَرَ مِنَ النَّهَار، فَهُو أفْضَلُ وقْتٍ لِنَفْلِ الصَّلاَةِ، وهُو أقْرَب إِلَى الْإِخْلاص؛ لِأَنَّه زَمَنُ الْخَلْوَة، وهُو أقْرَبُ إِلَى مُرَاقَبَةِ الله، وأَقْرُب إِلَى إِجَابَة الدُّعَاءِ، وإِجَابَة السُّؤَال، ومَغْفِرَة الذُّنُوبِ.
أَقُولُ قَوْلِي هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لِلَّـهِ، والصَّلَاةُ والسَّلَامُ على رَسُولِ اللهِ، وبَعْدُ:
أَيَّامٌ كَمُلَ فِيهَا الدِّيْن:
عِبَادَ اللهِ:
مِن فَضَائِلِ هَذِه الْعَشْرِ الْبَارِزَة الظّاهِرَة أَنّ الله سبحانه وتعالى أَكْمَلَ فِيهَا الدِّينَ؛ إِذ تَجْتَمِعُ فِيهَا الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا، وبِكَمَال الدِّينِ يَكْمُلُ أهْلُه، نَعَم لَقَد أَكْمَلَ الله الدِّين وتَرَكَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضاءَ لَيْـلِهَا كَنَـهَارِهَا كَمَا ثَبَت ذَلِك في الْـحَديث الصَّحِيح عَـنْه صلى الله عليه وسلم، وقَد حَسَـدَتْنَا يَهُود عَلَى هَذَا الْكَمَال، فَقَال حَبْرٌ مِن أَحْـبارِهِم لِعُـمَر ابن الْخَـطَّابِ رضي الله عنه : يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، آيَةٌ في كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ، مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ فَقَال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، فَقَال عُمَرُ رضي الله عنه: (وَاللهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، والسَّاعَةَ الَّتِي نَزَلَتْ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، عَشِيَّةَ عَرَفَةَ في يَوْمِ الْجُمُعَةِ).
فِيهَا يَوْم عَرَفَة:
إِنَّ مِنَ الْفَضَائِلِ والشَّمَائِلِ والكَمَائِلِ الَّتِي تَتَمَيَّز بِهَا هَذِه الْعَشْرُ أَنَّ فِيهَا يَوْمَ عَرَفَةَ؛ وهُو يَوْمٌ مَجِيدٌ يُعْرَفُ أهْلُه بِالتَّوْحِيد؛ فَشِعَارُهُم الَّذِي يُكْثِرُون مِنْه التَّرْدِيدَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
يَوْمٌ ما رُئِيَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ ولاَ أَدْحَرَ ولَا أَذَلَّ ولاَ أَحْقَرَ مِن هَذَا الْيَوْم لِمَا يَرَى مِن تَنَزُّلِ الرَّحَمَات ومُبَاهَاة الرَّبِّ بِأهْل الْـمَوْقِف أَهْلَ السَّـمَاوات، وعِتْق الرِّقاب مِنَ النِّيَران.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كما جاء في الْـحَديث الصَّحِيحِ: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا والنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
وَهُو رُكْنُ الْـحَجِّ الْأَعْظَمُ، قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : (الحَجُّ عَرَفَةُ)، وصَومُه تَطَوُّعًا يُكَفِّرُ السَّنَة الْـمَاضِيَةَ والْبَاقِيَةَ، ومَا ثَبَتَ نَظِيرُ هَذَا الْفَضْل لِمِثْل هَذَا الْعَمَل كَمَا نَطَقَ بِذَلِك الْـحَدِيث الصَّحِيح.
فِيهَا يَوْم النَّحْر:
وَمِن فَضَائِلِهَا أيْضًا أَنَّ فِيهَا يَوْمَ النَّحْر يَوْم الْـحَجِّ الْأكْبَرِ، فِيهِ أُعْلِنَتِ الْبَراءةُ مِنَ الْـمُشْرِكِين، قَالَ الله تَعَالَى: ﴿وأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ورَسُولُهُ﴾ [التوبة: ٣]، فَأَظْهَر اللهُ الْإِسْلامَ عَلَى جَمِيع الْأَدْيانِ وأَعْلَنَ فِيه الْبَراءةَ مِنْ أهْل الْأَوْثَانِ فَتَوَحَّدَت صُفُوفُ الْـمُسْلِمِين حَتَى أَصْبَحُوا كَالْجَسَد الْوَاحِد؛ فَيَا لَهَا مِن نِعْمَةٍ عَظِيمَةٍ أَنْ يُرَى أَهْلُ الْإيمَان ظَاهِرِينَ، وعَلَى أَعْدَائِهِم مُنْتَصِرِين، وفِي هَذَا الْيَوْمِ تَجْتَمِعُ مُعْظَمُ أَعْمَال النُّسُكِ مِنَ الرَّميِّ والنَّحْرِ وحَلْقِ الرَّأْسِ والطَّوَافِ والسَّعْيِ، ولِغَيْر الْـحُجَّاجِ صَلاَةُ الْعِيد وذَبْحُ الأضَاحِي.
تَنْوِيع الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِي هَذِه الْعَشْر:
وَفَضَائِلُ الْعَشْرِ كَثِيرَةٌ لَا تُحْصَى وعَظِيمَةٌ لَا تُسْتَقْصَى، والْـمَشْرُوعُ تَنْوِيعُ الْأَعْمَال الصَّالِحَة فِيهَا مِنَ الصِّيام والصَّدَقَةِ والتَّوْبَة إِلَى الله والْإكْثَارِ مِنَ التَّسْبِيح والتَّهْلِيل والتَّحْمِيد، أَخْرَج الْإمَامُ أَحْمَد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ أَيَّامٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ، ولَا أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الْعَمَلِ فِيهِنَّ مِنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِنَ التَّهْلِيلِ، والتَّكْبِيرِ، والتَّحْمِيدِ).
عبادَ اللهِ؛ عبادَ اللهِ، صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ
الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ.