ويبقى الأثر

الشيخ عزيز بن فرحان العنزي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾. [النساء: 1].

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾. [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فاتقوا الله يا عباد الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.

عباد الله يقول الله جل وعلا: {إِنَّا نَحْنُ نُحْىِ ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَءَاثَٰرَهُمْ ۚ وَكُلَّ شَىْءٍ أَحْصَيْنَٰهُ فِىٓ إِمَامٍۢ مُّبِينٍۢ}

هذه الآية الكريمة اشتملت على أربعة أمور عظيمة.

أولها: أن الله تعالى يحيي الموتى

.

وثانيها: أن الله جل وعلا يكتب ما قدمه الإنسان ويحصيه إحصاء لا يفوت.

وثالثها: أن الله جل وعلا يثيب الإنسان على ما خلفه من آثار، إن خيرا فخير، وإن شرا فالنار.

ورابعها: أن الله جل وعلا أحصى كل شيء في اللوح المحفوظ.

وإذا أردنا أن نقف على هذه الآية الكريمة نقف على الأمر الثالث منها وهو قول الله جل وعلا: {وآثارهم} والمعنى بأن كل إنسان لا بد أن يعلم بأن كل أثر خلفه أو عمل صالح تركه فإن الله تعالى يجازيه عليه، يجازيه على هذه الأعمال، فإن الأصل أن الإنسان إذا مات انقطع عمله، يقول جل وعلا: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ} [النجم- 39] لكن الله تعالى يكتب للإنسان الآثار التي خلفها، ولهذا يجب على كل مسلم أن يسعى إلى أن يُبقي بصمة في حياته ترفعه عند الله جل وعلا.

وقد قيل في سبب نزول هذه الآية أن بني سلمة من الأنصار كانوا في ناحية من نواحي المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى جوار مسجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فلما علم النبي ﷺ بذلك وسألهم قال: ((يا بَنِي سلمةَ ! دياركم تكْتُبُ آثارَكم)) [صحيح مسلم]، والمعنى بأن الله جل وعلا يكتب أثر الإنسان الصالح ويثيبه عليه إثابة عظيمة، والمقصود عباد الله أن الإنسان يجب أن يكون شغله الشاغل وقلقه الساهر واهتمامه الكبير فيما يخلفه بعد وفاته، ذلك أن الناس إذا انتقلوا عن هذه الدار فهم لا يخرجون عن ثلاثة أقسام:

قسم ذهب وليس له أثر، وينسى حتى بين الناس.

وقسم يذهب وتبقى آثاره شاهدة على أعماله الصالحة.

قد مات أقوام وما ماتت مكارمهم

وعاش أقوام وهم في الناس أموات

وقسم ذهبوا إلى الدار الآخرة وبقيت أعمالهم شاهدة على قبائح فعلهم، وعلى فظاعة صنيعهم، وتبقى السيئات تجري عليهم بعد وفاتهم.

ولهذا يجب على كل إنسان وقد علم أنه قاعد من عمره على شفا جرف هار، وأنه منتقل عن هذه الدنيا أن يخلف الأعمال الصالحة التي يبقى أثرها، ويدوم ثوابها وأجرها إلى أن يرث الله جل وعلا الأرض ومن عليها، يقول جل وعلا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزالة- (7 - 8) ويقول جل وعلا:  {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُّسْتَطَرٌ} [القمر- (54)] ولهذا واجب على كل عاقل كيس فطن واقف على قمة الحقيقة في هذه الحياة أن يقدم أعمالا لنفسه تنفعه بعد وفاته، وقد حثنا النبي ﷺ على ذلك في مجموعة من الأحاديث منها ما صح عنه ﷺ: ((ذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له))[صحيح مسلم] والصدقات الجارية هي التي تبقى أعيانها، ويدوم نفعها، مثل بناء المساجد، وحفر الآبار، وبناء دور العلم، والدور للأيتام والضعفاء والمسحوقين والأرامل وغيرها من الأعمال التي تبقى أعيانها.

"أوعلم ينتفع به" علم ينشره في مصنف يصنفه، أو في كتاب يطبعه من الكتب السليمة النقية الخالية من المخالفات والمحظورات، وقد يقول قائل ليس لي سبيل إلى طلب العلم، فهناك تستطيع أن تشارك في نشر العلم وذلك بطابعة المصاحف وجعل الناس يقرأون فيه، أو في طباعة كتب التفسير، أو كتب السنن والآثار، فأنت بهذا تسهم إسهاما كبيرا في جعل صدقات جارية تخلفها بعد وفاتك.

"أو ولد صالح يدعو له" يا لله ما أعظم هذا الأمر وما أسهله لمن يسره الله جل وعلا عليه، فقد جاء في الحديث: " إذا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له [صحيح ابن ماجه]" فإن هذا من جملة الأعمال الصالحة التي يصل ثوابها وأجرها إليك في قبرك، فهنيئا لمن حفظ ابنه القرآن، وهنيئا لمن ربى ابنه على هدي النبي المختار، وهنيئا لمن أصلح أولاده وسعى في ذلك سعيا حثيثا، فإن الله جل وعلا يُبقي له هذا الأثر، ويرفعه درجات في الجنات العالية بإذن الله جل وعلا.

يجب على الإنسان أن يُبقي له أثرا بعد وفاته، فإن العرب تقول: "البعرة تدل على البعير، والأثر يدل على المسير" ولذلك هذه الآثار تشهد لك عند الله جل وعلا، فبادر يا عُبيد الله، وبادري يا أمَة الله إلى الانتباه إلى مثل هذه القضايا، و أن تعملوا مثل هذه الأعمال التي يبقى آثارها ويجري ثوابها بعد وفاتكم، والنبي ﷺ حث في حديث آخر على نشر العلم وعلى حفر الآبار وعلى شق الأنهار وعلى بناء الدور للأيتام وعلى غير ذلك من الأعمال الصالحة، هكذا هو العاقل الكيس الفطن، هكذا الذي وقف على قمة حقيقة الحياة وعرف قصرها فهو يعمل لآخرته.

وفقنا الله وإياكم لعمل الصالحات، واجتناب المنكرات، وقادنا وإياكم إلى ما فيه رفعة الدرجات، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة ويا فوز المستغفرين، أستغفر الله.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى وعلى من بأثره اقتفى إلى يوم الحشر والمنتهى.

أما بعد:

فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أنه كما يجري على الإنسان مثل هذه الأجور، ومثل هذه الحسنات، ومثل هذا الثواب إن هو عمل صالحا وخلف أثرا طيبا، فإن هناك من تجري عليه سيئاته بعد وفاته إن خلف عملا سيئا أضل به العباد، أو أفسد به الخلق، ولذلك واجب على الإنسان أن يحذر الحذر الشديد من أن يخلف عملا سيئا يكون شاهدا على قبح صنيعه وقبح عمله، يقول جل وعلا: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزالة- (7 - 8) ويقول جل وعلا عن هذا الكتاب يوم القيامة: {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف- (49)] ولا يظلم ربك أحدا، فمن الناس من مات ولم تمت سيئاته بل بقيت تجري عليه في قبره، ومن الناس من مات وبقيت حسناته تجري عليه في قبره وبعد وفاته.

ولا شك بإن الإنسان إذا حمل مثل هذه المشاعر واتجه إلى مثل هذه الأعمال اتسعت دائرة الخير عند الناس وحوصرت المشاكل والمعاصي والذنوب والآثام، فيعيش الناس مستظلين ظلال هذه الأعمال الصالحة، يحملونها في قلوبهم ومقاصدهم ونياتهم، ويطبقونها ويترجمونها في واقع أعمالهم، وهذا ما أراده ربنا جل وعلا حينما أمر بذلك في كتابه، وهذا ما قصده نبينا ﷺ في سنته حينما حثنا وحرضنا وشجعنا على أن نعمل لما بعد وفاتنا، فإن الإنسان في هذه الدنيا قاعد على خطر ما يدري متى يلقى الله.

فقدم لآخرتك الأعمال التي يبقى أجرها وثوابها، وخيرها نهرا متدفقا لك بعد وفاتك.

وفقنا الله وإياكم لكل خير، وقادنا إلى كل إحسان وبر....