التحذير من الغلو في الدين

الشيخ عبدالسلام بن برجس

عباد الله، لقد نهانا ربنا ـ سُبحانه وتعالى ـ عن الغلو في الدين، وحذرنا من ذلك تحذيرا شديدا؛ ذلك بأنـه ـ جل جلاله ـ حدّ لنا حدودا، وشرع لنا شرائع، وهو يحب منا أن لا نزيد على هذه ولا ننقص منها شيئا.

ولذا؛ فإنه ـ سبحانه وتعالى ـ شرع لنا أن نقرأ في كل صلاة (سورة الفاتحة)، وفيها هذه الآيات العظيمة: «إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنـا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ﴾ [الفاتحة: 5 -7].

وفي هذا تنبيه للمسلم وتحذير لـه؛ تنبيـه لـه أن يسلك مسلك المغضوب عليهم ومسلك الضالين، والمغضوب عليهم هم الذين عرفوا الحق وتـركـوه ـ كاليهود ونحوهم ـ، والـضـالـون هـم الـذيـن عبـدوا الله ـ جل جلاله ـ على جهل ـ كالنصارى ونحوهم.

أيها المسلمون:

لقد نهى الله - سبحانه وتعالى ـ أهل الكتاب عن الغلو في دينه، ونهيه ـ سبحانه وتعالى ـ لأهـل الكتاب ليس خاصا بهم؛ بل هو عام لهم ولكل من أتى بعدهم: «يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق» [النساء: 171].

وقد جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ محذرا مـن الـغـلـو في الـدين في أحاديث كثيرة، مـن أظـهـرهـا قوله ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كما في حديث ابن عباس: «إياكم والغلو في الدين؛ فإنّما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»، وذكر ـ عليه الصلاة والسّلام ـ عاقبة الغالين في الدين فقال: «هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعونج».

فنحن أمة وسط، أمرنا الله - سبحانه وتعالى ـ أن نستقيم على أمره الذي شرعه ـ تعالى ـ؛ كما قال ـ جل جلاله ۔ مخاطبا نبيه ـ صلى الله عليه وسلم -: «فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير» [هود: ۱۱۲].

فالشرع لم يوكل إلى عقولنا، ولا إلى أهوائنا؛ بل لا يؤمن أحدنا حتى يكون هواه تبعـا لمـا جـاء بـه رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

وتأملوا كثيرا قصة النفر الثلاثة الذين جاؤوا إلى أزواج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فسألـوا عـن عبـادة رسول الله، فكأنهم تقالوها؛ فقال أحدهم: «أصوم ولا أفطر». وقال الآخر : «أقوم الليل ولا أنام». وقال الثالث: «لا أتزوج النساء». وفي رواية: «لا آكل اللحم».

فلما جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأخبر عـن حـديث أولئك النفر قال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ: «من رغب عن سنتي؛ فليس مني».

إذن؛ فالشرع وحي منزل من الله - سبحانه وتعالى ـ، لا يجوز للمسلم أن يزيد فيه شيئا أو ينقص؛ بل إن عمله لا يُقبل عند الله ـ جل جلاله - إلا إذا توفر فيه شرطان:

الأول: إخلاص العمل لله - سبحانه وتعالى - ، وإرادة وجه الله بهذا العمل؛ كما قال ـ جل وعلا ـ: «وما أمروا

إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين» [البينة: 5].

والثاني: المتابعة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد».

ولذا؛ فإن كثرة التعبد وكثرة التنسك لا تغني عن المرء شيئا إذا لم يكن تنسكه وتعبده وفقا لـمـا جـاء بـه رسـول الله ـ صلى الله عليه وسلم - ، ولذا فإن النصارى ابتدعوا رهبانية جعلوها على أنفسهم ما كتبها الله - سبحانه وتعالى ـ عليهم، ولذا؛ لم يقبل الله ـ جل وعلا ـ منهم صرفا ولا عدلا.

وأحبُّ كثيرا أن يتأمل المسلم قصص الخوارج التي جاءت في سنة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ ليعلم يقينا أن من تعبد الله ـ جل وعلا ـ على غير هدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإن عمله باطل؛ فلا يغتر به، ولا ينخدع به، مها جلب على نفسه من مظاهر التدين والعبادة.

يقول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كما في حديث أنس الذي أخرجه الإمام أحمد في (مسنده): «سيأتي قوم يتعبدون ويدينون، حتى يعجبوا الناس وتعجبهم أنفسهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية» . وفي رواية أخرى عن أنس ـ رضي الله عنه ـ أخرجها الإمام أحمـد أنـه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال: «قوم يحسنون القيل، ويسيئون الفعل، يحقر أحدكم صلاته عند صلاتهم، وصيامه عند صيامهم، يمرقـون مـن الـدیـن كما يمرق السهم من الرمية، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء».

هكذا يحدثنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن تلك الفرقة المارقة، لـم ذلك؟ لأنهم تعبدوا عـلى غـيـر هـدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وعلى غير سنته؛ «فضلوا وأضلوا كثيرا وضـلوا عـن سـواء السبيل» [المائدة: 77].

ولذا؛ فإن هؤلاء اعترضوا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -؛ فقال قائلهم: «اعدل يا ـ محـمـد ـ !! فقال: ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟!». ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: «إن هذا وأصحابه تحقرون صلاتكم عند صلاتهم، وصيامكم عند صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية».

ثم جاء قرن آخر لهم؛ فخرجوا على عثمان ذي النورين، وقتلوه زاعمين أنه كافر بالله العظيم!! واقرؤوا قصة قتله في (البداية والنهاية) لابن كثير؛ لتروا شؤم ما عليه هذا القوم؛ حيث أنهم قتلوا خليفة خليفة رسول الله؛ زاعمين أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر !!! «كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا» [الكهف: 5].

ثم بعد ذلك خرجوا على علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ، ويا ليت شعري! بما اتهموه؟!.

اتهموه بأنه لا يحكم بشريعة الله !! اتهموه أنه يُبعِدُ كتاب الله ـ جل وعلا ـ في حكمه وتدبيره!!!

ووالله ما صدقوا.

ولذا؛ فإن عليا ـ رضي الله عنه ـ تحمس لقتالهم، وتشدد في ذلك، وأخبر أصحابه أن من قتلهم أو قتلوه فهو في الجنة؛ بشهادة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

ثم إنه ـ رضي الله عنه ـ لم يرض أن يقاتلهم ابتداء؛ بل بعث إليهم ابن عباس، فكشف شبهتهم، وبين لهم أنهـم على غير علم وهدى، وأنهم قد تمسكوا ببعض الظواهر من القرآن والسنة، وهي لا تغني عنهم شيئا؛ إذ لم يفقهـوهـا، ولم يعرفوا مراد الله - سبحانه وتعالى ـ منها، فما اقتنع منهم إلا يسير.

ثم ناقشهم هو ـ رضي الله عنه ـ بنفسه، فلما رأى ضلالهم وإصرارهم؛ قاتلهم؛ فمزقهم كل ممزق.

فتأملوا ـ عباد الله ـ هذه الحوادث، وانظروا إليها بعين الاعتبار، واعلموا أن الغلو والتشدد في الـديـن هـو الـذي يقود إلى مثل هذه الأمور.

فالمسلم يكون على الوسطية التي جاء بها الإسلام، لا يزيد عما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا ينقص شيئا، ويعلم أنه لو تعبد بتعبد عظيم فأنفق عمره فيه وأنفق مالـه فيـه فإنه لا يغني عنـه هـذا التعبـد شـيئا حتى يكون تعبده وفقا لما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم - .

ألا تقرؤون قول الله ـ جل وعلا -: «وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تضـلى نـارا خامية» [الغاشية: ٢ - 4 ]؟! .

فهي وجوه تعمل وتدأب وتسعى وتتعبد، ولكن ما مصيرها؟! وما عاقبتها؟! « تصلى نارا حامية»، هذه الآية تأولها علي ـ رضي الله تعالى عنه ـ في الخوارج.

ومن هنا؛ فإننا نقول للناس عموما: إنه ليس كل من تظاهر بالدين وتسمى بالتدين فإنه من أهل الدين حقا؛ بل أهل التدين هم الذين يوافقون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كـل أقواله وأفعاله، ولا يزيدون على شيء مما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم .

عباد الله:

إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهـدي هـدي محمـد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بالجماعة؛ «فإن يد الله مع الجماعة ومن شد شد في النار».