أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا ...

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

الحمد لله، الحمد الله الرحيم الغفار، شديد العقاب الجبار، لم يجعل الدنيا دار قرار، وإنما جعلها دارا للاختبار، ليتميز الأبرار من الفجار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الواحد القهار، شهادة من حققها فاز بالجنة ونجا من النار، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله النبي المختار، من لزم سنته كان من الأخيار، صلى الله عليه وسلم ما أظلم ليل أو أضاء نهار، ورضي الله عن آله الطيبين الأطهار، وعن صحابته الكرام الأبرار، أما بعد فيا عباد الله:

إن هي إلا أيام قلائل ويتوجه الطلاب والطالبات إلى الاختبارات، وإن البيوت في هذه الأيام لتستعد لتلك الاختبارات، وإنه لأمر محمود، أسأل الله عن أن يوفق الطلاب والطالبات، وأن يحقق مراد أهليهم فيها.

وإن العبد المؤمن - يا عباد الله - يعتبر بأمور الدنيا ليصحح مسيره إلى الله، ولينشط نفسه في عبادة الله، وإن العبد - يا عباد الله - ليُختبر في الدنيا، ويُختبر في قبره، ويسأل بين يدي الله .

أما في الدنيا: فإن الله عزيز أوجدنا فيها ليختبرنا: هل نوحده ونعبده ، أو نكون على غير هذا؟ وهل نكون في إيماننا من الصادقين، أو نكون من الكاذبين؟

{ الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا ءامنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين } [العنكبوت:1-3].

وبعث الله عز وجل الأنبياء بالشرائع، وجعل أصول دينهم واحدة، وجعل لكل منهم شرعة ومنهاجا، ليبتلي العباد فيما آتاهم من الشرائع، {ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات } [المائدة:48] .

وأمرنا سبحانه ونهانا ليبتلينا: هل نعبده سبحانه بإخلاص ومتابعة لرسول اللہ ﷺ، أم نتبع أهواءنا ونقع في البدع؟ «ليبلوكم أيكم أحسن عملا» [هود:7].

وابتلى العباد بالعباد، فجعل أحاولهم مختلفة،

فهذا غني وهذا فقير، وهذا صحيح وهذا مريض،

وهذا معافى وهذا مبتلى، إلى غير ذلك من أنواع الأحوال ...

لأن الله ما أراد ن يبتلي بعضنا ببعض، أنصبر على هذا؟

فابتلي الغني بالفقير: هل يعطيه حقه، وهل يقدره ويحترمه؟

وابتلى الفقير بالغني: هل يحسده على ما آتاه الله من النعم، أم يكون على غير هذا؟

وابتلي المعافى بالمبتلى: هل يحقره، أم يشكر الله على أن عافاه، ويسأل الله العافية لأخيه؟

و ابتلى المبتلى بالمعافى ليرى: هل يصبر المبتلى على بلواه، أم يقول: لم لا أعافى مثل فلان؟

الله عز وجل شاء أن يختبر العباد بعضهم ببعض، والله عز وجل إن شاء رزقنا الأموال ورزقنا الأولاد، ليبتلينا فيهم: هل نلزم شرع الله في أموالنا، وهل نلزم شرع الله في أولادنا، أم نكون على غير ما يحب الله سبحانه وتعالى.

الله جعل الدنيا لنا دار اختبار تختبر فيها، والحساب والجزاء إنما هو بين يديه سبحانه.

وأما في القبر - وما أدراك ما القبر! - تلك الحفرة الضيقة التي قطعت قلوب الصالحين، كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه وأرضاه- إذا وقف على قبر يبكي حتى يبل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار ولا تبكي، وتبكي من هذا؟! فقال: إن رسول اللہ ﷺ قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه».

إن العبد المؤمن -يا عباد الله - إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، ومعهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فيجلسون منه مد بصره، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من ربك ورضوان، فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء، فيأخذها ملك الموت، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين، بل يأخذونها، ويجعلونها في ذلك الكفن، وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيعرجون بها إلى السماء، فلا يمرون بهما على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان، يسمونه بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى يُنتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها، حتى ينتهى به إلى السماء السابعة، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين، ثم أعيدوه إلى الأرض، فإني خلقتهم منها، وفيها أعيدهم، ومنها أُخرجهم، فتعاد روحه، فيأتيه ملكان، فيقولان: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: وما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله ﷺ فيقولان: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء أن صدق، فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له بابا من الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بما

يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة، رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي وولدي.

وأما الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء، سود الوجوه معهم المسوح، ثم جلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله، فتفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج منه كأنتن ريح جيفة كانت على وجه الأرض، ثم يصعد به إلى السماء، فلا يمر على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأقبح الأسماء التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهى به إلى السماء الدنيا، فيستفتح له، فلا يفتح له، ويقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلي، ثم أعيدوه، فتعاد روحه إلى جسده، فيأتيه ملكان شديدا الانتهار، فينتهرانه، فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! – وفي رواية يقول: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته - فينادي مناد من السماء أن كذب، فأفرشوه من النار، وافتحوا له بابا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: ومن أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك السيء، فيقول: رب لا تقم الساعة، رب لا تقم الساعة.

إنها - يا عباد الله - أسئلة ثلاثة، بينها لنا ربنا :

من ربك؟ وما دينك؟ وما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟

وإن الجواب عنها -يا عباد الله - لا يكون بحفظها، وإنما يكون بالعلم بها، واعتقادها، والعمل على وفقها.

وأما بين يدي الله : فإن العبد يُسأل أسئلة عظيمة، يقول النبي ﷺ : «لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة من عند ربه حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيم أفناه، وعن شبابه فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا فعل فيما علم»، وفي رواية: «لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن أربع، عن عمره فيم أفناه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وماذا عمل فيما علم، وعن جسمه فيم أبلاه» .

إنها -يا عباد الله - ودائع عندنا في الدنيا، سنُسأل عنها بين يدي الله عز وجل.

العمر - يا عباد الله - وديعة عندنا، نُختبر فيه، ونُسأل عنه بين يدي الله عز وجل، في أي شيء أفنيناه؟

والشباب والقوة وديعة عندنا، نُختبر فيها، وسنُسأل عنها بين يدي الله ، فيم أبليناها؟ .

والمال - يا عباد الله - وديعة عندنا، وسنُسأل عنه يوم القيامة من وجهين:

من أين اكتسبناه؟ هل اكتسبناه من حلال، أم اكتسبناه من حرام؟

وفيم أنفقناه؟ هل أنفقناه في حلال، أو أنفقناه في حرام؟.

وعن العلم الذي تعلمناه، سواء سمعناه في الخطب، أو سمعناه في الدروس، أو غير ذلك، ماذا عملنا به؟ ماذا عملنا فيه؟ هل أرضينا الله عن به، وقلنا: سمعنا وأطعنا؟ أم أنا هززنا الرؤوس، ولم تتحرك النفوس، ولم تعمل بما علمنا من الخير؟

إنها -يا عباد الله - أسئلة عظيمة قد علمناها، فاتقوا الله عباد الله، فأعدوا للسؤال جوابا، واجعلوا الجواب صوابا.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فيا عباد الله:

اعلموا أنه ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة.

عباد الله:

إن الناس في حسابهم يوم القيامة بحسب أعمالهم في الدنيا يتفاوتون بفضل الله عز وجل.

فمن الناس من لا يحاسب يوم القيامة أبدا، وهم السبعون ألفا الذين يقدمون في مقدمة أمة محمد ﷺ ، فهم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يكتوون، ولا يسترقون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.

ومن الناس - يا عباد الله - من تعرض عليه ذنوبه عرضا، وهؤلاء يدني الله عز وجل على أحدهم كنفه، ويقول: أتذكر ذنب كذا؟ أتذكر ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ورأى أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم.

ومن الناس - يا عباد الله - من يناقش الحساب، ومن نوقش الحساب عذب، كما قال النبي : «من حوسب عُذِّب»، فقالت أمنا عائشة : فداك نفسي يا رسول الله! ألم يقل الله عز وجل: «فأما من أوتي كتبه بيمينه، فسوف يحاسب حسابا يسيرا»؟ [الانشقاق :۷ -۸] قال: «يا عائشة، ذلك العرض، من نوقش الحساب هلك»، وفي رواية: «إنه ليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب».

ومن الناس - يا عباد الله - من يُفضحون على رؤوس الخلائق، فينادى عليهم بأعمالهم السيئة، كالكفار، والمنافقين، والغادرين، والغالِّين من الغنيمة، والمرائين، فهناك أناس -والعياذ بالله - يجاهرون بالذنوب العظيمة، فيُفضحون على رؤوس الخلائق، وينادى عليهم بذنوبهم.

فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أنكم في هذه الدنيا لذلك الحساب تمهدون، ولأنفسكم تعملون، فاتقوا الله عباد الله، والزموا شرع الله، تسعدوا في الدنيا والآخرة.

یا ابن آدم! يا ابن آدم! أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان، ومصيرك إلى الله عز وجل.

ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله أمرنا بأمر عظيم .