عباد الله:
إن الأخوة في دين الله - عز وجل - رابطة قوية بين المؤمنين؛ فهم إخوة في دين الله - عز وجل -، يجمعهم هذا الإيمان؛ فيلتقون عليه، ويتحدون تحت رايته؛ فهـم إخـوة وإن تفرقت أبدانهم، واختلفت أماكنهم، وتغيرت ألوانهم، يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، كيف لا والله - عز وجل - قد نَزَّلَ أخاك المسلم منزلة نفسك فقال الله ـ عز وجل -: «ولا تلمزوا أنفسكم» [الحجرات: 11 ] أي: إخوانكم؟! .
إن هذه الرابطة بين المؤمنين رابطة مَنَّ الله - عز وجل - بها علينا، وتفضل وتكرم بها، لقد مَنَّ الله على المؤمنين بهذه الأخوة الإيمانية وذَكَّرهم بها: «واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا»[آل عمران: ۱۰۳] .
ألا وإن الضعف ما بدأ يسري في المسلمين إلا بسبب التفريط في حقوق هذه الأخوة، وضعف القيـام بمـا أوجب الله - عز وجل ـ تجاهها؛ فقوة المؤمنين لا تكون إلا بإيمان، والإيمان لا يكون إلا بأوثق عراه؛ وهو الحب في الله والبغض في الله . وإن بعض المسلمين ـ هداهم الله عز وجل ـ لم يكتف بالتفريط في حقوق هذه الأخوة الإيمانية؛ بل زاد على ذلك إثما مبينا؛ وهو إلحاق الضرر بإخوانه المسلمين بأي نوع من أنواع الضرر.
أما علم هذا وأمثاله أن حرمة المؤمنين عند الله - عز وجل - عظيمة ؟ ! .
رأى ابن عمر رضي الله عنه الكعبة فقال: «ما أعظمكِ! وأعظم حرمتكِ! ولَلْمُؤْمِنُ أعظمَ عند الله حرمة منك».
ولهذه الحرمة؛ فإن الله -عز وجل ـ يغضب غضبا شديدا إذا أوذي عبده المؤمن أو أَمَته المؤمنة بغير حق؛ قال ـ عز وجل -: «والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا» [الأحزاب: 58].
حملوا على ظهورهم البهتان ـ وهو الكذب الكبير ، وحملوا على ظهورهم الإثم المبين ـ أي: البين الواضـح الـذي لا عذر للمرء في اقترافه -؛ فهؤلاء ضيـعـوا حقوق الله ـ عز وجل ـ في حفظ الأخـوة الإيمانية، وانتهكوا حرمـات الله - عز وجل ـ في إلحاق الضرر بإخوانهم المسلمين، والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقول: «لا ضرر ولا ضرار»، فإذا لم يكن للمسلم منك خير فلا أقل من أن تكف أذاك عنه.
ألا وإن صور أذية المؤمنين تنتشر وتكثر وتفشو شيئا فشيئا؛ ففي كل يوم تُخرج لنا الأيـام صـورة مـن صـور أذية المؤمنين تقع على أيدي بعض من ينتسب إلى الإيمان والأخوة في الدين.
فمن أعظم ذلك ضررا: أذية المؤمن باتهامه وإلحاق مـا يشينه أمام الناس بالباطل والزور؛ فقـد ثبـت عـن أبي الدرداء ـ رضي الله تعالى عنه ـ أنه قال: «أيما امرئ أشاع على امرئ مسلم كلمة وهو منها بريء ليشينه بها؛ كـان حقا على الله ـ عز وجل ـ أن يعذبه بها في نار جهنم حتى يأتي بنفاذ مـا قـال»، رواه أبو الشيخ بإسناد صـحـيـح عـن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ.
فكثرة الوقوع في أعراض المسلمين - لاسيما من كـان مـن العـلماء مـنهم، أو من طلبة العلـم ــ بـالافتراء عليهم، والكذب عليهم، وإلصاق التهم الباطلة بهم، هو مما ينافي حقوق الأخوة التي ثبتت بقطعيات الشريعة الإسلامية، وهو انتهاك صريح لحدود الله وحرماته - تبارك وتعالى-؛ فالتساهل في هذا الأمر جريمة لا تُغتفر حتى يتوب منها المؤمن ويرجع إلى الله - سبحانه وتعالى - .
ويستوي في ذلـك مـن نـطـق بكلمة الإثـم إزاء عالـم، أو طـالـب علـم، أو إزاء رجـل مـسلم، أو إزاء امرأة مسلمة ـ يستوي هو ـ ومن نقلها ونشرها من غير تثبت؛ كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ كما رواه أبو الشيخ عنه بإسناد صحيح: «القائل كلمة الزور والذي يمد بحبلها في الإثم سواء».
ومن صور أذية المؤمنين: ما يقع من بعضهم من الافتخار بذكر عيـوبهم والتتبع لعوراتهم ونشرها بين الناس؛ فذلك من الجرائم الكبيرة التي حذر النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ منها، وجاء فعل السلف مجانبا لها محذرا منها؛ فـقـد قال بعض الصحابة ـ رضي الله تعالى عنه ـ: «كنا نُحَدَّثُ أن أكثر الناس خطايا أفرغهم لذكر عيوب الناس».
نعم! إن أولئك الذين يتفرغون لذكر عيوب لإخوانهم المسلمين؛ فلا هم لهم سوى الوقيعة في أعراضهم، وتصيد أخطائهم ـ أولئك ـ قد مكر الله - عز وجل - بهم؛ فأشغلهم بعيوب الناس عن عيوب أنفسهم، وذلك عنـوان غـضـب الله - سبحانه وتعالى ـ عليهم؛ كما قال بكر بن عبد الله المزني: «إذا رأيت الرجل موكلا بعيوب الناس ناسيا لعيب نفسه؛ فاعلم أنه قد مُكر به» .
وإذا مَكَر الله ـ عز وجل ـ بـه فإنه سوف يهيم في أودية الضلال، وسوف يتفـرد بـه الشيطان؛ فيرديه في مهاوي الردى.
ولهذا؛ نبه النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ على هؤلاء في قوله: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه، وينسى الجذع معترضا في عينه» .
فهؤلاء لهم قدوة يؤزها الشيطان لتصيد الأخطاء والوقوع عليها؛ حتى أنهم ليرون الشيء الصغير الذي لا يُرى إلا بالمجهر ونحوه، وهذا الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم ـ في قوله: «يبصر أحدكم القذى في عين أخيه»، والقذى هو كالشعر ونحوه إذا وقع في العين.
فكان أن عاقبه الله ـ عز وجل ـ بعقوبة صارمة؛ حيث ألهاه بتتبع هذه العيوب، وأنساه عن عيـب نـفـسـه الـذي هـو كبير جدا كجذع النخل؛ وذلك ليحق مكر الله - عز وجل ـ عليه؛ فيقدم على الله ـ تعالى ـ وهـو غـيـر تـائـب مـن هـذا الذنب، غير مستغفر له.
فيا أيها المسلمون:
اتقوا الله - عز وجل ـ في أخوة الدين، واعلموا أنها من أعظـم نعـم الله ـ عز وجل ـ عـلـيـكـم واعلموا أن تقريرها في كتاب الله وفي سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم ـ أصبح من أوضح الواضحات لـدى عموم المسلمين.
فكل من قرأ الكتاب والسنة وكل من اطلع إلى منطوق الكتاب والسنة في هذا الباب تبين له أن المحبة في الله وأن الأخوة الإسلامية رابطة عظيمة وأصل كبير في شرع الله - سبحانه وتعالى - فلا يزال هذا الأصل بأمور تخمينية وظنون كاذبة فاسدة إلا عند مـن ختم الله ـ عـز وجـل ــ عـلى قـلـوبهم وطبع عليها، وجعل على أبصارهم غشاوة؛ فلا يهتدون بهدي الله - عز وجل -؛ وإنما يهتدون بـوحي الشيطان، أعاذنا الله عز وجل وإياكم من ذلك .
أيها المسلمون:
إن موقف المسلم من الأخطاء التي يقع فيها أخوه المسلم بَيِّن في كتاب الله ـ عـز وجـل ـ بَيِّن في سنة المصطفى - عليه الصلاة والسلام، فإن وقع المسلم في معصية فَسَتْرُه محمود مأمور به على صلة الاستحباب والـتـأكـيـد، وإن المؤمنين هم الذين يسترون، وإن المنافقين هـم الـذيـن يـفـضـحـون، كما قال الإمام الفـضـيـل بـن عياض - رضي الله تعالى عنه ورحمه ـ: «إن الفاحشة لتسري في الناس، حتى إذا جاءت إلى الصالحين كانوا خزانها».
فهكذا كان السلف ـ رضي الله تعالى عنهم - يسترون ويَطْوُون ما يُنقل عن مؤمن مما يشينه في معصية الله ـ عز وجل ـ؛ وذلك لئلا يكون الشيطان عونا على أخيكم؛ فيتفرد به ويهيم به في كل واد من أودية الضلال وأما إذا وقع المسلم في خطأ يتعلق بشرع الله ـ عز وجل -؛ فإنَّ رَدَّ هذا الخطأ مأمور به، ولكـن بـالطرق التـي أمـر الله - سبحانه وتعالى ـ بها؛ فلا يكون الرد لحظ النفس ولا للانتصار لها؛ وإنما يكون رحمة بالمردود عليه؛ حتى يتبين لـه الحق، وأيضا يكون رحمة بالناس؛ لئلا يلتبس عليهم الحق من الباطل؛ فيضلُوا.
فهذا هو مراد أهل العلم من الردود، فيراعون هذا المقصد ويستصحبونه في كل رد يقومون به.
أما أن تكون الردود داعية إلى البغضاء والتنافر والشحناء، لا تثمر تصحيحا للأخطاء؛ وإنما تزيد فرقـة وشـتاتا ـ فذلك مما لا يحمده أهل العلم، ولا يرضاه أهل السنة والجماعة.
فاتقوا الله ـ تعالى ـ عباد الله ، وارعـوا هـذه الأصــول التي سار عليهـا سـلـفـكـم ـ رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم ـ؛ فكان أن حققوا من الدعوة إلى الله - عز وجل ـ ونشر العلم ما لم يحققه غيرهم، وما لم يسعد به سواهم.