أهمية التوحيد والتحذير من الشرك

الشيخ عبدالسلام بن برجس

الخطبة الأولى:

عباد الله:

إن الله -سبحانه وتعالى- خلق الخلق لأمـر عـظـيم، وهيأهم لخطـب جسيم، خلقهـم ـ عز وجل ـ لا ليتكثر بهم من قلة، ولا ليستقوي بهم من ضعف؛ وإنما ليعبدوه ـ سبحانه وتعالى -، وليوحدوه، وليفردوه بكل أنواع العبادة التي يحبها الله ويرضاها ـ قولًا، وفعلًا، واعتقادا .

قال الله ـ جل وعلا -: «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون * إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين» [الذاريات: 56-58].

ولأهمية هذا الأمر وعِظَمِه عنده ـ عز وجل ـ؛ أرسل رسله، وأنزل كتبه فيه، كما قال الله ـعز وجل- : « ولقد بعثنا في كل أمة رسولًا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت» [النحل: 36].

ولقد كان الناس ـ أيها المسلمون ـ أول الأمر على المعتقد الصحيح والفطرة المستقيمة: لا يعبـدون إلا الله ـ سبحانه وتعالى -، ثم دب إليهم داء الإشراك به؛ فأرسل الله الرسل، وأنزل الكتب؛ لمحاربة هذا الشرك، ولتصحيح عقائد الناس؛ كما قال الله ـ عز وجل -: «كان الناس أمة واحدة» أي: في المعتقد.. «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النّبيين مبشرين ومنذرين» [البقرة: ٢١٣] ، مبشرين من التزم التوحيد بدخول الجنة، منذرين من انحرف عن هذا التوحيـد بنـار «وقودها الناس والحجارة عليها ملائكـة غـلاظ شداد لا يعصون اللـه مـا أمرهم ويفعلون ما يؤمرون» [التحريم: 6].

يقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية : لما مات آدم ـ عليه السّلام ـ بقي بنوه على عقيدة التوحيد عشرة قرون، ثـم دب إليهم الشرك؛ فأرسل الله - سبحانه وتعالى ـ إليهم نوحا ـ عليه السّلام ـ؛ ليصحح معتقدهم، ولـيزيـل الـشبهات التي لصقت بأذهانهم في قضية إفراد الله - سبحانه وتعالى ـ بالعبادة؛ فكان من أمره ما قص الله ـ سبحانه وتعالى ـ في كتابه، ثم بعد حين فشا الشرك وانتشر كما كان سابقا؛ فأرسل الله - سبحانه وتعالى - رسلا للقضاء عليه، منهم إبراهيم ـ عليه السّلام ـ إمام الحنفاء، وحينما أرسله الله ـ عز وجل ـ بدعوة التوحيد لم يكن يومئذ على ظهـر الأرض مسلم، ودعا إلى التوحيد ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وبينه وقرره، ومنذ دعوة إبراهيم ـ عليه السّلام ـ إلى قیام نبينا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والتوحيد باقٍ لم ينقطع؛ كما قال الله ـ عز وجل ـ: «وجعلها» أي: كلمة

الإخلاص «وجعلها كلمة باقية في عقبه» [الزخرف: ٢٨ ] أي: في عقـب إبراهيم ـ عليه السّلام ـ؛ فكـان بنـوه وبنوهم يعبدون الله - سبحانه وتعالى ـ ويفردونه بأنواع العبادة.

إلى أن جاء آخر الزمان، فخرج فيهم رجل يقال له: عمـرو بـن لُـحي، وكان أول مـن غَيَّر ديـن إبـراهيـم ـ عليه السّلام ـ، وجلب الأصنام إلى العرب.

وكان من أمره أنه كـان صـالحا عابـدا؛ فعظمه الناس، واغتروا به، فرحل إلى الشام، فوجد أهلهـا يـعبـدون الأوثان، فقـدم مـعـه بـ(هبل)، ووضعه في جوف الكعبة، ودعـا قريشا إلى عبادته، فاستجابت له، ثم استجاب لقريش سائر العرب.

فلما فشا الشرك وانتشر، وعظم الأمر واشتد خطره؛ بعث الله محمدا ـ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين ـ في حين فترة من الرسل، بعثه الله - سبحانه وتعالى ـ منة على هذه الأمة، ورحمة بهم، ليخرجهم من الظلمات إلى النور؛ كما قال الله - عز وجل -: «لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» [ آل عمران: 164].

بعثه الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالنذارة عن الشرك والدعوة إلى التوحيد؛ كما قال ـ جل وعلا -: «يا أيها المدثر * ثم فأنذر * وربك فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر» [المدثر: 1 - 5 ] أي: قم ـ يا محمد ـ داعيا إلى التوحيد، ناهيا عن الشرك، وكبر ربك ـ سبحانه وتعالى -، وعظمه بتحقيق التوحيد.

«والرجز فاهجر» أي: اهجر الأصنام وانبذها، واهجر أهلهـا؛ فإنهم مشركون يستحقون المفاصلة والمباينة؛ فكان منه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن دعا إلى هذا الأمر، وقرره، وبينه أوضح بيان وأكمل بيان.

ثم أكمل الله - سبحانه وتعالى ـ به الدين، وأتم الله - عز وجل ـ عليه النّعمة، وكـان مـن إكمال الـديـن لـه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أن بين لنا كل أمر يكون إلى قيام الساعة؛ لنأخذ الخير، ونجتنب الشر.

يقول أبو الدرداء ـ رضي الله عنه - : «لقد توفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومـا طـائر يقلب جناحيه في الجو إلا ترك لنا منه علما ".

وثبت عن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ صعد المنبر، وخطبهم خطبة لم يترك شيئا إلى قيام الساعة إلا وبينه لهم ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وثبت عنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أنه قال: «ما من خير يقرب إلى الجنة إلا وقد بُيِّن لكم، ومـا مـن شـر يقرب إلى النار إلا وقد بُيِّن لكم».

فتوفي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وهو تارك لنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.

وكان مما أخبرنا به ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وأطلعنا عليه: أن الشرك سوف يفشو في هذه الأمة وينتشر انتشارا عظيما؛ ففي (الصحيحين) أن النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات نساء دوس حول ذي الخلصة».

وفي (صحيح مسلم) من حديث عائشة - ـ رضي الله عنها ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ قال: «لا تقوم الساعة حتى تُعبد اللات والعزى».

ومن هنا؛ يجب على المسلم أن يحذر أشد الحذر من الإشراك بالله ــ سبحانه وتعالى ـ، وأن يجعـل نـصـب عينيـه الخوف والقلق من هذا الشرك؛ لأنه أعظم جريمة يُعصى اللهُ - سبحانه وتعالى ـ بها .

وإن مما يُعاب على أكثر الناس في هذه الأزمان: أنهم أمنوا وقوع أنفسهم في الإشراك بالله ـ سُبحانه وتعالى ـ؛ فبعضهم يظن توحيده كاملا، وهذا التوحيد سوف يمنعه من الإشراك بالله - سبحانه وتعالى ـ؛ فلا يولي الشرك بالله ـ سبحانه وتعالى ـ اهتماما.

وبعضهم جاهل لا يعرف خطورة الإشراك بالله - سبحانه وتعالى.

وإن من الأمور والوسائل التي تولج الشرك على الأمة الإسلامة ـ إن مما يولج الشرك على الأمة الإسلامية ـ الأمن من الوقوع في الشرك، ولذلك؛ يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ في النفاق: «ما أمنه إلا منافق، وما خافه إلا مؤمن» .

ويقول ابنُ أبي مليكة في النفاق ـ أيضا ـ: «أدركت ثلاثين من أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلهـم يخاف النفاق على نفسه».

ومن هنا؛ كَمُل إيمانُ الصحابة، وتم وعلا، وارتفع وصعد إلى الله ـ سُبحانه وتعالى ـ مقبولا؛ لأنهـم خـشـوا مـن الوقوع في هذا الأمر الخطير، وقرروا في أنفسهم أن وقوعهم ووقوع أمثالهم ليس بعيدا في مثـل هـذه الأمور؛ فأوجب لهم ذلك الحذر والخوف من الوقوع فيها.

أيها المسلمون:

إن إبراهيم إمام الحنفاء، الذي وصفه الله - سبحانه وتعالى ـ بصفات جليلة عظيمة؛ فقـال ــ عـز وجل ـ فيه: «وإبراهيم الذي وفى» [النجم: 37]، وجعله الله ـ عز وجل ـ إماما للناس، وأمر نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يتبع ملته الحنيفية، وأخبر الله ـ عز وجل ـ أن إبراهيم أمة لوحده، وهو الذي كسر الأصنام بيده.

إن إبـراهـيـم الـذي هـذه بعـض فـضـائله يقـول داعيـا ربـه ــ سـبحانه وتعالى ـ: «واجنبني وبني أن نعبـد الأصنام» [إبراهيم: 35].

ففي هذا الدعاء لفت نظر لكل من كان في قلبه خوف من الله ـ سبحانه وتعالى ـ، ورجـاء لمـا عـنـده مـن ثـواب الموحدين، في هذا الدعاء لفتة نظر إلى هؤلاء الناس؛ ليحذروا من الشرك كل الحذر؛ فإن إمام الحنفاء يخشاه على نفسه، فما بالك بمن دونه من الأولياء والصالحين؟! بل ما بالك بمن دونهم من العامة، أو طلبة العلم، أو العلماء؟!!

لا شك أن وجوب الحذر على هؤلاء أولى وأحوط. ولذلك؛ يقول إبراهيم التيمي ـ رحمه الله تعالى -: «ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ـ عليه السّلام ـ ؟!»

أيها المسلمون:

إننا في هذا الزمن بحاجة ماسة إلى تعلم التوحيد، وإلى الاطلاع على مسائل الشرك ووسائل الشرك؛ لأن الابتعاد عنه إنها يكمن في معرفته والإحاطة به.

ولذلك؛ يقول حذيفة: «كان الناس يسألون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عـن الخير، وكنت أسأله عـن

الشر ؛ مخافة أن يدركني" .

عرفـت الشـر لا للـشـر لـكـن لتوقيـه

من لا يعرف الـخـير مـن الـشـر يقع فيه

وفي هذه الأزمان تخرج دعوات وتجعر أصوات بعدم الاهتمام بالتوحيد، أو بتقليل شأن التوحيد من أنفس الناس، وذلك عن طريق شعارات براقة يحسبها الظمآن ماء.

فيقولون: إن الزمن زمن اعتناء بأحوال المسلمين، المسلمون يُقتلون يمينا وشمالًا وأنتم تهتمون بمسائل العقيدة، تهتمون بمسائل التوحيد، تحذرون من الشرك بالله -سبحانه وتعالى ـ، ليس هذا أوانه؛ إنـما هـو أوان الوحدة الكاملة للمسلمين عموما دون التفريق بينهم.

وهذا الخطأ ـ وإن كان قائله قد يكون مريدا للحق ـ هو خطأ محض وباطل مبين، يجب على المسلمين أن ينتبهوا له، وأن يحذروا منه أشد الحذر؛ فإن أمور التوحيد هي أهم الأمور وأجلها.

ولذا؛ فإن رسولنا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ مكث يدعو إلى الله ـ عز وجل ـ ثلاثا وعشرين سنة، منها ثلاثة عشرة سنة في مكة، منها عشر سنين يقرر (لا إله إلا الله)، ويدعو إلى (لا إله إلا الله)، ويبين معنى (لا إله إلا الله).

ففي هذا توجيه كريم إلى الدعاة ـ توجيه إليهم ـ إلى أن الاهتمام بالعقيدة أمر مهم ضروري؛ وذلك لأن الناس إذا صلحت عقائدهم؛ أمنوا الدخول في جنة الله - سبحانه وتعالى ـ مهما كثرت ذنوبهم ومعاصيهم.

أما إذا كان التوحيد مختلًا؛ فإن صاحبه على خطر عظيم، وعلى ضلال كبير مبين.

فالداعي إلى الله -سبحانه وتعالى ـ الذي يريد حقا إصلاح الأمة، ويقصد حقا الشفقة على المسلمين ـ يعتني بتصحيح عقائدهم، وبسلامة توحيدهم، كما كان النبي ـ عليه الصلاة والسّلام ـ يفعل.

فالله الله ـ أيها المسلمون ـ في تصحيح العقائد، وفي معرفة الشرك ووسائله؛ لتحذروه كل الحذر .

وتبيين التوحيد وتبيين الشرك إنما يكون بقراءة كتب أهـل الـعـلـم الـذين وضحوا هذا الأمر، وبينوه بيانـا شـافيا كافيا.

وكان عندنا العامة قبل خمسين سنة أو أكثر يحفظـون ـ وهـم لا يقرؤون ولا يكتبون ! ـ كثيرا مـن كـتـب شـيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ المختصرات، يحفظونهـا عـن ظـهـر قلـب؛ ممـا كـان لـه أثـر بـارز في حفـظ معتقدهم، وسلامة مناهجهم، وخلوهم من الإشراك والبدع، و «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم» [الحديد: ۲۱، الجمعة: 4].

فبالعلم يستطيع المسلم أن يتغلب على الجهل، وبالعلم يستطيع المسلم أن يحمي عقيدتـه مـن أن تتدنس بأوحـال الشرك وتتلطخ بأوحال البدع التي هي أعظم جرما من المعاصي لله - سبحانه وتعالى -.

فعلى العامة - فضلًا عن طلبة العلم ـ أن يحفظوا ( الأصول الثلاثة ) ـ مثلا ـ للشيخ محمـد، وأن يحفظوا ( كشف الشبهات ) له، و( كتاب التوحيد ) له؛ فإن هذه الكتب الثلاثة كفيلة لمن تعلمها وفهمها .. كفيلة ـ بأن تحفظ معتقده، وأن تجعله سالما من الإشراك بالله ـ عز وجل -.

والوصية بهذه الكتب لا لذاتها ولا لمؤلفها؛ وإنها لما قامت عليه من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة، ولما قامت عليه من الفهم الصحيح السليم لهذين الأصلين العظيمين: كتاب الله، وسنة رسوله محمد ـ صلى الله عليه وسلم ۔۔

ولا ينخدعن المسلم بشعارات براقة تدعو إلى الأخوة بمعزل عن العقيدة والتوحيـد؛ فـإن هـذه الـدعـوة ليست دعوة السلف ـ رحمة الله تبارك وتعالى عليهم أجمعين ـ، ولو أن السلف دعـوا إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بمثـل هـذه الدعوات العامة ـ الدعوة إلى الإسلام عموما؛ فكل من انضم تحت راية الإسلام فهو ولي لنا، لـو أن السلف دعـوا إلى ذلك ـ لما ردوا على المبتدعة، من الجهمية، والخوارج، والمعتزلة، والصوفية، ونحو ذلك.

فعلى المسلم أن يتحصن بهذه المعالم التي سار عليها سلفنا الصالح ـ رضي الله تبارك وتعالى عنهم ـ، وأن يجعل منهم قدوة له يسير خلفهم؛ فإنهم كما قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: «عن علم وقفوا، وعـن عـلـم نطقوا» رضي الله - تبارك وتعالى ـ عنهم أجمعين.

أيها المسلمون:

إن لتحقيق التوحيد فضلًا عظيها وأجرا كبيرا ـ دينا ودنيا ـ يعود على الفرد والمجتمع .

من ذلك: أن تحقيق التوحيد وتخليصه وتنقيته يكسب الأمة أمانا واطمئنانا؛ كما قال الله ـ عز وجل ـ: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم يظلم أوليك لهم الأمن وهم مهندون» [الأنعام: ٨٢]، والظلم في هذه الآية هـو الـشرك؛ كا فسره النبي - صلى الله عليه وسلم ـ في حديث عبد الله بن مسعود.

الأمن التام في الدنيا والآخرة مرتبط ارتباطا وثيقا بتحقيق التوحيد، وتنقيـة الأعـال مـن الإشراك بالله ــ سـبحانه وتعالى -؛ فإذا وقعت على العباد فتنة وبلية، وابتلوا بحرب وهرج ومرج؛ فإنما ذلك بسبب الإخلال بالتوحيد، وسبب فشو شيء من الشرك أو البدع أو المعاصي التي تنقص دوام التوحيد.

ومن فضائل التوحيد: أن صاحبه يدخل الجنة لا محالة مهما كثرت ذنوبه ومعاصيه؛ ولا يخفى على كثير منا حديث صاحب البطاقة، الذي جاء ببطاقـة فيهـا شـهادة التوحيد (لا إله إلا الله)، وأخرج له سبعة وسبعون سجلا مملوءة بالمعاصي والذنوب، فلما رآها انبهر وفَرَق، فقال الله - عز وجل -: «إنك لا تظلم اليوم شيئا»؛ فأخرجـت هـذه البطاقة فوضعت في كفة، ووضعت سجلاته في كفة، فطاشت السجلات وتلاشت أمام التوحيد.

ومن فضائل التوحيد: أن أصحابه هم أحق الناس بشفاعة المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ كما ثبت في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: «أحق الناس بشفاعتي من قال: (لا إله إلا الله) خالصا من قلبه».

ففضائل التوحيد ـ أيها الأحبة ـ كثيرة لا تعد ولا تحصى؛ توجب على المسلم أن يعتني به، وأن يهتم به .

ولنضرب مثلا من الأمور التي تخالف التوحيد، من الأمور الشركية شركا أصغر؛ لأن الشرك ينقسم إلى قسمين:

إلى أكـبـر قـال الله ــ سبحانه وتعالى ـ فيـه: «إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لـمن يشاء» [النساء: 48، 116]، وقال الله - عز وجل ـ فيه: «إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النّار وما للظالمين من أنصار» [المائدة: ٧٢]، وهذا كدعاء غير الله، وكالاستغاثة بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله .

أما الشرك الأصغر؛ وهو ما دون ذلك، وهو الذي لا يُخرج صاحبه من الملة الإسلامية، ولكنه على خطـر عـظـيم، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أنه لا بد أن يدخل النار، وأن يمحص بها، ثم يدخل الجنة.

فهو يخالف أهل الكبائر هنا؛ فأهل الكبائر إلى الله: إن شاء الله - سبحانه وتعالى ـ عفا عنهم، وإن شاء ـ عز وجل - عذبهم.

أما صاحب الشرك الأصغر فقد ذهب جماعة من أهل العلم ـ وهـو قـول قـوي ـ إلى أنهم لا بد أن يدخلوا النار، لكنهم لا يخلدون فيها، وبذلك يخالفون أهل الشرك الأكبر، ذهب إلى ذلك شيخ الإسلام في بعض أقواله.

ومن أمثال هذا الشرك: ما جاء في حديث عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ، وهو أنه دخـل عـلى امرأتـه ذات يوم، فوجدها قد وضعت في عنقها خيطا؛ فقال لها: «ما هذا؟!». قالت: «هـذا خيط رقي لي فيه». فغضب عبـد الله وقال: «إن آل عبد الله لأغنياء عن الشرك؛ سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك». فقالت: «إن عيني تقذف؛ فأختلف إلى فلان اليهودي، فإذا رقاها برئت». فقال لها: «إنما ذلك شيطان ينخسها حتى تقذف، فإذا رقيت عنده ـ أي عند اليهودي ـ كف الشيطان».

ففي هذا الحديث أن الرقى والتمائم والتولة شرك.

والرقى هي الرقى الشركية التي تشتمل على دعاء غير الله ـ سُبحانه وتعالى ـ، والاستعانة بمـن سـواه، كدعاء الجن، ودعاء الصالحين، ودعاء الأموات عموما، ودعـاء الملائكة، ودعـاء الأنبياء، ونحو ذلك، وهـذا الـدعاء شرك أكبر؛ فالرقى الشركية إذا اشتملت على هذا الدعاء فإن القائل بهذه الرقية المتلفظ بها مشرك شركا أكبر؛ لأنه تلفظ بالكفر.

فالرقى الشركية هي ما اشتملت على الإشراك بالله - عز وجل -، فإن كـان شركا أكبر؛ فصاحبها خارج مـن الملة، وإن كان شركا أصغر؛ فصاحبها لا يخرج من الملة.

أما الرقى التي تكـون مـشتملة على الأدعية النبوية والأذكار النبوية فهذه لا شيء فيها.

ولذلك؛ لـمّـا عـرض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمـرهـم عنـدمـا كانوا يسترقون في الجاهلية، فقال: «لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا».

والرقية الشرعية هي ما اشتملت على أمور:

الأمر الأول: أن تكون بكلام الله - سبحانه وتعالى -، أو بأسمائه، أو بصفاته.

والأمر الثاني: أن تكون باللسان العربي؛ لكي يفهم معناها، وإذا فهم معناهـا استطاع الفـاهـم أن يميـز هـل هـذا شرك أم ليس شركا.

والأمر الثالث: أن لا يعتقد التأثير فيها بذاتها؛ وإنما تؤثر بقوة الله سبحانه وتعالى ـ وبأمره ـ عز وجل -.

فهذه هي الرقى.

أما التمائم فهي معروفة مشهورة، وهي شركية، إلا ما كان منها من القرآن؛ فإنه بدعة منكرة، لا يجوز لمسلم أن يفعلها، والتمائم هي شيء يكتبونه من الأذكار الشرعية، ويلفونه في جلد، ويضعونه على صدورهم، أو في ثيابهم، أو نحو ذلك؛ يزعمون أنه يقي من العين، وأكثر ما يفعل ذلك مع الصبيان.

فهذه التمائم شرك؛ لأن القلب يتعلق بها من دون الله - سبحانه وتعالى -، وإذا تعلق بها القلب فقد أشرك مع الله - سبحانه وتعالى ـ غيره.

لكن ـ كما قلنا ـ إن كانت هذه التمائم من القرآن فإنها بدعة لا يجوز للمسلم أن يضعها وليست شركا؛ کما قـال إبراهيم النخعي - رحمه الله ـ: «كانوا ـ أي: أصحاب عبد الله بن مسعود ـ يكرهون التمائم من القرآن ومن غيرها».

أما التولة فهي التي اشتهرت الآن وانتشرت بين النساء، يزعمون أن هذه التولة تحبب المرأة إلى زوجها، وتحبب الزوج إلى امرأته، وهي ما يسمى بالصرف والعطف ونحو ذلك.

وهذا إنما يؤخذ عن السحرة والكهان والمنجمين الذين ورد ذمهم في الشرع، وحذرنا منهم النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال فيما ثبت عنه: «من أتى كاهنا أو عرافا فسأله فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد ـ صلى الله عليه وسلم -».

فهذه أمثلة ـ أيها الأحبة ـ للشرك الأكبر والشرك الأصغر تدل على ما وراءها؛ فعلى المسلم أن يكون جاهدا في معرفة ذلك، حريصا على الإلمام به، ولو كان عاميا، ولو كان عاديا، ونحو ذلك.

نسأل الله - سبحانه وتعالى ـ أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه، وأن يحفظ علينا عقيدتنا وتوحيدنا من كل شائبة، من شائبة المعاصي والبدع والكفر والفسوق، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وبالله التوفيق.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد...