الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما مزيداَ.
أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، واعلموا أن التقوى نجاتكم يوم ينصب الصراط، قال الله جلّ وعلا: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)}
عباد الله: أمر الله عزّ وجل بتعظيم شعائره، والوقوف عند حرماته، قال الله جلّ وعلا: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ} [ الحج: 32] وقال جل وعلا: {ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ}[ الحج: 30].
ألا وإن من شعائر الله تعالى العظيمة هذه المساجد التي أضافها الله جل وعلا إلى نفسه إضافة تشريف وتعظيم قال الله جلّ وعلا: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّه أَحَدًا } [ الجن: 18] ولذلك المساجد عباد الله لها من الأحكام والأداب الشئ الذي جاء في كتاب الله وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
فالمساجد هي بيوت الله جل وعلا ومما يدل على أهميتها ومكانتها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما هاجر من مكة إلى المدينة كان أول شيئ فعله بناء المسجد مما يدل على أهميته ومنزلته ومكانته عند الله رب العالمين؛ ولذلك يقول ربنا جل وعلا: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37)}[سورة: النور].
وقد شهد الله جل وعلا بالإيمان لمن أعمر المساجد، قال الله جلّ وعلا: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر}
[التوبة: 18].
ولتعلموا عباد الله:
أن عمارة المسجد على قسمين وضربين ونوعين:
1) عمارة حسية بالبناء والرفع والتشييد وفي هذا فضل عظيم فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من بنَى مسجدًا للهِ كمَفحَصِ قَطاةٍ أو أقل بنَى الله له بيتًا في الجنَّة)) [رواه ابن ماجه].
2) وأما العمارة المعنوية فعمارتها بالصلاة وبقراءة القرآن وبذكره جل وعلا وبالاعتكاف وبالتردد على المساجد، وغير ذلك مما جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك المساجد لها قدسية في دين الإسلام ولأجل هذا جاءت الأحكام الشرعية التي تشير إلى عظمة المسجد وإلى مكانة المسجد فالأصل في المسلم إذا ذهب إلى المسجد أو غدا أو راح فإنه يستعد لذلك بالوضوء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم حث المسلم أن يتوضأ في بيته إذا عمد إلى المسجد يريد الصلاة، وفي هذا أجراٌ عظيم، وثواب كبير.
فأنت أنت في صلاة ما انتظرت الصلاة، ومنذ اللحظة التي خرجت فيها من بيتك عامدا إلى بيت من بيوت الله عز وجل فأنت في صلاة، كل خطوة تخطوها يكفر الله جل وعلا عنك بها سيئة ويرفع لك بها درجة.
كذلك عباد الله بين النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي قلبه معلق بالمساجد من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ: وذكر منهم : ورَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسَاجِدِ،))[رواه البخاري] فمن تعلق قلبه في بيوت الله عز وجل دل ذلك على صحة إيمانه وسلامة يقينه وعلى محبته لربه؛ لأنه أراد هذه الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه.
كذلك عباد الله: يشرع للإنسان إذا دخل بيت الله عز وجل أن يدخله بهذا الدعاء ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك)) وإذا خرج قال: ((بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك)).
وقد ثبت عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يدخلون بالرِّجل اليُمنى ويخرجون باليسرى اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي قالت عائشة رضي الله عنها: (( كان يعجبه التيامن)) يعني إستعمال اليمين ((كان يعجبه التيامن في تنعله وفي ترجله وفي طهوره وفي شأنه كله)) صلى الله عليه وسلم.
كذلك عباد الله: من السنة إذا دخل المسلم المسجد أن يُسلم فلقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُسَلَّم عليه وهو في الصلاة وكان يشير بيديه أو بإصبعه صلى الله عليه وسلم؛ فإن السلام لا يقتصر فيه على المجالس فقط وإنما المساجد، فمن دخل المسجد سلم وإذا رد واحد سقط الوجوب عن الجميع لأن رد السلام من فروض الكفايات.
كذلك عباد الله: من آداب المساجد وأحكامها، أن الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة فدخل صحابي اسمه (سُليك الغطفاني) فجلس فقطع النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة وقال: (( صليتَ ركعتين؟ )). قال: لا قال: (( قم فصل ركعتين وأوجز فيهما )) فلا يقعد المصلي، إذا أراد القعود حتى يصلي ركعتين.
كذلك عباد الله: المساجد لها حرمة فلا ينبغي للإنسان أن يرفع صوته في المساجد ولو كان بقراءة القرآن، يقول الله جل وعلا: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا}[الإسراء: 110] قال أهل العلم: ولا تجهر بصلاتك يعني بقرائتك فلا يجهرنَّ أحدٌ على أحد بقراءة القرآن يشوش عليه، وإنما يقرأ قراءة معتدلة، فقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم المسجد فسمع عمر بن الخطاب يرفع صوته بالقراءة فقال له: (( اخفض صوتك قليلا )) ثم سمع أبابكر يقرأ قراءة خافتة فقال: (( ارفع صوتك قليلا )) وحتى يكون التوسط والاعتدال {وابتغِ بين ذلك سبيلا}.
فإذا كان المسلم أيها المؤمنون ممنوع من رفع الصوت بالقرآن مشوشاً على الآخرين فكيف بالذي يرفع صوته في أمور الدنيا؟! كيف بمن يرفع صوته بأمورٍ ليست هي من الأمور المشروعة؟ ألا فليتق الله أولئك النفر الذين جعلوا المساجد محلا للقيل والقال، وللغيبة ولفضول الكلام.
وإن مما يزعج ما عليه أحوال الكثير من المُصلين الذين يصطحبون هواتفهم فيتركونها مفتوحةً ولربما صدر صوتٌ -وهو يظن أنه لا أحد يتصل عليه-، يصدر صوتٌ فيه نغمة موسيقى تزعج المُصلين، وتتنافى مع أحكام وأداب المساجد.
ألا فلتتقوا الله يا عباد الله، ومن أبى إلا أن يصطحب محموله، عليه أن يقفله أو يجعله على الصامت، وأن يغير تلك النغمة التي لا تتناسب ولا تتفق مع ما جاء عن نبينا صلى الله عليه وآله وسلم.
كذلك عباد الله: ينبغي للإنسان أن يحافظ على نظافة المسجد، ذلك أن المساجد يُشرع الإنسان أن ينظفها، وأن لا يكل الأمر فقط إلى خادم المسجد أو العامل في المسجد، بل جميعنا مسؤولون عن نظافة المسجد، فمن وجد شيئا حمله في جيبه أو في كُمه وخرج به أو وضعه في سلة المهملات، التي في آخر المسجد .
ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لإمرأة سوداء أن تقطن المسجد وأن تسكنه لأنها كانت تنظف المسجد، فنظافة المسجد مسؤولية كل مصلٍ، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما دخل مسجداً من مساجد المدينة وجد نخامة في قبلة المسجد فتغيظ وغضب وقال: (( من فعل هذا؟ )) . قالوا: (( من يصلي بنا )). فعزله النبي عليه الصلاة والسلام وقال: (( لا يصلي لكم )) ثم ذهب ونظفها بيده الشريفة صلى الله عليه وسلم، بعود بيده يحكها ثم أتى له أحد الصحابة به شيء من الخلوق يطيب به جدار المسجد.
ولذلك نظافة المساجد مسؤلية كل أحد، فإذا كانت النظافة مسؤولية كل أحد فقولوا لي بربكم أيها الشيب والشباب، ما الشأن في إنسان مهمل غير مبالٍ هكذا ربما دنس المسجد بطريقة يعني قد تكون غير مقصودة، حينما يأتي بثيابٍ دنسة أو يأتي بقدمين ملتخطين فيدنس سجاد المسجد، أو بغير ذلك من الأمور، نسأل الله أن يعيننا وإياكم على كل خير .
الحديث له تتمة أكمله في خطبتي الثانية أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى وصلى الله وسلم وبارك على النبي المصطفى وعلى من بأثره اقتفى إلى يوم الحشر والمُنتهى أما بعد:
فاتقوا الله يا عباد الله واعلموا أن من آداب المساجد: أن يتطيب الإنسان وأن يتجمل بلبس أحسن الثياب حينما يقدم على بيت الله عز وجل، يقول الله عز وجل: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}[ الأعراف: 31] قال العلماء: عند كل صلاة.
ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يتطيب بأحسن الطيب ويلبس أجمل الثياب إذا عمد إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
ومما يؤسف له ما عليه أحوال كثير من الناس من الاستهانة بهذا الأمر، فيأتون بملابس رثة أو بملابس متسخة أو بملابس وقمصان عليها شيء من التَصَاويرِ والألوان يشغلون عباد الله عز وجل.
فهل هذا يليق بمقام بيت الله عز وجل؟ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم حث المسلم أن يتخذ ثوبين، ثوب لمهنته وثوب لمسجده حينما يذهب إلى الصلاة.
وإن الناس لا يمكنُ أبداً أن يستقبلوا ضيوفهم أو أن يواجهوا الوجهاء بمثل هذه الملابس الرثة أو التي لا تليق عرفاً في التعامل مع الآخرين فكيف بالتعامل مع رب العالمين.
ألا فليتقِ الله أولئك النفر الذين يأتون المساجد بمثل هذه الثياب أو بمثل هذه القمصان التي لا تليق بمقام المسجد ولا بمقام الصلاة.
كذلك عباد الله: من الناس من لا يبالي بقضية الروائح الكريهة، فإن كثيراً من المصلين يجئرون إلى الله جل وعلا من أحوال كثير من الناس الذين يأتون بروائح كريهة تكون سبباً من أسباب انزعَاجهم ومن أسباب ذهاب الخشوع عنهم بل من نفرتهم من بعض بيوت الله عز وجل.
إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم منع من أكل ثوما أو بصلا أو كراتاً أن يقرب المسجد فكيف بمن يأتي بمثل هذه الروائح المستقبحة المستكرهة الممجوجة كيف يأتي بها ويصلي بين الناس يؤذي عباد الله ويؤذي ملائكة الله عز وجل فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أكل بصلا أو ثوما فلا يقربن مصلانا؛ فإن الملائكة تَتَأَذَّى مما يَتَأَذَّى منه بنو آدم)).
فالله الله عباد الله: بإزاحة الأذى المعنوي والحسي عن المساجد، قال صلى الله عليه وسلم: ((إن هذه المساجد لا تَصْلُحُ لشيء من هذا البَول ولا القَذَر، إنما هي لِذِكْر الله والصلاة)).
كذلك عباد الله من الناس من يأتي المسجد متأخراً وربما تخطى الرقاب وآذى عباد الله عز وجل.
ولذلك النبي عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر رأى رجلا من أصحابه يتخطى الرقاب فقطع الخطبة وقال له: (( اجلس، اجلس فقد آذيت وآنيت )) آذيت برفع رجلك عل رقبة المصلي وآنيت يعني: تأخرت عن الصلاة؛ ولذلك العلماء نصوا على كراهية تخطي الرقاب إلا لمن أراد أن يسد فرجةً في الصف الأمامي فإن من خلْف هذه الفرجة سقط حقه في مثل هذا.
كذلك عباد الله: حثنا النبي عليه الصلاة والسلام على أمر وهو غاية في الأهمية ألا نجعل المسجد للصلاة فقط، نعم هو الأصل والأساس وهو الغاية والمراد لكن هناك أعمال كثيرة وعبادات جليلة في بيت الله عز وجل من قراءة القرآن ومن ذكر الله ومن حضور حِلق العلم ودروس الذكر ومن المُكثِ واللُبثِ والاعتكاف في بيت الله عز وجل.
هذه المساجد هي خير البقاع وأحبها عند الله عز وجل، هذه المساجد هي الأمكنة التي لا يمكن أن يُعصى فيها الله عز وجل بخلاف بقية الأماكن، هذه المساجد هي للصلاة وذكر الله وقراءة القرآن وحِلق العلم ودروس الذكر.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يألف المسجد وأن يستوطن المسجد وأن يُعلِّق قلبه في المساجد.
والنبي عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر قال: (( أرحنا بها يا بلال أرحنا بها يا بلال )) ويأتي إلى المسجد صلى الله عليه وسلم.
ولذلك تجد كثيراً من المسلمين ليس للمسجد عندهم قيمة ولا منزلة لماذا؟ لأنه يؤدي الواجب، يأتي متأخراً ويخرج مع السرَعان الذين يبادرون بالخروج بمجرد سلام الإمام، أما من قلبه معلق بالمساجد فيشعر بأن هذا المسجد هو المكان الدافئ وهو الحصن الذي يلتجئ إليه هارباً من أزاماته، ومبتعداً عن مشاكله وقضاياه، يلجئ إلى بيت الله سبحانه وتعالى.
المساجد محفوظة بملائكة الله تشهد الصلاة، وتشهد مجالس العلم فالله الله عباد الله أحيوا رسالة المسجد، وأقيموا هذه الحقوق التي ذكرت جزءاً يسيراً منها، وذلك لإقتضاءِ المقام، فالمقام مقام اقتضاب وليس مقام استطراد.
هكذا عباد الله ينبغى للمسلم أن يتعامل مع بيوت الله سبحانه وتعالى وإن كان من تنبيه فأنبه إخواني المصلين إلى من أوقف سيارته مثلا وجاء متأخراً أمام باب جارٍ من جيران المسجد أن ينتبه من عدم التأخر بعد ذلك لأن هذا قد يؤذي الجيران.
فإذا أردت أن تصلي السُنة بعد صلاة الجمعة مثلا فصلِها في بيتك فإنها خير لتجمع بين المصلحتين والمنفعتين والحُسنَيين، ترفع الأذى عن الجار وتحقق ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم من قوله: (( خير صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة ))
الدعاء ...