فضل الاستقامة على الطاعة

الشيخ علي عبدالرحمن الحذيفي

الخطبة الأولى:

الحمد لله العزيز الغفور، الحليم الشكور، أحمدُ ربي وأشكُره، وأتوبُ إليه وأستغفِرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله العليمُ بذات الصدور، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى كل عملٍ مبرور، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.

أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى؛ فمن اتَّقى الله وقاه، ومن توكَّل عليه كفَاه.

عباد الله: فاز المُعتبِرون، ونجا المتقون، وخابَ الغافِلون المُعرِضون. لكم في انقِضاء رمضان المُبارَك أعظم العِبر، وأبلغ المواعِظ؛ فقد طُوِيَت صحائِفُه بما فيها، وحفِظَت أيامُه ما استُودِعَ فيها، ولن يعودَ يومٌ مضَى إلى يوم القيامة.

فمن وفَّقه الله فيه فليحمَد الله على الطاعات، والحفظِ من المُحرَّمات، وليُداوِم على الاستِقامةَ؛ فإن الاستِقامة أعظمُ كرامة. من داومَ عليها حفِظَه الله من المُهلِكات، وسبقَ في الآخرة إلى الجنات، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13، 14].

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30- 32].

قال أهلُ العلم: "الاستقامة تتضمَّنُ أبوابَ الدين كلِّها، ويدخلُ فيها كل أمرٍ ونهيٍ؛ فهي تشملُ جميعَ الطاعات، ومُجانبَة كل المُحرَّمات".

ولما سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُفيانُ بن عبد الله عن وصيَّةٍ جامعةٍ، وقولٍ يجمعُ له الدين، أوصَاه بالاستِقامة؛ فقد روى مسلمٌ من حديثِه قال: قلتُ: يا رسولَ الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسألُ عنه أحدًا غيرَك. قال: «قُل: آمنتُ بالله، ثم استقِم».

ولعِظَم مكانة الاستقامة أمرَ الله بها رسولَه - صلى الله عليه وسلم -؛ شُكرًا على نعمة النُّبوَّة، وسُنَّة قدوةٍ يقتدِي بها أتباعُه، قال الله تعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112].

وأفضلُ أحوال العبد: الاستقامة؛ حيث يُتبِع الحسنات الحسنات، ويكُفُّ عن السيئات، وهذه درجةُ السابقين إلى الخيرات، قال الله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 10- 14]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [محمد: 17]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 60، 61].

وفسَّر هذه الآيةَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة - رضي الله عنها -، بأن هؤلاء الذين يعملون الحسنات ويخافون ألا تُقبَل منهم.

وأوسطُ أحوال العبد: أن يُتبِعَ السيئةَ الحسنة، بالتوبة، وبما يُكفِّرُ الذنوبَ من العمل الصالِح، قال الله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ) [هود: 114].

وفي حديث مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «اتقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالِقِ الناسَ بخُلُقٍ حسن».

وأسوأُ أحوال العباد: الانقِطاعُ عن الأعمال الصالِحات، ومُقارفَة المُحرَّمات، قال الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ) [محمد: 25].

وقد أمرَ الله بالمُحافظة على العمل الصالِح، قال الله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وقال تعالى: (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 99]، قال المُفسِّرون: "دُم على عبادة الله حتى يأتيَك الموتُ".

ونهَى ربُّنا - تبارك وتعالى - عن إبطالِ الأعمال الصالِحة بما يُفسِدُها، أو يُنقِصُ ثوابَها، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[محمد: 33]. قال أبو العالِية: "كان أصحابُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرَون أن يُبطِلَ العملَ ذنبٌ، فلما نزلَت هذه الآية خافُوا أن تُبطِلَ الذنوبُ الأعمالَ".

وقد كان عدوُّنا إبليس في شهر رمضان مع مرَدَة الشياطين مأسُورين، ولم يتمكَّنُوا فيه أن يصِلُوا إلى ما يُريدون، ويُريدون بعد رمضان أن ينالُوا ما يُحبُّون من الغوايةِ في الأمة. فرُدُّوهم مدحُورين خاسِرين، بالتوكُّل على الله، وتوحيدِه، والدوام على عبادتِه.

ومن فاتَه في رمضان من الأعمال، وقارفَ شيئًا من المُحرَّم والغواية والضلال، فقد فتحَ الله بابَ التوبة لعباده في رمضان وفي غير رمضان، قال الله تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)[طه: 82].

ولا تفتُروا عن الاستِكثار من الخير، ولا يحقِرنَّ أحدٌ الذنبَ مهما صغُر، فإنه محفوظٌ، وله طالِبٌ يُعاقِبُ به.

قيل لبشرٍ الحافيِّ: "إن قومًا يجتهِدُون في رمضان، فإذا ذهبَ تركُوا! قال: "بئس القوم! لا يعرِفون الله إلا في رمضان".

ولا تغترُّوا - عباد الله - بالأمل، ولا تُعوِّلوا على فُسحة الأجل، وكما مضَى رمضان وما قبلَه من الأيام، ستمضِي بعدَه الشهورُ والأعوام. فاسعَوا للآخرة سعيَها؛ تدخُلوا الجنةَ دارَ السلام.

فالحياةُ الدنيا ليست بدار مُقام؛ بل هي وشيكةُ الزوال .. فدُوموا على التفكُّر في هلاك الأجيال بعد الأجيال، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المُرسلين وقولِه القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي وفَّق من شاءَ لطاعته، وخذلَ من شاءَ بعدلِه وحكمته، أحمدُ ربي على نعمه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماءُ الحُسنى، وأشهد أن نبيِّنا وسيِّدنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُجتبَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمد، وعلى آله وصحبه أولي العلم والتُّقَى.

أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فما شقِيَ بطاعة الله أحد، ولا سعِد بمعصية الله أحد. واعلموا أن العُمر يومٌ بعد يوم حتى تصيرَ إلى الأجل المعلوم، والقضاء المحتُوم الذي لا يتقدَّم ولا يتأخَّر.

فالمُحسِن عند الموت يفرحُ بلقاء الله بما قدَّم، فيحبُّ الله لقاءَهن ويُثيبُه على عمله أعظمَ الثواب، والمُفرِّطُ يكرَه لقاءَ الله؛ لما عملَ من القبائِح، وضيَّع من الفرائض، فيكرهُ الله لقاءَه، ويُعاقِبه على أعماله، قال الله تعالى: (وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق: 19- 22].

ومن رحمة الله بنا أن بيَّن لنا ما ننالُ به رِضاه؛ فما من فريضةٍ إلا شرعَ أمثالَها تطوُّعًا؛ لننجُوَ من نارٍ حرُّها شديد، وقعرُها بعيد، ولنفوزَ بجنَّةٍ لا يفنَى نعيمُها ولا يَبيد. وفي الحديث: «من صامَ رمضانَ وأتبعَه ستًّا من شوال فكأنما صامَ الدهرَ كلَّه»؛ رواه مسلم.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»، فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين وإمام المرسلين.

اللهم صلِّ على محمدٍ ...