الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْد:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ((١٠٢)) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ((٧٠)) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
عِبَادَ اللهِ:
إن الله سبحانه وتعالى بِحِكْمَتِه ورحمتِه وفَضْلِه اخْتَار لَنَا هَذَا الدِّين الذى هُو خَاتِمَةُ الشَّرَائِع.
قَــال تَعَــالَى: ﴿هُو اجْتَبَاكُمْ ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: ٧٨]، وقَال تَعَالَى: ﴿وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢].
وَاخْتَار لَنَا صَفْوَةَ خَلقِه وخِيرَةَ أنْبيائِه ورُسُله محمدًا صلى الله عليه وسلم، يُعَلِّمُنَا الْكِتَاب والْـحِكْمَةَ ويُزَكِّينَا، قَال تَعَالَى: ﴿هُو الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ ويُزَكِّيهِمْ ويُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ والْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: ٢].
بَيْت اللهِ الْـحَرام أفْضَلُ الْبِقاع وأَشْرَفُهَا:
وَكَمَا اختَار الله سُبْحَانَه مِنَ الأمُمِ والنَّبِيّ صلى الله عليه وسلم اخْتَار مِنَ الْأَمَاكِن أَشْرَفَهَا ومِنَ الْبِقاع أَفْضَلَهَا بَيْتَ الله؛ هُو مُلْتَقَى جُمُوعِ الْـمُؤْمِنِين وقِبْلَةُ جَمِيع الْـمُسْلِمِين، تَتَوَجَّه إِلَيه الْـقُلُوب الْـمُؤْمِنَة، وتَفِد إِلَيه الْأَنْفُسُ الْـخَاضِعَةُ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ؛ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، إِنَّه الْأثَرُ الْـخَالِدُ والشَّاهِدُ الدَّائِمُ لِلْـحَنِيفيَّة السَّمْحَةِ؛ رَفَع قَوَاعِدَهُ إبْرَاهِيمُ الْـخَلِيلُ وابْنُه إِسْمَاعِيلُ عليهما السلام، ومَا بَرِح هَذَا الْـبَيْتُ الْـعَتِيقُ شَامِخَ الْـبُنْيانِ ثَابِتَ الْأَرْكَانِ في مَنْعَةٍ مِن الله وأمَانٍ، يَقُوم بِقِيَامِه رُكْنٌ مِن أَرْكَان الْإِسْلامِ، ويَتَنَافَسُ الْـمُسْلِمُونَ في بُلُوغِ رِحَابِه، ويَتَمَثَّلُ التَّوْحِيدُ في جِوَارِه؛ لِأَنَّه بُنِيَ عَلَى ذَلِكَ، يَقُولُ سبحانه وتعالى: ﴿وإِذْ بَوأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْـبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا﴾ [الحج: ٢٦].
ضَمَانٌ للرِّزْقِ وأَمَانٌ مِنَ الْـخَوْفِ:
وَلَقَدْ جَمَع اللهُ سبحانه وتعالى لِهَذَا الْـبَيْتِ وأَهْلِهِ وقاصِدِيهِ مَزِيَّتَيْن عَظِيمَتَيْن مِنْ أَسْبَاب السَّعَادَةِ والطُّمَأْنِينَة؛ ضَمَانَ الرِّزْقِ، والْـأَمِنَ مِنَ الْـخَوْفِ، قَال تَعَالَى: ﴿فَلْـيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْـبَيْتِ ٣ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش: ٣ – ٤]، وَقَال جَلَّ وعَلا: ﴿أَولَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا﴾ [القصص: ٥٧].
فَهُو آمِنٌ يَأْمَن النَّاسُ فِيه عَلَى أَرْواحِهِم ومُمْتَلَكَاتِهِم وأَعْرَاضِهِم، حَتَّى مِنَ اللَّفْظ الْـفَاحِشِ؛ يَقُول الله تَعَالَى: ﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولَا فُسُوقَ ولَا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٧].
وَيَقُول جَلَّ وعَلا: ﴿ومَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْـحَادٍ بِظُلْـمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الحج: ٢٥]، بَل لَم يَقِف هَذَا الْـأَمْنُ والرَّحْمَةُ عِنْد حُدودِ الْإِنْسانِيَّةِ فَحَسْبُ؛ بل تجاوزَ إِلَى الطُّيُورِ والْـحَيَوَانَاتِ والْـأَشْجَارِ، قَال صلى الله عليه وسلم في الْـحَديثِ الصَّحِيحِ: (لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا ولاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، ولاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا)، وهَذَا مِن عَظَمَةِ هَذَا الدِّين الْـقَوِيم الذى هُو الصِّرَاط الْـمُسْتَقِيمُ، ولَا تزَال قَضِيَّةُ أَصْحَابِ الْـفِيلِ الَّتِي أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا سُورَةً كَامِلَةً، تُتْلَى إِلَى يَوْمِ الْـقِيَامَة شَاهِدَةً عَلَى حُرْمَةِ هَذَا الْـبَيْتِ وعَظَمَتِهِ ودَليلًا عَلَى حِفْظِ الله لَه وعُقُوبَتِهِ الشَّدِيدَةِ لِـمَنْ أرَادَ بِه سُوءًا.
عَلاقَةُ التَّوْحِيد بِالْـبَيْتِ الْـعَتِيقِ، وأيضًا بِالْـحَجِّ:
إِنَّ هَذَا الْـبَيْتَ الْـعَتِيقَ هُو قَاعِدَةُ التَّوْحِيدِ؛ قَام عَلَيهَا بِنَاؤُهُ؛ لِيَبْقَى بِإِذْنِ الله رَمْزًا لِلْـمُوَحِّدِينَ إِلَى أَن يَرِثَ اللهُ الْـأرْضَ ومَنَ عَلَيْهَا، يَتَجَسَّدُ هَذَا التَّوْحِيدُ في كُلِّ حِكْمَةٍ مِنْ حِكَمِ الْـحَجِّ؛ فَالْـمُسْلِمُونَ يَتَّجِهُونَ فِيه إِلَى ربٍّ واحِدٍ، وقِبْلَةٍ واحِدَةٍ، وعَمَلٍ قَائِمٍ عَلَى التَّوْحِيدِ، فَمِنْ حِينِ يَقْصِدُ الْـمُسْلِمُ الْإِحْرَامَ يُصَرِّحُ بِمَبْدَأِ التَّوْحِيدِ الْـخَالِصِ، «لَبَّيْكَ اللهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لَكَ والمُلْـكَ، لا شَرِيكَ لَكَ»، اسْتِجَابَةً للهِ ولِذَاتِهِ، ونَفْيًا لِلشَّرِيكِ عَنْهُ.
وَحَيْثُمَا يَطُوفُ بِالْـبَيْتِ ذاتِه يَسْتَشْعِرُ أَنَّ هَذَا بَيْتُ اللهِ، وأَنَّ الْـعِبَادَةَ لَهُ وحْدَهُ، وحينما يُصَلِّي خَلْـفَ الْـمَقَامِ يَقْرَأُ في رَكْعَتَيِ الطَّوَافِ سُورَتَيْ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْـكَافِرُونَ﴾ [الكافرون: ١]، و﴿قُلْ هُو اللَّهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: ١].
وَحَيْثُ يَقِفُ بِعَرَفَةَ يَشْغَلُ وقْتَهُ بِخَيْرِ الدُّعَاءِ وخَيْرِ مَا قَالَه النَّبِيُّونَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْـكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وفي أيَّامِ التَّشْرِيقِ كُلُّ الْـأَعْمَالِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الْـحَاجُّ إِنَّمَا هِي لِإقامَةِ ذِكْرِ اللهِ، قالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ: (إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوافُ بِالْـبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفَا والْـمَرْوةِ ورَمْيُ الْـجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ)، يَرْمِي الْـحاجُّ الْـجِمَارَ فَيُكَبِّرُ مَع كُلِّ حَصَاةٍ، وكُلُّ هَذِه الْـأَعْمَالِ تُؤَكِّدُ أَنَّ الْـعِبَادَةَ لَهُ وحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
هَدْمُ الإِسْلَامِ لِكُلِّ صُورِ الشِّرْكِ:
لَقَدْ كَانَ أهْلُ الْـجَاهِلِيَّةِ يَعبُدُونَ الصُّوَرَ والْأَحْجَارَ الَّتِي نَصَبُوهَا حَوْلَ الْـكَعْبَةِ وفي أَطْرافِ مَكَّةَ يُعَظِّمُونَهَا مِنْ دُونِ اللهِ، ويَسْجُدُون لَهَا، وكَانَ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إبْرَاهِيم الْـخَلِيلِ، وجَلَـبَ تِلْـكَ الْأَوْثَانَ إِلَى جَزِيرَةِ الْـعَرَبِ وسَيَّبَ السَّوَائِبَ لِلْأَصْنَامِ عَمْرَو ابن لُحَيٍّ الخُـزَاعِيَّ، فَعَاقَبَهُ اللهُ عُقُوبَةً أَخَبَر بِهَا الصَّادِقُ المَصْدُوقُ صَلَوَات اللهِ وسَلَامُهُ عَلَيه حَيْثُ أَخَبَر أَنَّهُ رَآهُ في النَّارِ يَجُرُّ قُصْبَهُ، يَعْنِي: أَمعَاءَهُ جَزَاءً لَه.
وَبَعَثَ اللهُ مُحَمدًا صَلَوَاتُ اللهِ وسلامُهُ عَلَىْهِ؛ لِيَدْعُوَ إِلَى التَّوْحِيدِ الْـخَالِصِ، ويَهْدِمَ كُلَّ صُوَرِ الشِّرْكِ، ويَمْنَعَ الْـمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْـبَيْتِ الْـحَرامِ، قَال تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْـمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْـمَسْجِدَ الْـحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
وبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ في الْـعَام التَّاسِع مِنَ الْـهِجْرَةِ لِلْـحَجِّ، ثُمَّ أَتْبَعَهُ عَلِيًّا رضي الله عنهما، وأَمَرَ أن يُنَادَى في النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: (أَلَّا يَحُجَّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولاَ يَطُوفَ بِالْـبَيْتِ عُرْيَانٌ).
أَحْجَارُ الْـكَعْبَةِ لَا تَنْفَعُ ولَا تَضُرُّ:
وَمَعَ هَذِهِ الْـمَكَانَةِ العُظْمَى لِلْـبَيْتِ الْـعَتِيقِ وعُلُوِّ شَأْنِه إلَّا أَنَّهُ أَحْجَارٌ لَا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ، وبَعْضُ الْـمُسْلِمِينَ مَع غَلَبَةِ الْـجَهْل يَظُنُّ أَنَّ لِهَذِهِ الْـأَحْجارِ مَزِيَّةً عَلَى غَيْرِهَا، ويُظَنُّ أَنَّ أَحْجارَ الْـكَعْبَةِ وجُدْرَانَهَا لَا سِيِّمَا الْـحَجَرَ الْـأسْوَدَ سَبَبٌ لِلْـبَرَكَةِ أَو وسِيلَةٌ لِلنَّفْعِ والضُّرِّ، وهَذَا الظَّنُّ مِنْ قَوادِحِ الْـعَقِيدَةِ، وقَدْ قَالَ الْـفَارُوقُ عُمَرُ ابن الْـخَطَّابِ رضي الله عنه وهُو يُقَبِّلُ الْـحَجَرَ الْـأسْوَدَ: (وَاللهِ، إِنِّي لَأُقَبِّلُكَ، وإِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وأَنَّكَ لَا تَضُرُّ ولَا تَنْفَعُ، ولَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْـتُكَ).
لاَ يَتَعلَّق قَلبُك إِلَّا بِالله:
فَالْـمُسْلِمُ يُعَمِّرُ قَلْـبَهُ بِالتَّوْحِيدِ، ولَا يَلْـتَفِتُ إلَّا إِلَى اللهِ، ولَا يَتَعَـلَّقُ قَلْـبُهُ إلَّا بِاللهِ عز وجل فَمَا الْـحَجَرُ الْـأسْوَدُ إلَّا مَوْضِعُ الْـابْتِداءِ ونُقْطَةُ التَّمْييزِ في هَذَا الْـبِنَاءِ؛ يَكُونُ عِنْدَهُ تَجْدِيدُ الْعَهْدِ مَعَ اللهِ عَلَى الْإيمَانِ والتَّصْدِيقِ، فَيَقُولُ الْـمُسْلِمُ حِينَمَا يَشْرَعُ في الطَّوَافِ: اللهُمَّ إيمَانًا بِكَ لَا بِالْـحَجَرِ الْأسْوَدِ وتَصْدِيقًا بِكِتَابِكَ لَا بِالْـخُرَافَةِ والْـوَهْمِ، ووَفَاءً بِعَهْدِكَ؛ وهُو التَّوْحِيدُ الْـخَالِصُ لَا الشِّرْكُ، واتِّبَاعًا لِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وهُو الَّذِى حَطَّمَ الأوْثَانَ.
إِنَّ إِقَامَةَ التَّوْحِيدِ الْـخَالِصِ وتَنْقِيةَ الْـعِبَادَةِ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ مِنْ أَهَمِّ مَقَاصِدِ الْـحَجِّ وحِكَمِهِ وأَسْرَارِهِ الْـبَالِغَةِ؛ يُدْرِكُ ذَلِكَ مَنْ قَرَأَ حَجَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وعَاشَ مَعَهُ في كُلِّ جُزْئِيَّةٍ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْـحَجِّ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لِلَّـهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وبَعْدُ:
حِكَمُ وأَحْكَامُ الْـحَجِّ:
أَيُّهَا المُسْلِمُون:
للحَجِّ حِكَمٌ وأَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ومُتَنَوِّعَةٌ ومُتَعَدِّدَةٌ ويُمْكِنُ أَنْ نَأْتِي عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا؛ فَمِنْهَا: الْـعُبُودِيَّةُ التَّامَّةُ لِلَّـهِ، والاسْتِجَـابَةُ لَهُ والسَّـيْرُ عَلَى طَاعَتِهِ، وهَذِهِ هِيَ الْـحِكْمَةُ مِنْ خَلْـقِ الثَّقَلَيْنِ؛ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿ومَا خَلَقْتُ الْـجِنَّ والْـإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فَقَوْلُ الْـحاجِّ: لَبَّيْكَ اللهُمّ لَبَّيْكَ؛ أَيْ: إِجَابَةً لَكَ بَعْدَ إِجَابَةٍ.
وَشَأْنُ الْـمُؤْمِنِ دَائِـمًا يَقُولُ إِذَا سَمِـعَ نِـدَاءَ اللهِ: سَمِعْـنَا وأَطَعْـنَا، ومِنْهَـا إِظْهَـارُ الْـعُبُودِيَّةِ في الْـحَجِّ؛ مِنْ خِلاَلِ أَدَاءِ الْـحاجِّ لِكَثِيرٍ مِنَ الْـأَعْمَالِ وهُوَ لَا يُدْرِكُ حِكْمَتَهَا وإِنَّمَا يَدْفَعُه إِيمَانَهُ بِاللهِ وتَأَسِّيهِ بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ؛ كَالْـطَّوَافِ والرَّمْيِ وغَيْرِهَا.
الْـحَجُّ يُحَقِّقُ الْـوحْدَةَ والْـمُسَاواةَ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ:
ومِنْهَا: مَا يَتَجَلَّى فِي الْـحَجِّ مِنَ الْـوحْدَةِ الإسْلامِيَّةِ والْـمُسَاواةِ بَيْنَ الْـمُسْلِمِينَ؛ فَالْـجَمِيعُ قَدْ طَرَحَ الْـمَلاَبِسَ وظَهَرُوا في زِيٍّ واحِدٍ؛ الْـغَنِيُّ والْـفَقِيرُ، والْـقَوِيُّ والضَّعِيفُ في وحْدَةٍ تَامَّةٍ في الشَّعَائِرِ والْـهَدَفِ والْـعَمَلِ والْـقَوْلِ؛ لَا إِقْلِيمِيَّةٌ ولَا عُنْصُرِيَّةٌ ولَا عَصَبِيَّةٌ لِلَوْنٍ أَو جِنْسٍ أَو طَبَقَةٍ؛ قَال تَعَالَى: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢].
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: (النَّاسُ بَنُو آدَمَ وآدَمُ مِنْ تُرَابٍ).
وقال صلى الله عليه وسلم في الْـحَديثِ الصَّحِيحِ الآخَرِ: (لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، ولَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، ولَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْودَ، ولَا أَسْودَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوى).
الْـحَجُّ يُحَقِّقُ التَّقْوى:
ومِنْ حِكَمِ الْـحَجِّ الْـعَظِيمَةِ كَذَلِكَ تَحْقِيقُ التَّقْوى: بِامْتِثَالِ الْأوَامِرِ، واجْتِنَابِ النَّوَاهِي، والتَّجَرُّدِ مِنْ شَهَوَاتِ النَّفْسِ، وحَبْسِهَا عَنْ كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ؛ فَالْإِحْرَامُ يَمْتَنِعُ بِسَبَبِه الْـمُحْرِمُ عَنْ أُمُورٍ يُبَاحُ بَعْضُهَا لَهُ لَوْلَا هَذِهِ النِّيَّةُ، وهَذَا يُرَبِّي في الْـمُسْلِمِ قُوَّةَ الْـإِرَادَةِ، وضَبْط النَّفْسِ، واسْتِشْعَار عَظَمَةِ اللهِ وعُبُودِيَّتِهِ، ويَجْعَلُ الْـمُسْلِمَ يَسْتَقِيمُ عَلَى دِينِ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ ولَا يُحَدِّث نَفْسَه بِالرُّجُوعِ إلَى مَاضِيهَا الْـمَلِيءِ بِالْـمَعَاصِي؛ ولِذَلِك اسْتَحَقَّ مَنْ صَابَرَ نَفْسَهُ وجَاهَدَهَا عَلَى ذَلِك أَن تُغْفَرَ ذُنُوبُهُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الْـحَديثِ الصَّحِيحِ: (مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، ولَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا ولَدَتْهُ أُمُّهُ).
الْـحَجُّ فِيه تَمامُ الابْتِلاَءِ وكَمَالُ الامْتِحَانِ:
ومِنْ تِلْـكَ الْـحِكَمَ أيضًا: أنَّ الحَجَ يُعَوِّدُ المُسْلِمَ عَلَى تَحَمُّلِ الْـمَشَاقِّ وَرُكُوبِ الْـأَهْوَالِ ومُفَارَقَةِ الْـأهْلِ والأحِبَّةِ والتَّضْحِيَةِ بِالرَّاحَةِ والدَّعَةِ والْـأَمْوَالِ؛ طَلَبًا لِـمَرْضاة اللهِ، وابْتِغَاءَ مَا عِنْدَ اللهِ، وتَكْميلًا لِدِينِ اللهِ؛ فَفِيه تَمامُ الْـابْتِلاَءِ، وكَمَالُ الْـامْتِحَانِ؛ وبِذَلِك تَظْهَرُ قُوَّةُ الْإيمَانِ والْـيَقِين؛ لِأَنَّ مِنَ النُّفُوسِ مَنْ يَهُونُ عَلَيهَا الْـبَذْلُ، ولَكِنَّهَا تُرِيدُ الرَّاحَةَ والدَّعَةَ والْـكَسَلَ، ومِنَ النُّفُوسِ مَنْ يَكُونُ إِخْرَاجُ الْـمَالِ عَلَيْهَا صَعْبًا شَاقًّا، والحَجُّ تَجْتَمِعُ فِيهِ الْـعِبَادَةُ الْـمُتَعَلِّقَةُ بِالْـمَالِ والْـعِبَادَةُ الْـمُتَعَلِّقَةُ بِالْـبَدَنِ، وبِأَدَائِهِ يَظْهَرُ إيمَانُ الْـعَبْدِ، ويَهُونُ عَلَيه بَعْدَ ذَلِك بَذْلُ كُلِّ مَا يَسْتَطِيعُ لِنُصْرَةِ دِينِ اللهِ.
الْـحَجُّ يُحَقِّقُ قُوةَ التَّأَسِّي بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
ومِنْ أَسْرَارِ الْـحَجِّ الَّتِي لاَ بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا، وذِكْرِهَا في مِثْلِ هَذَا الْـمَقَامِ أَنَّ الْـحَجَّ يُرَبِّي فِينَا قُوَّةَ التَّأَسِّي بالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، ووُجُوب اتِّبَاعِه وتَلَقِّي التَّشْرِيعَاتِ مِن سُنَّتِهِ؛ وذَلِك أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤَدِّي مَنَاسِكَهُ ويُوقِفُ أَصْحَابَهُ عَلَى كُلِّ جُزْئِيَّةٍ ويَقُولُ: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ؛ فَلَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا)، وهَذَا لَيْسَ خَاصًّا بِالْـحَجِّ؛ بَلْ إِنَّ جَمِيعَ الْأُمُورِ
الْـمَهُولُ؛ يَوْم يَبْلُغُ النَّاسُ في الْـعَرَقِ مَبْلَغًا عَظِيمًا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِـهِمْ؛ فَمِنْهُمُ مَن يَصِلُ الْـعَرَقُ إِلَى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يَصِلُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ومِنْهُمُ مَنْ يَصِلُ إِلَى حِقْوَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ يُلْـجِمُهُ الْـعَرَقُ إلْـجَامًا.
وَهَكَذَا بَقِيَّةُ الْـمَوَاقِفِ؛ في عَرَفَةَ والْـمُزْدَلِفَة؛ كُلُّهَا تُذَكِّرُ بِالْأَهْوَالِ الْـمُقْبِلَةِ، نَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنَا في ذَلِكَ الْـيَوْمِ مِنَ الآمِنِينَ الفَائِزينَ.
وَبِهَذِه الْـمَعَانِي الْـعَظِيمَة تَتَحَقَّقُ الْـعُبُودِيَّةُ، والتَّقَرُّبُ إِلَى اللهِ، ويَتَجَدَّدُ الْـعَهْدُ مَع الْإِسْلامِ، وبِذَلِك تُمْحَى الْـخَطَايَا والْآثَام، ويُبَاهِي اللهُ تَعَالَى بِعِبَادِهِ الْـمَلاَئِكَةَ الْـكِرَام، فَيَجِبُ أَن نَفْهَمَ أَسْرَارَ الْـحَجِّ ومَعَانِيَهُ وأَحْكَامَهُ وحِكَمَهُ ومَقَاصِدَه وتَحْقِيق الْـغَايَةِ مِنْهُ؛ لئلَّا تَكُونَ عِبَادَاتُنَا ظَاهِرِيَّةً جَوْفَاءَ لَا تَتَجَاوَزُ الْـحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةَ؛ لَا يَسْتَفِيدُ مِنْهَا الْـقَلْـبُ شَيْئًا؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿الْـحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْـحَجَّ فَلَا رَفَثَ ولَا فُسُوقَ ولَا جِدَالَ فِي الْـحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وتَزَودُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى واتَّقُونِ يَا أُولِي الْـأَلْـبَابِ﴾ [البقرة: ١٩٧].
عبادَ اللهِ:
عبادَ الله صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللّـهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْـبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْـفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْـمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ.