إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ . «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا»، «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديداً * يصلح لكم أعمالكم. ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما» .
أما بعد عباد الله:
فإن من الأفعال المحرمة شرعاً، والمذمومة عُرفاً: تعطيل الحقوق، ومطل الناس بها، وتأجيلهم ما لهم.
إن مطل الحقوق ليس هو منعها، وإنما هو التأخير في تسليمها، والنسأ في أدائها، وتمديد مدد المطالبة بها.
وكلما ثبت الحق، واحتاجه صاحبه، وتضرر بتأخره لزم المبادرة لأدائها، وعظم الإثم على المطل به، لذا جاءت نصوص الوحيين في ذم من فعل ذلك: فسمى الله مطل الحقوق والتأخير في أدائها -ظلما وحرمها في كتابه، فقال : «وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون » ، قال المفسرون كالثعلبي وابن عطية والقرطبي: (أي لا تظلمون في مطل) ، فيكون معنى الآية أن المرء إذا كان عليه دَيْن فكما أنه لا يجوز شرعاً أن يُظْلَم بجعل الربا عليه إن تأخر في السداد، فإنه يحرم عليه أيضاً أن يتأخر في أداء الدين إن كان قادراً على الوفاء وهذا هو المطل المحرم.
وتوعد الله ماطل الحقوق ومؤخر سدادها بالعذاب الشديد يوم القيامة؛ فقال : «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يُخسرون».
جاء في (صحيح البخاري) أن المطفف: هو الذي لا يوفي غيره.
والمماطل متوعد بالعذاب الشديد يوم القيامة، والويل المهول، في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار، وحرم عليه الجنة ) ، قيل: يا رسول الله وإن كان شيئا يسيرا قال: (وإن كان قضيبا من أراك)،
وقد قيل:
فخف القصاص غذا إذا وفيت ما
كسبت يداك اليوم بالقسطاس
في موقف ما فيه إلا شـــــــــاخص
أو مهـطـع أو مـقـنـع لـلـراس
أعضاؤهم فيه الشهود وسجنهم
نـار وحـاكـمهـم شـديد البـاس
إن تمطل اليوم الحقـوق مع الغني
فغــدا تـؤديـهـا مـع الإفــــلاس
رُوي في الأثر: ( أنه لا أكره للعبد يوم القيامة من أن يرى من يعرفه خشية أن يطالبه بمظلمة ظلمه بها في الدنيا ) .
وصح عنه ﷺ أنه قال: (من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه أو من شيء فليتحلل منه اليوم من قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه ثم طرح في النار).
وإضافة لعذاب الآخرة، فقد أوجب الله عقوبة في الدنيا لمن مطل الحقوق.
روى الإمام أحمد وأبو داوود عن عمرو بن الشريد عن أبيه أن النبي ﷺ قال: « لَيُّ الواجد ظلمٌ يحل عرضه وعقوبته» .
قال وكيع راوي الحديث : (عرضه) شكواه، و(عقوبته ) حبسه .
فمطل الحقوق من الظلم المحرم الذي يُحل العرض والمال، بأن يعاقبه القاضي والسلطات في البلد بالعقوبة المناسبة في العرض بالتشهير والحبس، وفي المال بالتعزير بالغرامة ونحوها.
عباد الله:
إن لمطل الحقوق، وَلِّيها، والتأخير في أدائها صوراً متعددة تُرى في مجتمعنا، ومن ذلك:
تأخير أجرة الأجراء عن وقتها، وعدم تسليم الرواتب للموظفين في وقت استحقاقها، ومماطلتهم فيها، وفعل ذلك بغير عذر ظلم وإثم عظيم عند الله.
روى مسلم أن عبد الله بن عمرو قال لقهرمان له هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال: لا . قال: فانطلق فأعطهم فإن رسول الله ﷺ قال: «كفى المرء إثما أن يحبس عمن يملك قوتهم».
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: : «ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ومن كنت خصمه خصمته؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً استوفى منه ولم يوفه».
ومن ذلك المطل المحرم: تأخير سداد الديون الحالّة، مع القدرة على سدادها، واستطاعة وفائها، إما بقصد مضارة الدائن، أو بقصد الاستفادة من الأموال قدر المستطاع، أو بسبب التكاسل.
ويدخل في ذلك جميع الديون، سواء كانت واجبة لمحل تجاري، أو صديق أو قريب، ومهما كان سببها، سواء كانت بسبب قرض أو مبايعة أو قيمة لإجارة عقار أو بدن؛ لأن هذه كلها ديون ثبتت في الذمة فيلزم المبادرة بوفائها، إذ الواجب على المسلم المبادرة إلى سداد دينه، والاستعجال بقضائه ولو كان مالا قليلاً .
ويدخل في ذلك التأخير في رد الأمانات والحقوق التي على الشخص، فإذا استودع امرء آخر شيئاً وطلبه فإنه يلزم المبادرة في أدائه ووفائه.
عباد الله:
إن من صور المطل المحرم: التأخير في تسليم الحقوق، حتى ترفع إلى المحاكم وتأخذ إجراءات التداعي، مع أن من عليه الحق يعلم يقينا أن الحق عليه وأنه غارم.
ويزيد بعض المتداعيين الأمر سوء والظلم حيفاً بتطويل القضايا وكثرة التأجيل فيها، لا لاستبانة الحق ولا لاستظهاره، وإنما إضراراً بالغير، وكسباً للوقت.
عباد الله:
إن مطل الحقوق ليس مقصوراً على المعاوضات المالية فحسب، بل إن سائر الحقوق كذلك، فمن لم يبذل النفقة الواجبة عليه لمن تجب له النفقة كالزوجة والأبناء والوالدين، وتأجيل بذل المهر والصداق للزوجة مطل محرم، وكم من الرجال أَخَّر مَهْر زوجته سنين طوالاً مع أنه يجب تسليمه عند العقد.
ومن أقبح صور المطل مطل المرأة حقها بالفراق إن كرهت الزوج وكانت غير راغبة فيه، ودخل المصلحون بينهما للإصلاح فما نفع «فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما» . فتجده يمتنع من تطليق زوجته مضارة ومطلاً ولِيّا وهو ظلم.
والمرأة المطلقة إذا كانت حاضنة لولدها فمنعت أباه من مجالسته والاجتماع به فإن ذلك من مطل الحقوق المحرم.
ومن صور المطل تأجيل الموظف لمعاملات المراجعين، وتأخره في تأديتها، رغبة في الدَّعَة، وكراهة للعمل، حتى أصبح من المحال في بعض الدوائر إنجاز المعاملة في وقتها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: «قل إنما أنذركم بالوحي ولا يسمع الصم الدعاء إذا ما ينذرون ولئن مسَّتهم نفحة من عذاب ربك ليقولن يا ويلنا إنا كنا ظالمين ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل آتينا بها وكفى بنا حاسبين».