ألا تبايعون رسول الله ﷺ

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يا عباد الله:

إن مما يدل على عظم الأمر في ديننا: مبايعة رسول الله ﷺ عليه، ومن ذلك -يا عباد الله- ما ثبت في صحيح مسلم عن عوف بن مالك رضي الله عنه، قال: كنا عند رسول اللہ ﷺ تسعة أو ثمانية أو سبعة، فقال : «ألا تبايعون رسول الله؟» وكنا حديثي عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» فقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، ثم قال: «ألا تبايعون رسول الله؟» قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: «على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، والصلوات الخمس، وتطيعوا» -وأسر كلمة خفية- «ولا تسألوا الناس شيئا»، قال عوف : فلقد رأيت بعض أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحدا يناوله إياه.

الله أكبر يا عباد الله! أربعة أمور اهتم بها رسولنا ﷺ واعتنى بها عناية فائقة حتى بايع عليها بيعة خاصة بعد البيعة العامة.

أولها: «أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا».

وهذا أعظم فرض على الإطلاق، وأول فرض على المسلم، وكل الفروض تتبعه، أن تعبد الله وحده ولا تشرك به شيئا، اعتقادا وعملاً، فيجب عليك أن تعتقد اعتقادا جازما أنه لا معبود بحق إلا الله ، كما يجب عليك أن تعتقد اعتقادا جازما أنه لا يوجد أحد يستحق العبادة من دون الله عز وجل، فيجب النفي والإثبات، إثبات العبادة لله وحده وأنه مستحق للعبادة وحده، ونفي استحقاق مخلوق - مهما عظم - للعبادة من دون الله عز وجل، وأن تعمل بذلك فلا تصرف شيئا من أنواع العبادة لغير الله عز وجل، فكل ما ثبت أنه عبادة لا تجعله إلا الله عز جل.

ومن أجل هذا خُلقتَ أيها الإنسان، بل وخُلق كذلك الجان، كما قال ربنا : ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات:56].

وبهذا بعث الله الرسل جميعا، { ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن أعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [النحل:36].

وبه أُمر المسلم في القرآن، وكان أول أَمْر في القرآن بترتيب المصحف الأمر بعبادة الله عز وجل، حيث قال الله عز وجل في سورة البقرة: «يأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون * الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون» [البقرة: ٢١-٢٢].

أمر الله عز وجل الناس جميعا بعبادة ربهم ، وقَصَرَ العبادة على نفسه، وأقام البرهان البين على ذلك، فإن الله عز وجل هو ربكم الذي أوجدكم من العدم ورباكم بالنعم، فهو الذي خلقكم والذين من قبلكم، فكل مخلوق إنما خلقه الله عز وجل، ولا يستحق العبادة إلا الخالق ، ولو أن المخلوقات كلها، الإنس والجن، صالحهم وطالحهم، والملائكة والجمادات، والشمس والقمر وسائر المخلوقات، اجتمعت في أمر واحد لما استطاعت أن تخلق شيئا ولو كان شيئا حقيرا، لما استطاعت أن تخلق شيئا ولو كان ذبابا، فكيف يستحق مخلوق أن يُعبد من دون الله عز وجل، مهما علا شرفه، ومهما عظم فضله؟ واللهِ لا يستحق العبادة إلا الله عز وجل.

«الذي جعل لكم الأرض فراشا»: فمهدها لكم، وأرساها بالجبال، وجعل «السماء بناء»، وجعلها سقفا مرفوعا مزينا محفوظا، ورزقكم فأنزل لكم من السماء ماء طيبا طهورا مباركا تتطهرون به، وأخرج لكم به الرزق، ولا يستطيع مخلوق أن يفعل شيئا من ذلك.

«فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون»: فإن أعظم الذنوب وأعظم الظلم أن تجعل الله ندا وهو خلقك عز وجل.

فيا عبد الله وحد الله في العبادة، وإياك أن تعتقد أن مخلوقا يستحق أن يُصرف له أدنى شيء من العبادة، وإياك ثم إياك أن تصرف شيئا من عبادتك - من دعائك، من استغاثتك، من صلاتك- إلى مخلوق من المخلوقات، فإياك أن تصرف شيئا من العبادة مهما قلَّ لمخلوق من المخلوقات .

وأما الأمر الثاني: فالصلوات الخمس.

بيعة خاصة الله أكبر يا عبد الله! الله أكبر يا عبد الله! حبيبك ورسولك ﷺ يبايع على الصلوات الخمس، فكيف تطيب نفسك أن تُضيع شيئا من هذه الصلوات الخمس؟! .

الله أكبر يا عبد الله! الصلوات الخمس كان آخر كلام رسول الله ﷺ في الدنيا الأمر بها، فكان آخر كلام رسول الله ﷺ : «الصلاة الصلاة، اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم»، فكيف يطيب قلبك أن تضيع شيئا من الصلوات الخمس أو من حقوقها؟!

الله أكبر يا عبد الله! الصلوات الخمس من أركان الإسلام وهي خير الأعمال، كما قال النبي: «استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن».

فقل لي -يا عبد الله - كيف يطيب قلبُ مؤمن آمن بالله ربا وبمحمد ﷺ رسولا نبيا بعد أن سمع هذا أن يُفرِّط في شيء من الصلوات الخمس، أو أن يتعمد أن ينام عن شيء من الصلوات الخمس، أو أن يضيع حقا من حقوق الصلوات الخمس؟!

وأما الأمر الثالث: «وتطيعوا».

السمع والطاعة لله عز وجل ولرسوله ﷺ فرض على المؤمن، وفيها حياته، «يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون * ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون».

أمركم ربكم بهذا الفرض العظيم، فقال سبحانه: «يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم» [محمد:33].

وبين لكم سبحانه أن في هذا حياتكم الحقيقية، فقال سبحانه: «يأيها الذين ءامنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون» [الأنفال:٢٤].

ومن طاعة الله ورسوله ﷺ طاعة من جاءت النصوص بطاعتهم من المخلوقين، كولاة أمور المسلمين، في غير معصية الله.

كما قال ربنا سبحانه: «يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم» [النساء:59].

وكما قال حبيبنا وقرة أعيننا ونبينا ﷺ: «على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

وقال ﷺ : «السمع والطاعة حق ما لم يُؤمر بالمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة».

ألا فاتقوا الله عباد الله، واعتنوا بما اعتنى به رسول الله ﷺ لعلكم تفلحون.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فيا عباد الله:

إن الأمر الرابع الذي اعتنى به رسولنا ﷺ جاء في قوله: «وألا تسألوا الناس شيئا».

المطلوب من المسلم - يا عباد الله - أن يكون كريم النفس متعلقا بالله ، ومن ذلك أن يترفع عن سؤال المخلوقين، ويسعى في اكتساب المال بعمله.

وإن سؤال المخلوق ما يقدر عليه الأصل فيه أن الأفضل تركه، وأن الأفضل للمؤمن أن يجتنب سؤال الناس شيئا ولو أن يعان على رفع شيء أو نحو ذلك، ما كان مستغنيا عن الناس، فإن كان ولا بد فلا حرج في ذلك.

فالأصل أن الأفضل للمؤمن أن يعمل عمله بنفسه، ولا يسأل الناس شيئا، فإن سأل المخلوق ما يقدر عليه فإنه لا يكون فاعلاً حراما إلا في سؤال الناس أموالهم، فإن الأصل في سؤال الناس أموالهم أنه حرام، إلا ما استثناه رسول الله ﷺ، وهو: أن يسأل المسلم ولي الأمر شيئا من مال المسلمين، فهذا ليس حراما، لكن الأفضل تركه وألا يسأل المسلم ولي أمر المسلمين شيئا من المال، فإن جاءه شيء من المال من سلطان المسلمين أخذه ولم يرده، وهكذا كان يصنع ابن عمر رضي الله عنهما.

والأمر الثاني المستثنى: أن يحتاج المسلم فيسأل من أجل الحاجة وبمقدار الحاجة، فهذا جائز لا حرج فيه.

والنبي ﷺ علَّمنا وأدَّبنا، فكان ﷺ يقول وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة: «اليد العليا خير من اليد السفلي، واليد العليا المنفقة، والسفلى السائلة».

ورسول الله ﷺ قال: «والذي نفسي بيده، لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله، أعطاه أو منعه» .

وقال ﷺ منبها ومحذرا:

«لو تعلمون ما في المسألة ما مشى أحد إلى أحد يسأله شيئا».

وقال ﷺ : «لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم» .

وقال ﷺ: «من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر» .

وقال ﷺ: «إن المسألة كدّ يكد بها الرجل وجهه».

وهذا معنى أنه يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم، فهو يكد وجهه بالمسألة، ويسقط لحم وجهه، حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه قطعة لحم، وإنما هو العظم، ليرى الناس ذلك، ويكون ذلك عيبا له يوم القيامة، قال ﷺ: «إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه» .

فالحمد لله الذي جعلنا مسلمين، وجعلنا من أهل الكرامة.

فاتقوا الله عباد الله، وامتثلوا ما دلكم عليه رسول الله ﷺ، واعتنوا بهذه الأمور الأربعة لعناية حبيبكم ونبيكم ﷺ بهن.

ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله عن أمرنا بأمر عظيم جليل شريف، بدأ فيه بنفسه، ثم ثنى بملائكته، فقال سبحانه: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» [الأحزاب: 56].

.....