الخطبة الأولى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُه ونَسْتَغْفِرُه ونَتُوبُ إليهِ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ((١٠٢)) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ((٧٠)) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
عبادَ الله:
إنَّ اللسانَ لَيَجِفُّ، والأقلامَ تَتَنَاثَرُ، والعباراتِ تَتَقَاصَرُ دُونَ وصْفِ ما وصَلَ إليه أربابُ التفْكِيرِ والتفجيرِ مِنْ نهاياتٍ لا يُصَدِّقُها عَقْلٌ، جَاوَزُوا فيها الحُرُمَاتِ، وتَعَدَّوُا الحدودَ، وتَجَرَّءُوا على الشَّهْرِ المبارَكِ، والحَرَمِ الآمِنِ، في ظِلِّ فتنةٍ قَضَّتِ المَضَاجِعَ، وآلَمَتِ النفوسَ، وأثَارَتِ المَكْنُونَ، تلكَ الفتنةُ المُتَمَثِّلَةُ في أفكارِ الغُلُوِّ والتطرُّفِ والإرهابِ والأفكارِ الضَّالَّةِ المُضِلَّةِ التي بَدَأَتْ ولا تزالُ مُنْذُ زَمَنٍ، ونَتَجَ عنها ما لا يُصَدِّقُه العَقْلُ مِنَ الفسادِ، وقَتْلِ الأَنْفُسِ المعصومةِ، وإراقةِ الدِّمَاءِ، وتَرْوِيعِ الآمِنِينَ، واختزانٍ لِوَسَائِلِ القَتْلِ والتدميرِ.
إنَّها صُوَرٌ مُؤْلِمَةٌ ومُفْجِعَةٌ، يَقِفُ فيها العاقِلُ مُتَحَيِّرًا، وتَدُلُّ دِلَالَةً أَكِيدَةً على فِتْنَةٍ اسْتَشْرَتْ، ومحنةٍ اسْتَمَرَّتْ، وشَرٍّ يَجِبُ على عُقَلَاءِ الأُمَّةِ التعاونُ على اجْتِثَاثِهِ واسْتِئْصَالِهِ، كما يَجِبُ مَنْعُ أسبابِهِ وبَوَاعِثِهِ، فلا يَكْفِي أنْ تَلْتَقِيَ المشاعِرُ المُؤْمِنَةُ، والرُّؤَى المُتَّزِنَةُ على رَفْضِ هذه الصُّوَرِ الشنيعةِ، والأفعالِ المُنْكَرَةِ، والبراءةِ منها ومِنْ أَصْحَابِها، ولا تُعالَجُ المسألةُ بِبَيَانِ العُمُومَاتِ الشرعيةِ، واستمدادِ تِلْكَ الإدانَةِ مِنْ أساليبِ الإثارةِ، أو أساليبَ تَنْحُو إلى التسويغ والتذرُّع، وإنَّما يَجِبُ أنْ تَتَضَافَرَ الجهودُ، وتتكامَلَ الأدوارُ، وكلٌّ مِنَّا مُطَالَبٌ بمُشَارَكَتِهِ، ومُتَحَمِّلٌ لِمَسْؤُولِيَّتِهِ أمامَ اللهِ عز وجل، ثم أَمَامَ وُلَاةِ أَمْرِهِ، ووَطَنِهِ ومُجْتَمَعِهِ.
لَقَدْ ظَهَرَ مِنْ خلالِ الوقائعِ والأحداثِ والمتغيراتِ، وقراءةِ التَّارِيخِ والمؤشراتِ؛ أنَّها مؤامرةٌ دَنِيئَةٌ، وعَمَلٌ إجراميٌّ، ومحاولاتٌ فاشِلَةٌ سَوْفَ تَنْتَهِي وتَتَلَاشَى، ويَعْلُو صَوْتُ الحقِّ، وتجتَمِعُ القلوبُ والأفئدةُ والمَشَاعِرُ على رَفْضِها واسْتِنْكَارِها، ومَعْرِفَةِ أبعادِها وبَوَاعِثِها، ويُدْرِكُ الجميعُ أيضًا أنَّها محاولةُ اليَائِسِ لِمَنْ أَوْجَعَتْهُمْ مَوَاقِفُ الحَزْمِ والعَزْمِ مِنْ وُلَاةِ أَمْرِنا -أيَّدَهُمُ اللهُ-، وكُشِفَتْ مُؤَامَرَاتُهُمْ، وأُفْشِلَتْ مُخَطَّطَاتُهُمْ، وحَمَى اللهُ أَوْطَانَ المسلمينَ مِنْهُمْ.
لكِنْ يَبْلُغُ الجُرْمُ مُنْتَهَاهُ، والإفسادُ غَايَتَهُ حينما يُسْتَهْدَفُ مَسْجِدُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ومُهَاجَرُه، ومَحَطُّ قَبْرِهِ، في مَدِينَةِ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم التي شَعَّ منها نُورُ الإسلامِ، وبَلَغَتْ رِسَالَتُه الآفاقَ، وكانتْ رِسَالَةُ الإسلامِ تَحْمِلُ الهدايةَ والسماحةَ واليُسْرَ ورَفْعَ الحَرَجِ، والتسامُحَ والتعايُشَ والتواصُلَ والتعاوُنَ على البِرِّ والتَّقْوَى.
إنَّ الذَّنْبَ لَيَعْظُمُ؛ ذلك أنَّ للحَرَمِ مكانةً كبيرةً، ومنزلةً عظيمةً، وفيه مِنَ الآياتِ والأماكنِ المبارَكَةِ مَا فِيهِ، يَقُولُ اللهُ تَبَارَكَ وتَعَالَى: ﴿لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَولِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ﴾ [التوبة: 108]، وهو شَامِلٌ لِمَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم ومَسْجِدِ قُبَاءَ كما أَشَارَ إلى ذلكَ الحافِظُ ابنُ كَثِيرٍ رحمه الله وغَيْرُهُ مِنَ المُفَسِّرِينَ، وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَاءَ مَسْجِدِي هَذَا لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا لِخَيْرٍ يَتَعَلَّمُهُ أَوْ يُعَلِّمُهُ، فَهُو بِمَنْزِلَةِ الْـمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللهِ، ومَنْ جَاءَهُ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَهُو بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ يَنْظُرُ إِلَى مَتَاعِ غَيْرِهِ»، رواه الإمام أحمد وابن ماجه، وهو أَحَدُ المساجِدِ الثلاثةِ التي تُشَدُّ الرِّحَالُ إليها، ويَفِدُ المسلمونَ إليها؛ تَعَبُّدًا للهِ، وطَلَبًا لِرِضَاهُ، وتَأَسِّيًا برَسُولِـهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحِيح: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَـلُ مِنْ أَلْـفِ صَـلَاةٍ فِيـمَا سِـواهُ، إِلَّا الْـمَسْجِدَ الْـحَـرَامَ»».
وقَـالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا تُشَــدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْـمَسْجِدِ الْـحَرَامِ، ومَسْجِدِي هَذَا، والْـمَسْجِدِ الْأَقْصَى».
يُضَافُ إلى ذَلِكَ بَرَكَةُ هذه البلدةِ المباركة؛ لِتَضَاعُفِ العَمَلِ فيه، كما يَقُولُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِواهُ إِلَّا الْـمَسْجِدَ الْـحَرَامَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ تَعْدِلُ مِئَةَ أَلْفِ صَلَاةٍ»، وقد ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ إلى أنَّ المضاعَفَةَ هنا شَامِلَةٌ جَمِيعَ الحَرَمِ والمَسْجِدُ دَاخِلٌ فيه.
وقد ورَدَ الوعيدُ الشديدُ على مَــنْ أَحْــدَثَ فتنـةً في مَدِينَـةِ المُصْطَـفَى صلى الله عليه وسلم أو أَرَادَ بها سُوءًا، قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «الْـمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوى مُحْدِثًا؛ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والْـمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا ولَا عَدْلًا».
وقَالَ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَهْلِ المدينةِ: «مَنْ أَرَادَ أَهْلَهَا بِسُوءٍ أَذَابَهُ اللهُ كَمَا يَذُوبُ الْـمِلْحُ فِي الْـمَاءِ».
وقَالَ صلى الله عليه وسلم: «ولَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْـمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ، أَوْ ذَوْبَ الْـمِلْحِ فِي الْـمَاءِ».
قالَ شَيْخُنا العَلَّامَةُ الشيخُ ابنُ عُثَيْمِينَ رحمه الله: في حَدِيثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : «مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا»، أيْ: في المدينةِ «حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا»، والحَدَثُ هُنَا يُرَادُ به شَيْئانِ:
الأولُ: البِدْعَةُ، فمَنِ ابْتَدَعَ فيها بِدْعَةً فَقَدْ أَحْدَثَ فيها؛ لِقَوْلِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : «كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»، فمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا، أيِ: ابْتَدَعَ في دِينِ اللهِ ما لم يَشْرَعْهُ اللهُ في المدينةِ: «فعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أَجْمَعِينَ»، يَعْنِي: اسْتَحَقَّ أنْ يَلْعَنَهُ كلُّ لاعِنٍ والعياذُ باللهِ؛ لأنَّ المدينةَ مَدِينَةُ السُّنةِ، مَدِينَةُ النبوةِ، فكيفَ يَحْدُثُ فيها حَدَثٌ مُضَادٌّ لِسُنَّةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟!
والنوعُ الثاني مِنَ الحَدَثِ: الفِتْنَةُ، أنْ يَحْدُثَ فيها فِتْنَةٌ بين المسلمينَ، سَوْاءٌ أدَّتْ إلى إراقةِ الدماءِ، أو إلى ما دُونَ ذَلِكَ مِنَ العداوةِ والبغضاءِ والتشَتُّتِ، فإنَّ مَنْ أَحْدَثَ هذا الحَدَثَ فعليه لَعْنَةُ اللهِ والملائكةِ والناسِ أجمعينَ.
وأَعْظِمْ بذلك ذَنْبًا وجَرِيمَةً أنْ يَقْصِدَ المَرْءُ مَسْجِدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بالتفجيرِ، وقَتْلِ الأَنْفُسِ المعصومةِ البريئةِ، ويَسْتَهْدِفَ رِجَالَ أَمْنِنَا البَوَاسِلَ السَّاهِرِينَ على رَاحَةِ الزُّوَّارِ، أولئكِ الصائِمينَ الصادِقِينَ الذين أَحْسَنَ اللهُ خَاتِمَتَهُمْ، وقَضَوْا على يَدِ هؤلاءِ الخَوَنَةِ.
أَقُولُ قَوْلِي هذا وأسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحَمْدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُولِ اللهِ… وبعدُ:
إنَّ سِلْسِلَةَ هذه الأحداثِ هي محاولاتٌ يَائِسَةٌ فاشلةٌ، ومِنْ فَضْلِ اللهِ ومِنَّتِه أنَّها أُحْبِطَتْ، وتَمَّ اكتشافُها قَبْلَ أنْ تَقَعَ كارثةٌ على المُصَلِّينَ، وما مِنْ شَكٍّ أنَّ هذا التعامُلَ المُبَكِّرَ معها هو جُزْءٌ مِنَ النَّجَاحَاتِ المتواليةِ لِأجهزةِ الأَمْنِ المختلفةِ، التي أَثْبَتَتِ الأحداثُ الأخيرةُ أنَّها مِنَ القوَّةِ والحَيْطَةِ والدِّقَّةِ والتفاعُلِ السريعِ مَعَ أيِّ حَدَثٍ، والتعاطي مع المَوْقِفِ بما يَفْرِضُه الواجِبُ دُونَ تأثيرٍ على إيقاعِ الحياةِ العامَّةِ؛ ولهذا أُقِيمَتِ الصلواتُ، وأتَمَّ المسلمونَ الشَّهْرَ قِيَامًا وتَهَجُّدًا وتَعَبُّدًا دُونَ أيِّ أَثَرٍ يُذْكَرُ، وهذا فَضْلُ اللهِ وحِفْظُهُ ومِنَّتُه، ثمَّ تَوْفِيقُه وتَسْدِيدُه لِقِيَادَتِنا ولِمَنْ يَقُومُونَ عَلَى أَمْنِ هذه البِقَاعِ المُقَدَّسَةِ، الذين لم تَزِدْهُمْ هذه الجرائمُ إلَّا قُوَّةً، وتَمَاسُكًا واسْتِبْسَالًا لِلدِّفَاعِ عَنْ عَقِيدَتِهِمْ ومُقَدَّسَاتِهِمْ ووَطَنِهِمْ، وهذا مِنْ تَوْفِيقِ اللهِ لِوُلَاةِ أَمْرِنا، وتَأْيِيدِه لهمْ، وحِفْظِهِ لِدِينِهِ، ولِمَوَاطِنِ المُقَدَّسَاتِ أنْ تَطَالَها أَيْدِي الغَدْرِ والخِيَانَةِ، والظُّلْمِ والعُدْوَانِ، والفَسَادِ والإِفْسَادِ، واللهُ غَالِبٌ على أَمْرِهِ.
إنَّ هذه الأحداثَ المُؤْلِمَةَ تُوحِي بِدِلَالَاتٍ مِنْ أَبْرَزِهَا وأَهَمِّهَا: ضَرُورَةُ التوَحُّدِ والتكاتُفِ والتلاحُمِ علَى مُسْتَوَى الوَطَنِ الواحدِ؛ بلْ علَى مُسْتَوَى العالَمِ الإسلاميِّ لِمُوَاجَهَةِ هذه التهديداتِ الَّتِي تُهَدِّدُ نَسِيجَ الأُمَّةِ، وتَعْصِفُ بمُقَدَّسَاتِ المسلمينَ وأَرْوَاحِهِمْ، وأَهَمِّيَّةُ بِنَاءِ المعالجاتِ على دَوْرِ الأُسْرَةِ، فالشبابُ الذين اخْتُطِفُوا وجُنِّدُوا خَرَجُوا مِنْ بَيْنِ الأُسَرِ، فما هُوَ العملُ الذي قُدِّمَ لِحِمَايَتِهِمْ؟ ثمَّ ما واجِبُنا في مُرَاجَعَةِ مُعالَجَاتِنَا وُصُولًا إلى خِطَابٍ أَعْمَقَ، يَشْمَلُ الفِكْرَ وأَدَوَاتِهِ وتَنْظِيمَاتِهِ وأَحْزَابَهُ ومُنَظِّرِيهِ والمُحَرِّضِينَ والمُتَحَزِّبِينَ، الذين لا يُشَكُّ أنَّ لهم دَوْرًا في التهيئةِ، وخاصةً في أَحْدَاثٍ مَرَّتْ.
ومِنْ دِلَالَاتِهَا انْحِسَارُ هذا الفِكْرِ الإرهابيِّ الخارجيِّ الضَّالِّ واضْمِحْلَالُه، فهذه الأحداثُ في هذا الشَّهْرِ الفَضِيلِ، والمكانِ الطاهِرِ هي بدايةُ النهايةِ، ومُؤَشِّرٌ بأنَّ الفِكْرَ في اضْمِحْلَالٍ وزَوَالٍ؛ ولكِنْ يَجِبُ على الجميعِ تَكَاتُـفُ الجُـهُودِ، والوقوفُ صَفًّـا واحِدًا ضِدَّ كُلِّ مَنْ يُرِيدُ العَبَثَ بأَمْنِنَا ومُقَدَّسَاتِنَا، وكُلٌّ مُطَالَبٌ بأنْ يَبْذُلَ وُسْعَهُ؛ بَيَانًا للحِـقِّ، ودَحْرًا للبَاطِـلِ، استنـادًا على أُصُـولِ الشريعةِ ونُصُوصِها ومَقَاصِدِهَا الآمِـرَةِ بالوَحْـدَةِ والأُلْـفَــةِ والِاجْتِـمَاعِ، المُبَــيِّنَةِ خَطَــرَ الفســادِ والإفســـادِ، وأنَّــه عَمَــلُ المُنـافِقِــينَ ﴿واللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 205].
المُعَظِّمَةِ لِشَأْنِ الدماءِ وحُرْمَتِهَا، ومَكَانَتِها عِنْدَ اللهِ جَلَّ وعَلَا، فمَنْ يَقتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ قَالَ اللهُ فِيهِ: ﴿ومَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ ولَعَنَهُ وأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93].
ومَنْ يَسْتَهْـدِفِ المُتَـعَبِّدِينَ في أماكنِ عِبَادَتِهِمْ فَهُـوَ أَعْـظَـمُ الظَّـلَـمَـةِ، ﴿ومَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ﴾ [البقرة: 114].
يَقُولُ الشيخُ عبدُ الرحمنِ السِّعديُّ في تَفْسِيرِ هذه الآيةِ: «لَا أَحَدَ أَظْلَمَ وأَشَدَّ جُرْمًا مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ عَنْ ذِكْرِ اللهِ فيها، وإقامةِ الصلاةِ وغَيْرِها مِنَ الطَّاعَاتِ.
واجْتَهَدَ وبَذَلَ وُسْعَهُ في خَرَابِهَا الحِسِّيِّ والمَعْنَوِيِّ، فالخرابُ الحسيُّ: هَدْمُها وتَخْرِيبُها وتَقْذِيرُها، والخرابُ المعنويُّ: مَنْعُ الذَّاكِرِينَ لِاسْمِ اللهِ فيها، وهذا عامٌّ لكلِّ مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الصِّفَةِ، فجَازَاهُمُ اللهُ بأَنْ مَنَعَهُمْ دُخُولَها شَرْعًا وقَدَرًا إلَّا خَائِفِينَ ذَلِيلِينَ، فلمَّا أَخَافُوا عِبَادَ اللهِ أَخَافَهُمُ اللهُ»، خُصُوصًا وأنَّ ذلك يَسْتَهْدِفُ مَسْجِدَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
فهلْ بَعْدَ هذا البيانِ يُمْكِنُ لِمُنْصِفٍ أنْ يُبَرِّرَ الأعمالَ الإفساديةَ، أوْ يُدَافِعَ عَنْهَا؛ ولَكِنَّها التنظيماتُ التي تُشَكِّلُ خَوَارِجَ العَصْرِ، والتي قامَتْ بِجَرَائِمِهَا وتَصَرُّفَاتِها جَرَائِمُ سَلَفِهَا مِنَ الخَوَارِجِ الأقْدَمِينَ الذين أَخْبَرَ رَسُولُنا صلى الله عليه وسلم عَنْ جُرْمِهِمْ وصِفَاتِهِمْ، وقال: «يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ...»، وبَيَّنَ أنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ سُيُوفَهُمْ وأَسْلِحَتَهُمْ للمُسْلِمِينَ «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ»، وأَخْبَرَ بأَنَّهُمْ يَسْتَخْدِمُونَ الدِّينَ وهم بَعِيدُونَ عَنْهُ، فيَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، ويَحْقِرُ أَحَدُنا صَلَاتَهُ عندَ صَلَاتِهِمْ، وبمقارنةِ هذه النصوصِ بما يَفْعَلُه خَوَارِجُ العَصْرِ، المُتَعَطِّشُونَ للدِّمَاءِ، النَّاكِثُونَ للعُهُودِ؛ يَجِدُ المُطَّلِعُ أنَّها تَنْطَبِقُ عليهم، وتَصِفُ حَالَهُمْ، وتُعَرِّي واقِعَهُمْ؛ بَلْ إِنَّهُمْ بِجَرَائِمِهِمْ سَبَقُوا الخَوَارِجَ الأوائِلَ.
وبَعْدُ:
فإنَّ المَسْؤولِيَّةَ كَبِيرَةٌ، ونحنُ أَمَامَ مُنْحَنًى تَارِيخِيٍّ، ومُنْعَطَفٍ خَطِيرٍ، نَدْفَعُ فيه ضَرَائِبَ تَقْصِيرٍ في مَرَاحِلَ سَابِقَةٍ في التعامُلِ مَعَ الحوادثِ بمَوْقِفِ رَدِّ الفِعْلِ أو الاسْتِنْكَارِ المُؤَقَّتِ، ونحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ إلى مُرَاجَعَةٍ شَامِلَةٍ لِمَسْؤُولِيَّاتِنَا، وأنْ تَشْمَلَ مُوَاجَهَتُنا كُلَّ مَنْ له صِلَةٌ بالإرهابِ وصُوَرِهِ بدَعْمٍ أو تَعَاطُفٍ أو تَنْظِيرٍ أو غيرِ ذلك، ويَجِبُ أنْ تُفَعَّلَ قراراتُ عُلَمَائِنَا، وأنْ تَكُونَ أَسَاسًا لأعمالٍ شُمُولِيَّةٍ يَشْتَرِكُ فيها أطيافُ المُجْتَمَعِ؛ لِتَضْمَنَ مَسِيرَةً وطَنِيَّةً، وفْقَ ثَوَابِتَ قَامَتْ عليها دَوْلَتُنا، بَعِيدًا عَنْ إرهابِ المُعْتَدِينَ، وفَسَادِ المُفْسِدِينَ.
عبادَ اللهِ:
صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ ولِيَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ.
اللهُمَّ احْفَظْ عَلَى هَذِهِ البِلَادِ أَمْنَهَا ورَخَاءَهَا واسْتِقْرَارَها، واحْفَظْ وُلَاةَ أَمْرِنَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ ومَكْرُوهٍ، وأَعِذْنَا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وادْفَعْ عَنْ هذه البلادِ مَكْرَ الماكِرِينَ، وفَسَادَ المُفْسِدِينَ، وعُدْوَانَ المُعْتَدِينَ، إنَّكَ سَمِيعٌ مُجِيبٌ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.
وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نَبِيِّنا محمدٍ، وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.