هداية القرآن للتي هي أقوم

الشيخ صالح آل الشيخ

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.

عباد الله: قال الله جل وعلا في محكم كتابه: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً} [الإسراء:9].

يقول الله جل وعلا: إن هذا القرآن الذي أنزلته، الذي هو وحيي إلى محمد صلى الله عليه وسلم الذي حمله جبريل وسمعه من كلامي فبلغه محمداً صلى الله عليه وسلم {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} هو هاد يدل ويرشد إلى أقوم الطرائق وأقوم السبل، التي من أراد أن يسلكها فإنه على نجاة، ومن خالف ذلك فإنه ابتغى ما ليس بطريق قويمة.

أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله أقام الحجة بهذا القرآن، أقام الحجة على العباد بهذا القرآن وإنها لحجة عظيمة عظيمة، وإن استخف بها الأكثرون، ولم يرعها حقها أكثر الناس {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف:103]. إن هذا القرآن بين أيدينا، إن هذا القرآن بين أظهرنا، إن هذا القرآن هو الذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم، بين أيدينا اليوم كما كان بين أيدي الصحابة إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً بين أظهرهم وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام.

ولكن أولئك الأقوام أخذوا بهداية القرآن، أخذوا بأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ولم يتخذوا القرآن مهجوراً بالعلم به وبالعمل. إن هذا القرآن أخذه سلف هذه الأمة أخذوه ليأخذوا منه كل خير، ليأخذوا منه ما أمر الله به وما نهى ليأخذوا منه ما أوجب الله جل وعلا فيه وما حرم ليأخذوا منه ما أخبر الله به من أمور الغيبيات فيعتقدوا ذلك ويدعوا الناس إليه {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} {يهدي} يدل ويرشد {للتي هي أقوم} من السبل.

ففي مجال العقيدة، في أمر الله الأعظم ألا وهو أن يعبد وحده لا شريك له يأخذ القرآن وهو يهدي للتي هي أقوم، وغيره يهدي للضلالة، يهدي لطريقٍ ملتبسة يهدي لطريقٍ مظلمة، يهدي لطريقٍ معها الخسار في الدنيا والآخرة، فالله جل وعلا هدانا، بيّن لنا وأرشد في هذا القرآن العظيم أن حقه جل وعلا أن يعبد وحده لا شريك له.

{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين} [الزمر:65-66].

هذا بيان الله للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن عبد مع الله غيره أو أشرك مع الله جل وعلا إن أشرك مع الله أحداً ليحبطن عمله وهو عليه الصلاة والسلام، وهو النبي المكرم الذي ما من عمل صالح إلا أتاه، ولكن إذا طرأ على عمل العبد الصالح الشرك الأكبر بالله جل وعلا حبط العمل {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً}[الفرقان:23] فهدى الله الناس للتي هي أقوم وبيّن في هذا القرآن أن العبد وإن كان من أهل الصلاة وإن كان من أهل الزكاة، وإن كان قائماً بالأركان والواجبات وفاعلاً ما فعل من الجهاد ومن أعظم القربات عند الله لكن كان عمله على الشرك فليس هو بخير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله له: {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}[الزمر:65].

لأن حق الله أعظم، لأن حق الله أجل، ومن الناس من لم يهتد بهداية القرآن فظن أن للبشر مقاماً لو أشركوا بالله وعبدوا غيره فإنهم لن يخرجوا من هذا الدين أو لن تحبط أعمالهم فاعتقدوا في بعض الناس ممن يشرك بالله اعتقدوا فيهم ما اعتقدوا ورفعوهم مقامات، مع أنهم مشركون حصل منهم الشرك بالله، وهذا نبي الله هدانا الله جل وعلا به للتي هي أقوم، وبالقرآن للتي هي أقوم، وفيه أن من عمل الشرك ليحبطن عمله ولو كان أصلح الصالحين، ولو كان نبياً من الأنبياء.

لكن من العبرة أن من البشر من يعظم حق البشر، ولا ينظر إلى عظم المعصية، ولا ينظر إلى عظم حق الله جل وعلا وأن من أشرك بالله جل وعلا فإنه صادق عليه قوله جل وعلا: {لئن أشركت ليحبطن عملك} فلا يغتر إذاً بعبادة عابد ولا جهاد مجاهد ولا دعوة داعٍ إذا كان قائماً على الشرك بالله، إذا كان لا يعرف الطاغوت، لا يعرف الطاغوت من التوحيد، لا يعرف الشرك من الحق، لا يعرف عبادة الله وحده وأنها الحق، وأن عبادة غيره هي الباطل {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل وأن الله هو العلي الكبير} [لقمان:30]. تذكر هذه الهداية وليكن وزنك للناس وللفئات وللجماعات وللدول ولكل ما ترى على هذا المقياس العظيم الذي هدانا الله به للتي هي أقوم بقوله جل وعلا لنبيه: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}.

مهما كان عليه من الأمر فهو من الخاسرين في الدنيا ومن الخاسرين في الآخرة.

هدانا الله أيها المؤمنون بهذا القرآن إن كانت لنا قلوبٌ تعي، وإن كانت لنا أفئدةٌ تعي، هدانا الله بهذا القرآن أن طاعة الرسول واجبة، وأن طاعته من طاعة الله، فأمر الله رسوله بأن يبلغ الدين، فبلغنا محمد صلى الله عليه وسلم أوامر الله وبلغنا نواهيه بهذا القرآن وبسنة العدنان عليه الصلاة والسلام.

ولكن من الناس من لم يقبل هذه الهداية، دُل وأُرشد وبُين له، وأقيمت عليه الحجة ويسمع القرآن ويعي معناه وليس ثم شبهة في فهم المعنى عنده ولكنه مع ذلك لا يقبل هذه الهداية للتي هي أقوم أو بعضهم يقبلها ولكن لا يعمل بها، فله نصيب ممن اتخذوا هذا القرآن مهجوراً.

أمر الله بالصلوات وأمر بالصدقة والزكاة وأمر بأركان الإسلام وأمر بأداء الأمانات ونهى عن الغش ونهى عن الغرر ونهى عن أكل أموال الناس بالباطل ونهى عن الظلم، ظلم الناس في أعراضهم وفي أولادهم وفي أموالهم وفي أنفسهم، وأمر الله جل وعلا بحفظ العقول، وأمر الله جل وعلا بالعدل والإحسان، وكل ذلك من الهداية للتي هي أقوم، فأمر الله بالعبادات للتي هي أقوم وبلغها رسوله، وأمر الله بالمعاملة بالتي هي أقوم وبلغها رسوله عليه الصلاة والسلام.

ومن ذلك، مما بلغ عليه الصلاة والسلام أن الله جل جلاله حرم الربا وأمر بالعدل وحرم الغرر وأمر بأداء الحقوق وحرم الرشوة وأمر بالعدل بين الناس في التساوي وبالتساوي في الفرص وفيما يستحقونه وأمر الله جل وعلا في المعاملات بأن تكون المعاملات على خير وألا يرتكب فيها ما نهى الله، وبين رسوله أن كل شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائة شرط فضعُف بعض المسلمين في الإيمان وتركوا هداية القرآن وأخذوا بالربا الذي يمارسه الكفرة، وأخذوا بالغرر الذي يمارسه الكفرة، وأخذوا بأنواع من المعاملات استجلبوها من بلاد الكفر، من طرائقهم في البيع والشراء وأكثرها محرمٌ لما يشتمل عليه من الظلم والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، والنبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه نهى عن الغرر، قال العلماء: النهي يدل على الفساد، فكل معاملة اشتملت على غرر فهي معاملة فاسدة، كذلك البيوع، كذلك أنواع المعاملات التي تشتمل على شروط باطلة فإن هذه الشروط إذا كان العقد في أصله صحيحاً، إن هذه الشروط باطلة، وإن أحق الشروط أن يوفى به ما أذن الله جل وعلا به وما أمر به، وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، وانظر ترى ما حلّ بالمسلمين من أنواع ظلم بعضهم بعضاً في الأموال، وأكثر الناس لا يشعر بذلك، والله جل جلاله هدى بهذا القرآن للتي هي أقوم، والله جل جلاله هدى وبيّن وأرشد ما يجب أن يتبع في أمور العقيدة وفي أمور المعاملة وفي أمور العبادة، لكن هل يأخذ بذلك المسلمون أم أنهم يترددون وتضعف أنفسهم أمام ما يأتيهم من الغرب أو الشرق، أمام الشبه وأمام الشهوات.

هدى الله في هذا القرآن المؤمنين لما به تصح قلوبهم وتطيب أرواحهم فتكون عباداتهم خاشعة وتكون صلتهم بالله قائمة على تعظيمه وتبجيله.

هدى الله المؤمنين إلى سبب ذلك وإلى أسباب ذلك، ومنها غض البصر عن المحرمات والبعد عن الزنا وما يقرب إليه، فأبى كثير من المسلمين ذلك فلم يغضوا البصر عما حرم الله، لم يغضوا البصر عن الشهوات، عن شهوات النساء، وأطلقوا أبصارهم، ولذلك تجد أن صلاة أكثرهم ليست بخاشعة، وأن أُنسه بالله ليس كاملاً، بل إن أُنسه بالله ضعيفٌ ضعيف، لأن الصورة إذا اشتغل القلب بها وأنست بها العين وحلت بالقلب فإنها تضعفه التعلق بالله {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم} [النور:30]. فمن أراد الزكاة، من أراد تزكية النفس {قد أفلح من زكاها} [الشمس:9]. من أراد الفلاح بالتزكية فليبعد وليبعد عن رؤية النساء وعن إطلاق البصر بالشهوات، فإن غض البصر به يورث النور في القلب. وإن النور في القلب نور الإيمان ونور العلم ونور العمل سبيلُه غض البصر، والطريق إليه أن تغض البصر تعظيماً لله جل وعلا.

والله حرم الزنا وحرم الوسائل إليه {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً} [الإسراء:32]. ومن قُرْب الزنا أن يستأنس المرء برؤية الصور المحرمة، سواءٌ كانت صوراً لنساء تعرض في التلفاز أو تعرض في الأفلام أو نحو ذلك أو كانت صوراً على الطبيعة، فإنه لا فرق بالتأثر بين هذا وهذا، لأن الأثر في القلب واحد فالصورة صورة، والتعلق بها يذهب نور الإيمان من القلب ويذهب الأُنس بالله.

{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات} [الإسراء:9]. إنها بشارة للذين يعملون الصالحات، للذين أخلصوا وتابعوا محمداً صلى الله عليه وسلم في العمل وأخذوا بهداية القرآن فلهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة. هدانا الله في هذا القرآن لأداء الحقوق وللبعد عن شرب الخمور، هدانا الله في هذا القرآن للتعاون على البر والتقوى وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هدانا الله في هذا القرآن لاتباع السنة وطاعة الله ورسوله، هدانا الله في هذا القرآن للتحبيب لطرق نيل الجنة، هدانا الله ودل وأرشد إلى ما به نتباعد من النار، هدانا الله إلى ما به تزكو نفوسنا وتطيب أرواحنا، ولكن الشأن في المسلمين، هل يأخذون بهداية القرآن وبما بينه النبي صلى الله عليه وسلم أم أنهم يسترسلون مع الشهوات {حتى إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون} [المؤمنون:99-100].

أيها المؤمن: إن المسألة خطيرة، إن مسألة الحياة ليست بالسهلة، ففكر، فكر إن الحياة ميدانٌ قصير والآخرة هي عمرك الباقي الطويل الذي لا انقطاع له، فإن آثرت هذه الدنيا على الآخرة فلست بذي لُب ولست بعاقل ولا تعرف مصلحة نفسك.

ثم تأمل، تأمل فيما به نجاتك يوم القيامة وأدم النظر والتدبر بهذا القرآن، وأطع الله ورسوله فإن في ذلك الفوز والنجاة.

اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا ممن قبل وعمل بهداية القرآن، ولا تجعلنا من المعرضين ولا الجاهلين ولا الغافلين، نعوذ بك من الغفلة ونعوذ بك من الجهل وأنت أرحم الراحمين، وأجود الأجودين وأكرم الأكرمين.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} [سورة العصر].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله فإن بالتقوى نجاتكم فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

واعلموا رحمني الله وإياكم أن من صلى على محمد صلى الله عليه وسلم صلاة واحدة صلى الله بها عليه عشراً وقد أمر الله بذلك في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.