الحمد لله القائل:
﴿ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ﴾ [النساء: 103]، وأشهد أن لا إله إلا الله، فرَض علينا الصلاةَ وجعلها ركنًا من أركان الإسلام، فمن أقامها أقامه، ومن هدَمها هدمه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أمره ربُّه - جل وعلا - بإقامتها، كما أمره أن يأمر أهله بها، فقال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والخاشعين والخاشعات، والذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، أعدَّ الله لهم مغفرة وأجرًا عظيمًا.
أما بعد:
فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، واعلموا أن كل مسلم يهدف إلى الخير ويروم الغاية المحمودة، ولا بد أن يتحقَّق في عمله شرطانِ أساسيان يبني عليهما صحةَ عمله وصلاحه، وقَبُوله عند الله تعالى:
أولاً: الإخلاص لوجه الله الكريم، فالأعمال المقبولة المعتبرة شرعًا هي ما أُسِّس على النية الخالصة لله - عز وجل - قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما الأعمال بالنيات))، فلا عمل إلا بالنيَّة.
الثاني: أن يكون هذا العمل موافقًا لما جاء به الرسول -صلى الله عليه وسلم- فإن العمل إذا لم يكن فيه متابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم- فهو مردودٌ على صاحبه مهما اجتهد وزاد؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((من عمِل عملاً ليس عليه أمرنا، فهو ردٌّ))، وجمَعَ هذينِ الشرطين - أعني: الإخلاص والمتابعة - قولُه تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2].
فمعنى أحسن: أصوب وأخلص، وقولُه تعالى: ﴿ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ﴾ [آل عمران: 31].
فثمرةُ الإخلاصِ والمتابعة محبَّةُ الله تعالى لنا، ومغفرته لذنوبنا، وهما خير رِبح للعبد، وأفضل ثمرة يجنيها العبد أن يَقدَم على الله تعالى وهو محبوب عنده، وقد غفر ذنبَه، وستر عيبَه، وأمَّن رَوعتَه، ومما يجب أن ننتبِه له إخلاصًا ومتابعة الصلاةُ وما يتعلَّق بها، وقد عرفنا مكانتها في الإسلام، وحُكمَ أدائها مع الجماعة، وهناك أمور تُتمُّها وتُكمِلها، منها: الخشوع؛ فإنه لب الصلاة وأساس قَبُولها، وعدم الخضوع خطر عليها يُهدِّدها بالفساد، فقد يَخرُج الإنسان من الصلاة وليس له من صلاته إلا نصفها، أو رُبُعَها، أو عُشرها، وحين ينتهي منها وقد أتم ركوعها وسجودها، وأكمل شروطها وأركانها وواجباتها، فإنها تصعد إلى السماء ولها نور وتفتح لها أبواب السماء، وإن كانت فاسدة أُغلقت أمامها أبواب السماء، ولُفَّت كما يُلَف الثوب الخَلِق ثم يُضرب بها وجهُ صاحبها، وأفضل ما يتَّصِف به المؤمن الخشوع في الصلاة، كما بدأ الله تعالى به صفات المؤمنين الذين أثبت لهم الفلاح والنجاح في جنة عدن التي غرَسها الله تعالى بيده الكريمة، وقال لها: تكلَّمي، فقالت: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾ [المؤمنون: 1، 2].
ومما يجب التنبه له لمن صلى مع الإمام:
ألا يُسابِقه بركوع ولا بسجود، ولا برفع ولا بسلام؛ فإن ذلك يَحرُم، وقد تَبطُل الصلاة إذا تعمَّد سبقَه، قال -صلى الله عليه وسلم-: ((إنما جُعِل الإمام ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه؛ فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركَع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمِده، فقولوا: ربنا ولك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا)).
وجاء الوعيد الشديد لمن سبق الإمام في قوله -صلى الله عليه وسلم-: ((أمَا يخشى الذي يرفع رأسَه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسه رأسَ حمار؟!))، ومعلوم أن عدم الخشوع أقوى سببٍ لسبق الإمام، وكثرة الحركة والعبث من اشتغال في ساعة أو ملابس أو شعر أو غير ذلك، ولقد جاء في الأثر عن سعيد بن المسيب: أن رجلاً كان يعبث في لحيته وهو يُصلِّي، فقال: "لو خشع قلب هذا، لخشعتْ جوارحُه".
ومما يجب التنبه إليه أيضًا في الصلاة مع الجماعة تسويةُ الصفوف واعتدالها، ومحاذاة المناكب وتكميلها، وسد الفُرَجِ فيها، فإن هذا مُتمم لثواب الصلاة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((سوُّوا صفوفَكم؛ فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة))، وقال: ((ألا تَصُفُّون كما تَصُف الملائكة عند ربها؟))، قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: ((يُتِمون الصفوفَ الأُوَل، ويتراصون في الصف)).
وإن تقطُّع الصفوف، وخروج بعضهم عن بعض، وتخالُفَهم - لَدليلٌ على اختلاف القلوب؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: ((لتسوُّون صفوفكم أو ليُخالِفنَّ الله بين قلوبكم))، وإن تسوية الصفوف وتقارُبَها مظهرٌ من مظاهر العزة والقوة، وإنه يعين على جهاد النفس؛ ولهذا شرع الله تعالى أن يَصُفوا للجهاد كما يَصُفون للصلاة، وأثبت محبَّتَه لهؤلاء فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ ﴾ [الصف: 4].
ولهذه الحِكم الواضحة، والمعاني السامية، شُرع للإمام أن يأمر الجماعةَ بأن يعتدلوا ويستووا بعد الإقامة وقبل تكبيرة الإحرام، فعلى المسلم أن يُبادِر في عبادته وعمله، في ضوء ما شرعه ربه - عز وجل - على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم.
واعلم أخي المسلم، أن أساس ما تقدَّم أن تدخُل المسجد بقلبك وقالَبك؛ فإن دخلت بجسمك وتركتَ قلبك خارج المسجد، فقد عرَّضتَ صلاتك لعدم الخشوع، ولمسابقة الإمام، وعدم ملاحظة الصفوف.
فحصول هذا كلِّه سببُ حضور القلب، ورجاء ما عند الله تعالى من الثواب، وابتغاء فضله بفعل الواجبات والفضائل، وأما عدم الخشوع ومسابقة الإمام وعدم ملاحظة الصفوف، فإن سببه فقدان القلبِ، والزهد فيما عند الله تعالى، وعدم الاهتمام به والرغبة فيه.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [المؤمنون: 1 - 11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.