الخطبة الأولى:
إنَّ الحمد لله ؛نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، فما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه ولا شرًا إلا حذرها منها ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعدُ أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم ، وراقبوه في جميع أعمالكم مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه ،{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}[الأحزاب:70-71].
أيها المؤمنون: روى البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ)) ، ورواه مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه .
ويعدُّ هذا الحديث قاعدةً جامعةً نافعة في أبواب الصدقات ، وأن الصدقة ليست منحصرةً في صدقة المال ، بل مجالها أوسع وبابها أرحب ، خلاف ما قد يُظن . بل جاء في الحديث أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من فقراء المهاجرين ظنوا شيئًا من ذلك واستفهموا من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أَنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا :«يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالأُجُورِ-وأهل الدثور أهل الأموال- يُصَلُّونَ كَمَا نُصَلِّى وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ»،فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(( أَوَلَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ مَا تَصَّدَّقُونَ! إِنَّ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً، وَكُلِّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلِّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلِّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ،وَنَهْىٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ،وَفِى بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)) قَالُوا :«يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟!»فقَالَ : ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ)) .
أيها المؤمنون: والصدقة وظيفة يومية تصاحب المسلم في كل أيامه، تتجدد معه بتجدد الأيام؛ كل يومٍ يصبح فيه ممتعًا بالصحة والعافية ينبغي أن يقابل ذلك بحمد الله وشكره على نعمائه وبالصدقات الكثيرات المتنوعات ، روى مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((عَلَى كُلِّ سُلاَمَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ -والسلامى: المفاصل- فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ وَنَهْىٌ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنَ الضُّحَى)).
فتأمل -رعاك الله- تنوع أبواب الصدقات ؛ منها ما هو قاصر على المتصدق تسبيحٍ وتحميدٍ وتكبيرٍ وتهليل ، ومنها ما هو نفعه متعد ، بل كل نفع يقدمه المرء لإخوانه المسلمين من أنواع المعروف وأبواب الإحسان وصنوف البر كل ذلك داخلٌ في الصدقات ، روى الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلاَلِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ البَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ)). فأبواب الصدقات متنوعة ؛ فيا عبد الله كن حريصًا على الصدقات مستكثرًا منها ، آخذًا بأبوابها المتنوعة ومجالاتها الفسيحة ، متقربًا بذلك إلى الله جل وعلا .
وإذا قال قائل : لا أجد مالًا ولا أجد قدرة على هذه الأشياء ؛ فانظر إلى سعة فضل الله في سؤالٍ وُجِّه إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه، ((أَنَّ رَجُلاً ، أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : الإِيمَانُ بِاللَّهِ ، وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ قَالَ : فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : تُعِينُ ضَائِعًا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ قَالَ : فَإِنْ لَمْ أَسْتَطِعْ ذَلِكَ ؟ قَالَ : احْبِسْ نَفْسَكَ عَنِ الشَّرِّ ، فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ)).
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا أجمعين لسديد الأقوال وصالح الأعمال وأن يصلح لنا شأننا كله إنه سميعٌ قريب مجيب.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ ؛ فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمد الشاكرين ، وأثني عليه ثناء الذاكرين ، أحمده بمحامده التي هو لها أهل ، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه ،وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين .أما بعد أيها المؤمنون : اتقوا الله؛ فإن من اتقى الله وقاه .
عباد الله: وأمران عجيبان غاية العجب في باب الصدقات ،وهما يتعلقان بالرجل الفقير غير الواجد للمال :
الأول منهما : أن قليلًا يتصدق به الفقير ولو درهما واحدًا من قليل ماله قد يسبق ويغلب مالًا كثيرًا يتصدق به الغني الواجد ولو كان عشرات الآلاف من الدراهم ؛ففي النسائي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سَبَقَ دِرْهَمٌ مِئَةَ أَلْفٍ))، قَالُوا : «وكَيْفَ»، قَالَ : ((كَانَ لِرَجُلٍ دِرْهَمَانِ تَصَدَّقَ بأَحَدِهُمَا ، وَانطَلَقَ رَجُلٌ إِلَى عُرْضِ مَالِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ مِئَةَ أَلْفٍ فَتَصَدَّقَ بِهَا)) ؛ الأول تصدق بنصف ماله كاملًا ، والثاني تصدق بشيء قليل من ماله ، ففرقٌ بين من يتصدق بنصف ماله وبين من يتصدق بشيء يسير منه ؛ فسبق درهم مئة ألف درهم.
والثانية وهي أعجب: وهي أن الفقير إذا كان عنده في قلبه نيةٌ صادقة بينه وبين الله يعلمها الله جل وعلا من نفسه أنه لو كان عنده من المال مثل فلان الغني المتصدق أنه يفعل مثله ، فهذا والغني المتصدق سواء في الأجر ؛ هذا بصدقته وهذا بنيته الصادقة ، روى الترمذي عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِنَّمَا الدُّنْيَا لأَرْبَعَةِ نَفَرٍ : عَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَيَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَيَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَفْضَلِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالاً فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلاَنٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لاَ يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ وَلاَ يَصِلُ فِيهِ رَحِمَهُ وَلاَ يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا؛ فَهَذَا بِأَخْبَثِ الْمَنَازِلِ ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللَّهُ مَالاً وَلاَ عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالاً لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلاَنٍ ؛ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ فَوِزْرُهُمَا سَوَاءٌ)) .
نسأل الله عز وجل أن يلهمنا أجمعين رشد أنفسنا ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
وصلُّوا وسلِّموا –رعاكم الله- على محمد بن عبد الله ...