الخطبة الأولى:
إنَّ الْحَمْدَ لِلهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإنَّ خيرَ الكلامِ كلامُ الله وخيرَ الهَدْيِ هديُ محمدٍ _صلَّى اللّهُ عليهِ وسلَّمَ- وشرُ الأمورِ مُحْدثاتُها؛ وكُلَّ مُحْدثَةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة؛ وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
◾أيها المسلمون:
في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه عنْ النَّبي ﷺ قَالَ:
[ يتْبعُ الميْتَ ثلاثْ: مالُه وأهْلُهُ وعمَلُه. فيرْجِع إثْنَان ويبْقَى واحِدٌ: يرجعُ أهلُهُ ومالُهُ، ويبقَى عملُهُ ].
وفيِ صَحِيح الْبُخَارِي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدرِي رَضِي اللهُ عنْهُ أَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ علِيهِ وَسلّمَ قَالَ: [إذا وُضِعتِ الجنازةُ واحتَمَلها الرِّجالُ على الأعْنَاق فإنْ كانت صالحةً قالت: قدِّموني، قدِّموني، وإنْ كانت غيْرَ ذَلِك؛ قالت: يا ويلَها! أينَ يذهَبونَ بها. يسْمَعُ صوتُها كلُّ شيءٍ إلَّا الإنسَان ولو سَمِعهُ الإنسانُ لصُعِق] يعني: مات.
◾أَيُهَا الْمسْلِمُون:
تأَمَلُوا هَذِينِ الْحَدِيثِين؛ تَأمُلَ منْ يَطْلبُ الإِفَادة، وَيَفْهمُ الْمَعْنَى؛ فَسوْف يَظْهرُ لَكُمْ؛ أَنَّ الْحَدِيثِين قَدْ أحْتَويَا عَلى فَوَائِدَ عَظِيمة وَمَعانٍ جَلِيلة؛ يَفْقَهُهَا كُلُّ مَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسْلام، وجَمَّلهُ بالإيِمان، وآتَاهُ رُشْدَهُ وألهمَهُ تَقْواه؛ فَكَانَ حَيْاً بِصِيرا؛ يَحْسِبُ للأمُورِ حِسابَها.
وَمِنْ تِلكُم الْفَوَائد:
▪️أولاً: التحْذِيرُ مِنَ الإغْتِرارِ بِالدُنِيا؛ لِأنَّها زَائِلة، وزَائِلٌ كُلِ مَنْ عَليْهَا.
▪️الْفَائِدةُ الثْانِية: الاسْتعْدَادُ للآخِرة؛ فَيَسْعى لَهَا الْمُسْلِمُ سَعْيها، وَيُعدُ الْعِدة كِي يَكوُنَ مِمَّن رَضِي اللهُ عَمَلَهُ وَقُوْلَه.
▪️الْفَائِدةُ الثَّالِثة: الْجِدُ فِي الأعْمَالِ الصَّالِحة؛ مِنْ طَاعَات الْمُولى جلَّا وعَلا، وَسَوَاءً كَانتْ تِلْكُمُ الأعْمَال مِمَّا فَرَضَهُ اللهُ عَلى الْعَبْد، وَأُوجَبَهُ عَليْه أَو مِمَّا هو مَنْدُوبٌ و نَافِلةٌ وسُنَّة؛ لِأنَّ الْمُسْلِم َيعْلم أَنَّ (مَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لمْ يُسرعْ بِهِ نَسَبُهُ).
وأَنَّهُ لا يُقَرِبهُ مِن ربِّهِ_ جلَّا وَعَلا_ فَيَرْفعُ درَجَاتهِ عِندهُ، وتزْدادُ بِه حسناتُه، وتُرْفع بِهِ دَرَجَاتُه، وتُكَفْرَ بهِ سِيئاتُه؛ إلَّاصَالح الأعْمال؛ الْتي جَمَعَ اللهُ لهُ فِيها بيْن الإخْلاصِ لله والْمُتابعةِ لِرسول الله ﷺ.
وَأنَّ الْمُسْلم مُلاقٍ عِند ربَّهِ جلا وعلا مَا قَدْمت يَدَاه.
قال تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى﴾ [النجم ٣١]
وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} .
فَمَا مِنْ مُؤمنٍ ولَا مُؤمنة إلَّا وَهُو يَحرِصُ عَلى أن يكوْن مُسارعاً في الْخِيرات، مُنافِساً فيِ الصَّالِحات، مُتسابِقاً في الطَّاعات؛ طامعاً في نيْلِ رفِيع الدْرَجَات عِند الله سُْبحانه وتعالى.
اللهم ألهِمنا رُشْدَنا وَقِنا شرْ أنفُسَنا وعافِنا واعفُوا عنَّا.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وأشْهدُ أن لا إِله إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شَرِيك له؛ الْمَلِك الْحقْ الْمُبين وأشْهَدُ أنَّ مُحْمداً عَبْدهُ وَرَسُوله سَيِّد وَلَد آدَمَ أجْمَعِين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّيِّبِينَ الطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا عَلىَ مرْ الليَاليِ والأيْامِ والشُهُورِ والسَّنِين.
◾أمَّا بَعدْ:
فَيَا أيُها الْمسْلمُون:
فيِ حديِثِ أبِي سَعِيدٍ الخُدري وَهو ثانِي الْحَدِيثِين؛ لفْتَةٌ جيدة بوب عليْها النَّوَوي -رَحمهُ الله- حيِن أورده ضمن أحاديث فقال : [بابُ الْجمعِ بيْن الْخَوْفِ والرْجاء].
◼ أيُها المُْسلِمون:
النَّاسُ ثلِاثةُ أصْناف في هذهِ الْمسألة:
(1) صِنفٌ يجنحُ إلى الْخَوْف حتى يَصِلَ بهِ الأمر إلى الْيأس مِنْ رحمة الله، والْقُنُوط مِنْ رحمة الله؛ لأنَّه لايُعوُّلُ على الرجاء ولا يَحْسِبُ لهُ حِسابه.
(2)والصنف الثاني :
منْ يَجْنحُ إلى الرجاء ويجْعلهُ مَسْلكا لهُ فَلا يُبالي بالْخَوْف.
وكِلا الصِنفيِن هالك؛ لِأنَّ الْأولَ؛ أنتهى بهِ الأمرُ إلى مَا يُغضِبُ الله عز وجل وهو : الْقنُوطُ من رحْمِة الله، والثاني هالِكٌ كذَلِك؛ لأنَّ الْأمرَ انتهى بِهِ إلى أنَّه لا يَعبأ بِوعدٍ ولا وعِيد، أوْ يعْبأ بالْوَعد وينسى الْوعِيد؛ فينشأُ في قلبِهِ عدمُ الْمبالاةِ بالْمعاصي صغِيرةً كانت أو كبيِرةً.
(3) والثالث : هو النَّاجي المُفلحْ الْفائِز في دُنِياه وآخِره؛ وهو مَنْ يُلهمهُ اللهُ سُبحانَهُ وتعالى فيجْمعُ بيْن الْخَوْف والرَّجاء.
وذَلِكُم أنَّ الْخَوْف: وهُو الْمحْمُودُ يرْدعُ عَن مغاضِب الله عزَّ وجل ويَحْجِزُ الْمرء عَنْ الْمعاصِي.
والرَّجاء: يُطمِعُ الْعاصِي الْمُذْنب وإن كان ذَنبًهُ كبيِرا، وخطِيئتُهُ عَظِيمة إلى رَحْمة الله سُبْحانَه وتعَالى وعفوه؛ فَلْيجأ إلى الله سُبْحانَه وتعَالى سَائِلاً الْخَلاص مِمَّا وَقَعَ فِيه مِنْ الآثَام والْخَطَايا بِالتوبةِ والاسْتغْفارِ، والأعمال الصالحة؛ وَهذا الصِّنْفُ مِنَ النَّاس قدْ أثَّنى اللهُ عليِه ورَفَعَ ذِكْرَه وأعْلى مَقَامه.
فقالجلا وعلا: {أَمََّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُواْ الألْبَابِ} [سورة الزمر:9].
والثَّناء يَظهرُ في أُمورٍ تَظمَّنتْها هَذِه الآية:
▪️أولاٌ : أنَّه عَمَرَ ليْلَه بِطاعِة الله سبحانه تعالى فأحياهُ بِذَلك مِن مَحاب الله؛ من صلاةٍ وقِراءة قُرْآن وتوبةٍ واسْتغفار؛ لِأنَّهُ عَلِمَ منْ صَحيح سِنة نبيهِ ﷺ [أنَّ الله يِنزلُ إذَا كَان الثَّلث الآخير مِنَ اللِّيل فِيُنَادِي عباده ياعبادي هل من تائبٍ فأتوبَ عليه هل من مستغفِرٍ فأغفرَ له هل من سائلٍ فأُعطيَه حتى ينفجر الفجر].
▪️ثانياً: الإشارة إلى أنَّهُم أعْلم النَّاس بالله سبحانه وتعالى. ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾
[الزمر: 9] ·
▪️وثالثاً: أنَّهم أفْطن النَّاس وأرْجَحَهُم عُقُولا؛ لِأنَّهُمْ حسَبُوا للآخِرةِ حِسَابَها ولم تُلهِهم الدُّنيا بِزُخْرِفِها قنعوا فِيها؛ بٍمَا آتَاهُم اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}[الرعد:19].
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
وصلى الله وسلَّم عَلى نَبِيْنا مُحْمَّدٍ وعَلى آلهِ وصَحْبهِ أجْمَعِينْ.