عباد الله:
لقد شرع الله - سبحانه وتعالى ـ لعباده الدعاء والتضرع والابتهال إليـه سـبحانه وتعالى في كـل الأوقات، وفي جميع الحالات ليلا ونهارا، شدة ورخاء ؛ إظهارا لافتقارهم وحاجتهم إليه، وتبرؤا من الحول والقوة إلا به تعالى، واستشعارا لذلتهم ومسكنتهم أمام الله جل وعلا ، وسـمـة مـن أجـلِّ سـمات عبوديتـه وتوحيـده وإقرارا بفضله سبحانه وتعالى وكرمه وجوده .
قال الله جل وعلا : «ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين * ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفا وطمعا إن رحمت الله قريب من المحسنين» [الأعراف: 55-56 ] أي: ادعـوا ربكـم دعـاء مسألة، ودعاء عبادة، ملحين في دعاء المسألة، دؤوبين في دعاء العبادة، مخفين هذا الدعاء؛ خشية من الرياء، طامعين في قبوله، خائفين وجلين من رده.
وقال تعالى : «فادعوا الله مخلصين له الدين» [غافر: 14].
وقال: «وادعوه مخلصين له الدين» [الأعراف: ۲۹، غافر : 65].
وفي (سنن الترمذي) وغيره عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها، حتى يسأل شسع نعله إذا انقطع».
وفي (الترمذي) أيضا عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من لم يسأل الله؛ يغضب عليه» وفيه أيضا عن أبي مسعود البدري رضي الله تبارك وتعالى عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «سلوا الله من فضله؛ فإن الله يحب أن يُسأل».
وما هذا التأكيد المتابع من الشرع في شأن دعاء الله جل وعلا إلا لـمـا يقوم بالدعاء من أنواع العبادة الكثيرة التي يحبها الله -جل وعلا- ويرضاها من عباده؛ ولذا؛ قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء هو العبادة» أي: جلها ومعظمها؛ لـمـا يشتمل عليه من ذل العبد بين يدي ربه ـ جل وعلا ـ، ومن محبة العبد لربه -سبحانه وتعالى- وهذان الأمران هما قطبا العبادة؛ لا تقوم العبادة إلا عليهما، كما قال العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
وعـــبادة الـرحمن غايـه حبـه
مـــــع ذل عابده هما قطبـــان
وعليهما فَلَكُ العبـــادة دائــر
ما دار حتى قامت القطبــــان
ولقد وعد الله جل وعلا -ووعده حقٌّ حَسْم-
من دعاه وسأله والتجأ إليه أن لا يرد سُؤْله، وأن لا يخيب مراده؛ فقال الله جل وعلا : «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون» [البقرة: 186]، وقال تعالى: « وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين » [غافر: 60].
وثبت في (المسند) وغيره عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله حيي كريم يستحي إذا مد الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين».
فاهتبلوا عباد الله هذه الفرصة الثمينة، وهذه المكرمة العظيمة، وأنزلوا حاجاتكم بالله ـ سُبحانه وتعالى ـ؛ يقضيها الله - تبارك وتعالى ـ لكـم.
عباد الله، يعرض الشيطان لكثير من الناس في شبهتـيـن ممقوتتين مردودتـيـن، بهما يزهدهم عن دعـاء اللـه سبحانه وتعالى ، هاتان الشبهتان هما:
[١] أن الله ـ جل وعلا ــ قـدَّر مقادير الخلائق قبـل أن تُخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؛ ففيم يغني الدعاء عندئذ؟! هذه شبهة.
[٢] والشبهة الأخرى: أننا نرى كثيرا من الناس يدعون الله ـ جل وعلا ـ فلا يستجاب لهم .
بهاتين الشبهنين صُرِفَ كثيرٌ من الناس عن كثرة دعاء الله - سبحانه وتعالى - وإنزال الحوائج به.
وعن كشفها نقول:
إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أزال هاتين الشبهنين و كشفها بما لا يدع مجالا في قلب مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر في وجوب إنزال حاجته بالله - سبحانه وتعالى ـ في كل وقت وعلى أي حال.
فعن الشبهة الأولى يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : «لا يُغني حذر من قدر، والدعاء ينفع مما نزل وممـا لـم ينزل، وإن البلاء لينزل، فيتلقاه الدعاء؛ فيعتلجان إلى يوم القيامة» أخرجه الحاكم، وهو حديث حسن.
وثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «لا يَرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر» .
يقول العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى -:
« للبلاء مع الدعاء ثلاث مقامات:
(١) إما أن يكـون الـدعاء أقـوى مـن البلاء؛ فعندئذ يدفع الدعاءُ البلاء.
(٢) وإما أن يكون الدعاء أضعف من البلاء؛ فيقـوى الـبلاء على الدعاء؛ فيصاب به العبد.
(٣) والمقام الثالث: أن يتقاوم الدعاء والبلاء؛ فيمنع كل منها صاحبه. » اهــ
وبهذا تنكشف هذه الشبهة، وتزول ـ إن شاء الله -؛ فلا يتعلقن بها أحد بعد سماع هذه النصوص الواضحة الجلية.
أما عن الشبهة الثانية؛ وهي قول بعضهم: إننا نرى أناسا يدعون الله ثم يدعونه فلا يستجاب لهم؛ فلا حاجة بنا إلى الدعاء عندئذ.
فالجواب عنها من وجهين:
الوجه الأول: أن سبب عدم إجابة هؤلاء الناس قد يكون عائدا إلى وجود مانع من موانع إجابة الدعاء فيهم.
وموانع إجابة الدعاء كثيرة جدا نص النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليها في أحاديث متعددة .
منها: قول النبي - صلى الله عليه وسلم ـ: «رب أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يقول: يا رب، يا رب... ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب له؟!»۔
ويقول ـ عليه الصلاة والسلام -: «يستجاب لأحدكم مـا لـم يـدع بإثم، أو قطيعة رحم، أو يستعجل يقول:
دعوت دعوت فلم يستجب لي".
وثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم: رجل تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها، ورجل كان له على رجل مال فلم يشهد عليه، ورجل آتى سفيها ماله والله يقول: «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم» [النساء: 5].
فهذه سبعة أمور تمتنع استجابة الدعاء لصاحبها أو في حالاتها، ذكرناها على سبيل التمثيل لا الحصر.
والوجه الثاني من كشف الشبهة المتقدمة، هو أن النبي -صلى الله عليه وسلم ـ ذكر أنه: «ما من مسلم يدعو الله دعوة إلا أعطاه بها إحدى ثلاث أمور : إما أن يستجيب الله ـ جل وعلا ـ له، وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من الشر والبلاء مثلها»؛ فهذه ثلاثة أمور تدور دعوتك ـ يا عبد الله ـ بينها.
إذا اتضح هذا؛ فإن بعض الناس الذين يدعون الله فلا يستجيب لهـم؛ إما أن يقوم بهـم مـانع مـن موانع إجابة الدعاء، وإما أن الله - سبحانه وتعالى ـ ادخر دعوتهم لهم في الآخرة، أو صرف عنهم من السوء مثلها، فاجتهدوا ـ عباد الله ـ في دعــاء الله - سبحانه وتعالى -، وأنزلوا حاجاتـكـم بـه دوما وأبدا، وألحوا في دعائه؛ فهو ـ سُبحانه وتعالى ـ وحده المفرج لـمـا نزل بكم من كربات، والمعطي لكم ما سألتموه من خيرات .
يقول بعض السلف: «دعوت الله ـ جل وعلا ـ بحاجة واحدة عشرين عاما ولا زلت» .
ويقول سفيان بن عيينة ـ رحمه الله تعالى ـ: «عليكم بدعاء الله، ولا يمنعكـم مـن دعـاء الله ما تعلمـون مـن أنفسكم؛ فإن الله ـ جل وعلا ـ استجاب لإبليس وهو عدو الله - سبحانه وتعالى ـ».
عباد الله:
هناك أوقات وهيئات وحالات يستجيب الله - سبحانه وتعالى ـ فيهـا الـدعاء؛ فاعرفوها، وتعرضوا لمولاكم فيها؛ تنالون ما أردتم من خيري الدنيا والآخرة.
فمن ذلك: جوف الليل الأخير؛ فهو مظنة إجابة الدعاء؛ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن ربكم ينزل في ثلث الليل الأخير إلى السماء الدنيا، فيقول: هل من مستغفر؛ فأغفر له؟ هل من داع؛ فأستجيب له؟».
ومن هذه المواضع : الدعاء بين الأذان والإقامة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ ثبت عنه أنه قال: «لا يُرد الدعاء بين النداء والإقامة».
ومن تلك المواقع: آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ أخبر: «إنّ في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يدعو الله ـ جل وعلا ـ إلا أعطاه الله ما أراده»، وهـو في أصح أقـوال أهـل العلم آخر ساعة من يوم الجمعة قبل غروب الشمس.
ومن تلك المواطن: حال نزول المطر، وحال التقاء الصفين في القتال.
ومن تلك المواطن ـ أيضا ـ: المضطر؛ فإن دعوتـه مجابـة حـتـى لـو كـان كـافرا؛ «أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف الشوء» [النمل: ٦٢].
ومن تلك ـ أيضا ـ: دعوة المسافر، ودعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم عند فطره.
وهكذا أمور كثيرة يتأكد فيها الدعاء، وترجى فيها الاستجابة رجاء قويا.
فعليكم ـ يا عباد الله ـ أن تعرفوا هذه الأوقات، وأن تدعوا الله - سبحانه وتعالى ـ فيها؛ عَلَّ الله ـ جل وعلا ـ أن يُؤتيكم سؤلكم.