الطيب والخبيث

الشيخ صالح آل الشيخ

الخطبة الأولى:

أما بعد: فيا أيها المؤمنون اتقوا الله حق التقوى.

عباد الله: يقول الله جل وعلا وتبارك وتعالى وتقدس وتعاظم: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون} [المائدة:100]. فهذا بيان من الله جل وعلا، وحكم منه أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيب، بل لا يستوي الطيب والخبيث مطلقًا، فالطيب مفضل، الطيب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل سافلين في أسفل الدرجات، الخبيث من الأقوال يدنيه الله جل وعلا في جهنم، والطيب من الأقوال يرفعه الله جل وعلا في الجنة في دار كرامته، الطيب من الأعمال يحبه الله جل وعلا، فإن الله طيبٌ لا يحب إلا طيبًا، إن الله جل جلاله طيب يحب الطيب من القول ويحب الطيب من العمل ويضاعفه لأصحابه ، الله جل وعلا يحب الطيبين من الناس، ويبغض الخبيثين من الناس، الله جل وعلا يرفع الطيب من المال ويبارك لأصحابه فيه، ويخفض الخبيث من المال ويجعله وبالاً على أصحابه.

فهذه أنحاء أربعة يكون فيها الطيب والخبث، طيب في الأقوال وطيب في الأفعال والأعمال، وطيب في الناس، وطيب في الأموال، وما يقابلها: خبث في الأقوال وخبث في الأعمال وخبث في الناس وخبث في الأموال.

وعلى هذا فلنعلم أن قول الله جل وعلا: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} [المائدة:100] نهي لنا أن نُعجب بالخبيث، نهي لنا أن نُعجب بالكثير إذا لم يكن طيبًا، فالله جل وعلا أمر ونهى، أمر أن نكون طيبين في أقوالنا وأعمالنا وذواتنا وأموالنا، ونهانا أن نكون من الخبيثين في أقوالنا وأعمالنا وفي ذواتنا، وفي أموالنا.

فانظر رحمك الله هل يستوي الذي طاب لسانه وطاب قيلُه وقوله، فهو لا يقول إلا القول الطيب، إذا حضرت مجلسه وجدته طيبًا مطيبًا إنما يذكر القول الحسن الذي فيه إرشاد للخير، أو الذي فيه صلة أو الذي فيه إصلاح بين الناس {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس} [النساء:114].

من الناس من أقواله طيبة، طيب في لسانه، لا ينطق إلا بكلام طيب حسن يُسر به سامعه، ويقربه إلى مولاه ويباعده من نزغات الشياطين، فهل يستوي من طاب لسانه مع ذلك الرجل الآخر أو تلك المرأة الأخرى الذي إذا تكلم ـ أعني الرجل ـ إذا تكلم تكلم بخبيث من القول، بغيبة، أو نميمة، أو بتفريق بين الناس، أو بنقل القالة فيما بينهم ليظهر قدر فلان من إخوانه المسلمين على الآخر، إذا تكلم فإنما يتكلم بالخبيث، يرشد إلى منكر أو يحبب إلى قبيح {هل يستويان مثلاً أفلا تذكرون} [هود:24].

لا يستوي اللسان الطيب واللسان الخبيث ولو قل كلامه مَنْ لسانه طيب، فهو أزكى عند الله جل وعلا، وإن ظنه الناس في عيٍّ من القول وعدم إفصاح وإنما ينطق بالحق وما يقربه إلى ربه جل وعلا، قال عليه الصلاة والسلام لمعاذ في وصيته له: ((وكُفَّ عليك هذا)) قال: يا رسول الله: أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم)).

أيضًا أيها المؤمنون لا يستوي ذو الطيب من الأعمال، ذو الطيب من الأفعال، وذاك ذو الخبث في الأعمال وذو الخبث في الأفعال، هذا الطيب في عمله إذا رأيته رأيت عمله طيبًا، رأيت عمله حسنًا، رأيت عمله يحبب إلى الله ويحبب الله فيه الناس، فهو لا يسعى إلا بعمله يسر به من رآه، طيبٌ في عمله مؤدٍ لأمانته، مؤدٍ لأمانته العظمى في حق الله جل وعلا بأداء فرائض الله وأداء الواجبات التي أوجبها رب الأرض والسموات، إذا عمل فإنما يعمل على وصف الشرع، فهو طيب في أعماله، راع لأمانته في وظيفته، إذا استرعي على مال حفظه، إذا استرعي على أيتام حفظهم وحفظ أموالهم، إذا استرعي على ولده حفظهم وحفظ تربيتهم، فهو طيب في عمله، طيب في فعله، والله جل وعلا طيب يحب الطيبين، والجنة دار للطيبين.

هل يستوي هذا وذاك الآخر الخبيث في عمله، والخبيث في فعله، تراه لم يرع أمانة الله مفرطاً في واجبات الله، لم يؤد الصلوات وخان الأمانة، لم يؤد زكاة المال، إذا استرعي على عمل خان، إذا استرعي على مال أكله، إذا استرعي على وظيفة ارتشى وغش وخان، وهذا عمله خبيث وعمله موبق له، إذا رأيت هؤلاء كثيرين، والطيبون قليلون الذين يرعون أمانتهم، فتذكر قول الله جل وعلا: {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} .

بعض الناس إذا رأى الأكثرين تسارعوا في الخبيث من الأقوال والخبيث من الأعمال، يقول: الناس كلهم كذلك فيحمله ذلك الظن على أن لا يكون طيبًا في قوله وفي عمله وفعله، وهذا من مداخل الشيطان على القلوب، وربك جل وعلا يقول: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .

كذلك الطيب من الناس لا يستوي مع الخبيث من الناس، المؤمن التقي الموحد لله الذي أخلص قوله وعمله لله، فليس في قلبه عمل لغير الله، إنما هو مخلص لله، مخلص في قوله، مخلص في توجهاته لله، طاب ذاتًا وقلبًا فليس في قلبه إلا محبة الله، ليس في قلبه إلى محبة رسول الله . يبغض الشرك وأهله والبدع وأهلها، يبغض ذلك متقربًا بذلك إلى الله، ويجاهد في ذلك، يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.

هل يستوي هو والآخر الذي لا يحب السنة وأهلها، الذي لا يرفع رأسه بأعظم واجب ألا وهو توحيد الله، يتساهل في ذلك إما في نفسه أو في من حوله، أو في دعوته، كل ذلك لا يستوي عند الله قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث .

إذا كثر أولئك فلنتعزَّ بقول الله جل وعلا: {وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين} [يوسف:103]، وقال جل وعلا ـ في وصف من آمن مع نوح ـ: {وما آمن معه إلا قليل} [هود:40].

فالطيب هو الذي يباركه الله جل وعلا، ويرفعه وينميه ويزكيه؛ لأن الله جل وعلا طيب لا يحب إلا طيبًا.

كذلك الطيب من المال والخبيث من المال لا يستويان؛ فالطيب في الأموال وإن قلَ فمآله إلى بركة، مآله إلى خير، بعض الناس تضيق عليه سبل الكسب فلا يحب إلا قليلاً طيبًا، فليفرح بذلك الطيب القليل؛ لأن معه بركة الله جل وعلا؛ لأن معه أن يكون نماء جسده ونماء دمه ونماء جسد أولاده من مال طيب يحبه الله، فإذا رفع ذلك الذي تحرى المال الطيب يديه إلى الله كان حريًا بأن تقبل دعوته وكان حريًا بأن يجيبه الله جل وعلا.

وكذلك لا يستوي هذا الرجل وذلك الآخر الذي تراه في عز وفي مال وفير يتنوع في الملابس ويتنوع في المراكب، وهي ليست من مال حلال، إنما هي إما من رشوة، وإما من ربا، وإما من غش وإما من خيانة لأموال المسلمين فلا يستوون عند الله، لا يستوون أبدًا، فذلك وإن كثر ماله فإنما هو مال خبيث وباله عليه في هذه الدنيا وفي الآخرة، وإذا غذي فيه جسده فإنه متوعد بأن لا يجيب الله دعوته، ثبت في صحيح مسلم أن النبي ذكر الرجل الذي يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب، قال عليه الصلاة والسلام: ((ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك))، إن الله جل جلاله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال جل جلاله: {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا} [المؤمنون:51].

نعم أيها المؤمنون: لا يستوي الخبيث والطيب لا في القول ولا في العمل، ولا في الذوات ولا في المال، ولكن الشأن كل الشأن من يروم ربه جل وعلا من يخلص لربه، من يروم جنة الله، من يروم دار الخلد ودار الكرامة ودار الطيبين، فيصبر على ألا يقول إلا طيبًا ولا يعمل إلا طيبًا، ولا يكسب إلا طيبًا فإن ذلك يحتاج إلى صبر و {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر:10]، وأسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى أن يجعلني وإياكم من الذين طابت أقوالهم وأعمالهم وطابوا ذاتًا ونفسًا، اللهم اجعلنا وذرارينا ومن نحب من الطيبين المطيبين الذين رضيت أقوالهم ورضيت أعمالهم.

واسمع قول الله جل وعلا بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله حق حمده، أثني عليه الخير كله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.

أما بعد فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بتقوى الله عز وجل فإن بالتقوى فخاركم وسعادتكم ورفعتكم في هذه الدنيا وفي الدار الآخرة.

أيها المؤمنون: لا يستوي الطيبون من الذرية، لا يستوي الطيبون من الأولاد وأولئك الخبثاء من الأولاد، تجد الطيب من الأولاد بارًا بوالديه، قريبًا من والديه، يسعى في خدمتهما، يسعى في إرضائهما، ممتثلاً في ذلك أمر الله جل وعلا حيث قال: {وقل لهما قولاً كريمًا واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرًا} [الإسراء:24].

لا يذكر من القول إلا القول الكريم الذي هو أحسن الأقوال لا يجابه والده ولا أمه وكل منهما له أعظم الحق، أعظم حق البشر للبشر، فإذا كان كذلك كان المؤمن الطيب ساعيًا في أحسن القول ساعيًا في أحسن العمل، أولئك هم الطيبون من الأولاد، الطيبون من الذرية الذين يرومون إرضاء والديهم بأنواع ما يرضونهم به مما هو في طاعة الله جل وعلا، هل يستوون مع أولئك الذين خبثت ذواتهم بأن وُكّلوا إلى أنفسهم وتسلط الشيطان عليهم ولم يتوبوا إلى الله فتجدهم عاقين بوالديهم عاقين بأمهاتهم، يدخلون البيوت ولا يقولون إلا أشر القول، ويخرجون وهم لا يعينون والديهم، لا في أمر صغير ولا كبير، تبعتهم على والديهم كبيرة، إذا تكلموا تكلموا بالخنا يفرطون في واجبات الله، لا يؤدون الصلاة، وآباؤهم وأمهاتهم قلوبهم في حسرةٍ على أولئك وعلى تلك الذرية، أولئك عليهم أن يتخلصوا من ذلك الخبث الذي جعله الشيطان في أنفسهم وأن يكونوا طيبين مع آبائهم، طيبين مع أمهاتهم، أعظم الطيب، ابتغاء لوجه الله جل وعلا ثم إرضاءً لوالديهم، وكما تدين تدان.

كذلك بعض الآباء طيب في معاملته مع أولاده، إذا عملوا أمرًا يقره الشرع ساعدهم على ذلك، وحبب إليهم ذلك، وآخرون ليسوا كذلك، بل هم في وجه مطيعين من أبنائهم يبعدونهم عن الطاعة ويحببون إليهم بطريقٍ ظاهرٍ أو بطريقٍ خفيٍ يحببون إليهم أن يبتعدوا عن الطاعة، وأولئك عليهم أن يخافوا الله جل وعلا من سوء الخاتمة وبأن يحشروا مع الذين لا يسر العبد أن يحشر معهم.

ذلك أيها المؤمنون أمر عظيم يجب علينا أن نتنبه له، وأن نكون آباءً كنا أو أولادًا، أن نكون طيبين ساعين في ذلك بكل ما نستطيع، اللهم واجعلنا كذلك وباعد بينا وبين كل أمر لا تحبه ولا ترضاه.

عباد الله: إن الله جل جلاله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته فقال قولاً كريمًا: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.