بر الوالدين

الشيخ سليمان أبا الخيل

الخُطْبَةُ الأُولَى:

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٣ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

عِبَادَ الله:

إِنَّ مَنْزِلَةَ الْوَالِدَيْنِ كَبِيرَةٌ عِنْدَ اللهِ عز وجل، ولِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ حَقَّ الْوَالِدَيْنِ بَعْدَ حَقِّهِ سُبْحَانَهُ في الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ والْإِفْرَادِ بِالْعِبَادَةِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿واعْبُدُوا اللَّهَ ولَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، وقَرَنَ في آيَةٍ أُخْرَى بَيْنَ شُكْرِهِ عز وجل وشُكْرِ الْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: ﴿ووصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وهْنًا عَلَى وهْنٍ وفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي ولِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾ [لقمان: 14].

الْوَالِدَيْنِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، وهو كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا دُخُولَ النَّارِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْعُقُوقِ يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ عز وجل بِالْإِحْسَانِ إِلَى والِدَيْهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ رَبُّنَا سبحانه وتعالى: ﴿وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولَا تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23 - 24].

وَإِنَّ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ لَعَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ويَرْجِعَ ويَنْدَمَ ويَسْتَسْمِحَ والِدَيْهِ إِنْ كَانَا حَيَّيْنِ؛ وذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا: «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وعُقُوقُ الْوالِدَيْنِ، وشَهَادَةُ الزُّورِ، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ»، وكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

فَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وبِرُّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ.

وَهَذَا الْبِرُّ لَهُ ثَمَرَاتٌ عَدِيدَةٌ في الدُّنْيَا والْآخِرَةِ؛ فَالَّذِي يَبَرُّ أَبَوَيْهِ يَكُونُ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ؛ كَمَا جَاءَ في إِخْبَارِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أُوَيْس الْقَرْنِيِّ رضي الله عنه، وكَانَ بَارًّا بِوَالِدَتِهِ، فَجَعَلَهُ اللهُ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، كَمَا أَنَّ الَّذِي يَبَرُّ والِدَيْهِ يُحْسِنُ اللهُ خَاتِمَتَهُ ويَرْضَى عَنْهُ، ويَرْزُقُهُ بِذُرِّيَّةٍ تَبَرُّهُ كَمَا كَانَ يَبَرُّ والِدَيْهِ؛ فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وإِنَّ مِمَّا ابْتُلِيَتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ في هَذَا الزَّمَانِ انْتِشَارَ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ بَيْنَ أَبْنَائِهَا، وهو كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ الَّتِي تُوجِبُ لِصَاحِبِهَا دُخُولَ النَّارِ؛ فَإِنَّ صَاحِبَ الْعُقُوقِ يُخَالِفُ أَمْرَ اللهِ عز وجل بِالْإِحْسَانِ إِلَى والِدَيْهِ؛ حَيْثُ يَقُولُ رَبُّنَا سبحانه وتعالى: ﴿وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ ولَا تَنْهَرْهُمَا وقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: 23 - 24].

وَإِنَّ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ لَعَلَى خَطَرٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنْ يَتُوبَ ويَرْجِعَ ويَنْدَمَ ويَسْتَسْمِحَ والِدَيْهِ إِنْ كَانَا حَيَّيْنِ؛ وذَلِكَ لِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ في «صَحِيحِهِ» مِنْ حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» ثَلَاثًا: «الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وعُقُوقُ الْوالِدَيْنِ، وشَهَادَةُ الزُّورِ، أَوْ قَوْلُ الزُّورِ»، وكَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مُتَّكِئًا، فَجَلَسَ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ.

فَالْإِحْسَانُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وبِرُّهُمَا مِنْ أَعْظَمِ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ والْقُرُبَاتِ إِلَى اللهِ عز وجل؛ فَهُوَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، كَمَا أَنَّهُ ضَمَانَةٌ لِبِرِّ الْأَبْنَاءِ في الْـمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ.

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ عز وجل أَنَّهُ أَوْصَى بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وإِنَّ كَانَا غَيْرَ مُسْلِمَيْنِ بَلْ كَافِرَيْنِ فَقَالَ جَلَّ وعَلَا: ﴿وإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [لقمان: 15].

والنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَطَّرَ هَذَا الْـمَعْنَى وأَصَّلَهُ ووَضَعَهُ بَيْنَ أَعْيُنِ عِبَادِ اللهِ الْـمُؤْمِنِينَ، وفِي قُلُوبِهِمْ، وفِي أَفْكَارِهِمْ وعُقُولِهِمْ؛ لَوْ وعَوْا ذَلِكَ وأَدْرَكُوهُ وعَمِلُوا بِهِ وحَقَّقُوهُ؛ فَفِي الْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ فَقَالَ: «أَحَيٌّ والِدَاكَ» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ»، وفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الآخَرِ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «أُمُّكَ»، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ «أَبُوكَ».

وفي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ الآخَرِ: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وصَلَنِي وصَلَهُ اللهُ، ومَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ».

وأَعْظَمُ الرَّحِمِ وأَبْلَغُهُ وآكَدُهُ هُمَا الْوَالِدَانِ؛ فَيَجِبْ عَلَى الْـمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُوَفَّقَ ويُسَدَّدَ ويُعْطَى الْخَيْرَ كُلَّهُ أَنْ يَبْذُلَ مَا يَسْتَطِيعُ في الْبِرِّ والْإِحْسَانِ والْعَدْلِ والرَّحْمَةِ والشَّفَقَةِ واللِّينِ والْعَطْفِ والتَّعَاوُنِ عَلَى الْبَرِّ والتَّقْوَى وبَذْلِ النَّدَى وتَحَمُّلِ الْأَذَى وكَفِّ الْأَذَى مِنْ والِدَيْهِ، وأَبْلَغُ مِنْ ذَلِكَ، أَلَّا يَنْسَاهُمَا بِدُعَائِهِ في كُلِّ الْأَوْقَاتِ والْأَزْمِنَةِ؛ لِأَنَّهُ إِنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَقُودُهُ عَمَلُهُ إِلَى الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَخْطُرُ عَلَى بَالٍ، مِمَّا يَجْعَلُ حَيَاتَهُ حَيَاةً مُطْمَئِنَّةً، واسْأَلُوا الْـمُجَرِّبِينَ يُبَيِّنُوا لَكُمْ ذَلِكَ، وإِنَّنَا نَرَى في هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْـمُتَأَخِّرَةِ ضَعْفًا في الِاتِّصَالِ بِالْوَالِدَيْنِ الْأَبِ والْأُمِّ وقِلَّةَ احْتِرَامٍ لَهُمَا، ورَفْعَ الصَّوْتِ عَلَيْهِمَا، والتَّأَفُفَّ مِمَّا يَطْلُبَانِهِ مِنْهُ، وغَيْر ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَصِلُ إِلَى الِاعْتِدَاءِ، ومَا حَدَثَ في واقِعَةٍ قَرِيبَةٍ لَيْسَ بِبَعِيدٍ

عَنَّا؛ فَانْتَبِهُوا إِخْوَانِي وأَخَوَاتِي؛ انْتَبِهُوا فَكَمَا تَدِينُ تُدَانُ، وبَرُّوْا آبَاءَكُمْ تَبَرَّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ، وكُلَّمَا قَصَّرْتَ ونَقَصْتَ وسَوَّفْتَ وأَبْعَدْتَ عَنْ حَقِّ الْوَالِدَيْنِ فَسَتَرَى ذَلِكَ عَيَانًا بَيَانًا مِنْ أَوْلَادِكَ مَعَكَ، ولَا تَسْتَغْرِبْ ذَلِكَ، ولَا تَسْتَصْعِبْهُ، واسْأَلُوا قَوْمًا فَعَلُوا هَذَا، ووَقَعُوا فِيهِ؛ فَوَاللهِ إِنَّ الْأَلَمَ لَيَعْتَصِرُهُمْ، وإِنَّ الْـحُزْنَ لَيُخَيِّمُ عَلَيْهِمْ، ويَتَمَنَّوْنَ سَاعَةً واحِدَةً أَنْ يَعُودَ والِدُهُمْ، أَوْ والِدَتُهُمْ إِلَى هَذِهِ الْـحَيَاةِ؛ لِيُؤَدُّوا واجِبَهُمْ تِجَاهَهُمْ، لَا تَصْرِفْكُمُ الصَّوَارِفُ، ولَا تَشْغَلْكُمُ الشَّوَاغِلُ، ولَا أَيُّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ عَنْ هَذَا الْوَاجِبِ الْعَظِيمِ الَّذِي قَرَنَهُ اللهُ عز وجل بِحَقِّـهِ فَـقَالَ: ﴿وقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، فَالْأَبُ يَسْهَرُ لِتَنَامَ، ويَتْعَبُ لِتَطْمَئِنَّ وتَأْكُلَ وتَشْرَبَ ويَتَوَفَّرَ لَكَ كُلُّ مَا يَلْزَمُ لِحَيَاتِكِ، وقَدْ يُسَافِرُ بَعِيدًا مِنْ أَجْلِ طَلَبِ الرِّزْقِ، ويَتْرُكُ الْأَهْلَ والْأَوْطَانَ، والْأُمُّ حَقُّهَا أَعْظَمُ وأَبْلَغُ؛ فَهِيَ قَدْ حَمَلَتْكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ في بَطْنِهَا كُرْهًا، ثُمَّ وضَعَتْكَ كُرْهًا، وطَلْقَةٌ مِنْ طَلَقَاتِهَا وزَفْرَةٌ مِنْ زَفَرَاتِهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تُوَفِّيَهَا، ولَوْ بَذَلْتَ الْغَالِيَ والنَّفِيسَ في هَذِهِ الْـحَيَاةِ طَاعَةً لَهَا، والْتِزَامًا بِحَقِّهَا، وقَدْ كَانَ ثَدْيُهَا لَكَ سِقَاءً، وبَطْنُهَا لَكَ وِعَاءً؛ حِجَرُهَا مَأْمَنٌ ورَاحَةٌ وطُمَأْنِينَةٌ لَكَ؛ وهِيَ تَمْرَضُ إِذَا مَرِضْتَ، وتَشْقَى إِذَا شَقِيتَ، وتَتْعَبُ إِذَا تَعِبْتَ، وتَتَأَلَّمُ إِذَا تَأَلَّـمْتَ، وإِذَا بَعِدْتَ عَنْهَا طَارَ قَلْبُهَا شُرُودًا وخَوْفًا عَلَيْكَ مِنَ الْأَذَى، بَلْ إِنَّ أُمَّكَ تَعْرِفُ حَالَكَ مِنْ نُظَرَاتِكَ، ومِنْ تَعْبِيرَاتِ وجْهِكَ، وتَعْرِفُ ابْنَهَا فُلَانًا مِنْ فُلَانٍ بِمِشْيَتِهِ وحَرَكَتِهِ وإِشَارَتِهِ؛ فَهَلْ نُجَازِي ذَلِكَ بِقَطْعِ هَذَا الرَّحِمِ؟ وهَلْ نُجَازِي ذَلِكَ الْإِحْسَانَ الَّذِي قَامَا بِهِ، والْبِرَّ الَّذِي يُؤَدِّيَانِهِ، وأَيْضًا ما أَوْجَبَهُ اللهُ عَلَيْنَا في حَقِّهِمَا، بِأَنْ يَصِلَ بِنَا الْأَمْرُ إِلَى شَتْمٍ، أَوْ سَبٍّ، أَوْ ضَرْبٍ، أَوْ تَرْكٍ، أَوْ إِلْقَاءٍ في أَيِّ مَكَانٍ، وتَبَرُّؤٍ مِنْ هَذَيْنِ الْوَالِدَيْنِ، نَسْأَل اللهَ الْعَافِيَةَ والسَّلَامَةَ.

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولَكُمْ.

.

.

.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الحَمْدُ لِلَّـهِ، والصَّلَاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وبَعْدُ:

عِبَادَ الله:

لَا بُدَّ مِنَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، ورِعَايَتِهِمَا بِكَافَّةِ الْوَسَائِلِ، وتَقْدِيمِ الْعِنَايَةِ بِهِمَا عَلَى الْعِنَايَةِ بِالزَّوْجَةِ والْأَبْنَاءِ.

وفِي الْـحَدِيثِ الطَّويلِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الإِمامُ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: «انْطَلَقَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَتَّى أَووُا الْـمَبِيتَ إِلَى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الْغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لَا يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللهُمَّ كَانَ لِي أَبَوانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وكُنْتُ لَا أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا ولَا مَالًا، فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا فَوجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، وكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ والْقَدَحُ عَلَى يَدِي أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لَا يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ».

فَفِي هَذَا الْـحَدِيثِ نَرَى هَذَا الْعَبْدَ الصَّالِحَ الَّذِي قَدَّمَ مَحَبَّةَ والِدَيْهِ عَلَى مَحَبَّةِ أَبْنَائِهِ وزَوْجَتِهِ كَيْفَ أَنَّ اللهَ فَرَّجَ كُرْبَتَهُ واسْتَجَابَ دُعَاءَهُ.

وقَدْ سُئِلَ الْـحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: مَا بِرُّ الْوَالِدَيْنِ؟ قَالَ: «أَنْ تَبْذُلَ لَهُمَا مَا مَلَكْتَ، وأَنَّ تُطِيعَهُمَا فِيمَا أَمْرَاكَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْصِيَةً».

وقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رحمه الله: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ كَفَّارَةُ الْكَبَائِرِ»، وذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ السَّمَرْقَنْدِيُّ: «أَنَّ مِنْ حُقُوقِ الْوَالِدِ عَلَى ولَدِهِ أَنْ يُطْعِمَهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَى طُعْمَةٍ، ويَكْسُوهُ إِذَا قَدَرَ».

وذَكَرَ أَنَّ الْـحَدِيثَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾ [لقمان: 15] عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «الْـمُصَاحَبَةُ بِالْـمَعْرُوفِ أَنْ يُطْعِمَهُمَا إِذَا جَاعَا، ويَكْسُوَهُمَا إِذَا عَرِيَا. ومِنْ حُقُوقِهِمَا خِدْمَتُهُمَا إِذَا احْتَاجَا أَوْ أَحَدُهُمَا إِلَى خِدْمَةٍ، وإِجَابَةُ دَعْوَتِهِمَا، وامْتِثَالُ أَمْرِهِمَا، مَا لَمْ يَكُنْ مَعْصِيَةً، والتَّكَلُّمُ مَعَهُمَا بِاللِّينِ، وأَلَّا يَدْعُوَهُمَا بِاسْمِهِمَا، وأَنْ يَمْشِيَ خَلْفَهُمَا، وأَنْ يَدْعُوَ اللهَ لَهُمَا بِالْـمَغْفِرَةِ».

عبادَ اللهِ:

صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.

اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ ولِيَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليِّ عَهْدِه الأمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.

اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا.

اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.

وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ.