الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يا عباد الله:
إن الله عز وجل أكرم هذه الأمة فجعلها أمة وسطا، «وكذلك جعلتكم أمة وسطا» [البقرة: 143]، وأرسل لها سيد ولد آدم ﷺ رحمة للعالمين، «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» [الأنبياء:107]، وجعل لها دين العدل والرحمة والإحسان، وبين حال أهل الإيمان وأهل الكفران، بيانا عادلاً لبس فيه اعتداء ولا طغيان، وحفظ للناس دينهم بأعظم حفظ، وحرم الاعتداء عليهم بتكفيرهم وإخراجهم عن دينهم بلا برهان، بل بظن أو بهتان.
فقال رسول الله ﷺ : «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء به أحدهما». متفق عليه.
وفي رواية عند مسلم: قال رسول الله ﷺ: «أيما امرئ قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، إن كان كما قال، وإلا رجعت عليه».
الله أكبر يا عباد الله! ما أعظمه من خبر! إذا سمعه عاقل أبعد نفسه عن هذه المخاطر، ولم يزج بنفسه
في هذه المزالق.
وقال النبي ﷺ : «من حلف بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به في نار جهنم، ولعن المؤمن كقتله، ومن رمى مؤمنا بكفر فهو كقتله» رواه البخاري.
فرمي المؤمن بالكفر -يا عباد الله - كقتله عمدا في الإثم، وزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مؤمن
غير حق.
وقال حذيفة رضي الله عنه: قال رسول اللہ ﷺ: «إنما أتخوف عليكم رجلاً قرأ القرآن، حتى إذا رؤيت بهجته عليه، وكان ردءا للإسلام، غيره إلى ما شاء الله، فانسلخ منه، ونبذه وراء ظهره، وسعى على جاره بالسيف، ورماه بالشرك»، قال: قلت: يا نبي الله، أيهما أولى بالشرك، المرمي أم الرامي؟ قال : « بل الرامي».
هكذا جاء ديننا يا عباد الله، محذرا أتباعه من اتهام الناس بالكفر بلا بينة ولا برهان، وفهم ذلك صحابة رسول الله ﷺ، وأعملوه إعمالاً صحيحا، فسلم لهم دينهم، واستقامت لهم حياتهم، حتى ظهر في المسلمين فرقة نبذت فهم الصحابة وراءها ظهريًا، وظنت أنها أفهم لدين الله من صحابة رسول الله ﷺ فاعتدوا في التكفير، وكفروا صحابة رسول اللہ ﷺ بغير مكفر، وبَهَتُوهم بما هم منه براء، وعمدوا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على أهل الإيمان، فأظلمت أفهامهم وقلوبهم.
وكفر أوائلهم عثمان بن عفان -رضي الله عنه ورأرضاه-؛ رسول اللہ ﷺ يشهد له بالجنة، وهؤلاء المخذولون يكفرونه رضي الله عنه.
يقول ابن كثير: ومر رجل على عثمان ورأسه مع المصحف، فضرب رأسه برجله، ونحاه عن المصحف، وقال: ما رأيت كاليوم وجه كافر أحسن، ولا مضجع كافر أكرم!
وكفروا عليا رضي الله عنه ومن معه من صحابة رسول الله ﷺ بما ليس حراما، فضلاً عن أن يكون كفرا.
وشايعهم على الاعتداء في التكفير الرافضة الذين أعمى الحقد على صحابة رسول الله ﷺ أبصارهم، وأظلم بقلوهم، لأن الصحابة رضوان الله عليهم أطفأوا نار المجوس، وكسروا دولة أجدادهم، فأكفروا صحابة رسول اللہ ﷺ في الجملة، ووصفوا الشيخين -أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بأقبح أوصاف الكفر،
فكان هذا - يا عباد الله - أول الاعتداء في التكفير في أمة محمد ﷺ، والذي قاد أصحابه إلى استحلال الدماء المعصومة، فكان من عرس الاعتداء في التكفير أشر الفرق الضالة.
وفي زماننا هذا -يا عباد الله - ظهرت جماعات يقودها جهلة، تحمل هذا الفكر المتطرف، والنظرة السوداء للمجتمع، والعزلة عنه، وحصر الخير فيهم، واعتماد العمل السري، وخرجت جماعات متطرفة اعتمدت التكفير عقيدة لها، والعنف والتدمير والتفجير والاغتيالات طريقا لها.
ومنها جماعة امتد نشاطها في بلاد مختلفة، وعانت أمة الإسلام من امتداد فكرها، وتجرعت مرارة الأسى من آثار مبادئها، ووصف الإسلام بما هو منه براء من خلالها، إنها الجماعة التي تسمي نفسها جماعة المسلمين، وهي جماعة التكفير والهجرة.
وقد صار لها أتباع من جماعات مختلفة، وقد ظهرت في زماننا مؤلفات أعطيت أكبر من حجمها، وروج لها في ديار المسلمين لنشر فكر التكفير بطريقة بطيئة، ولكن أكيدة المفعول، حيث أعادت تلك الكتب صياغة فكر التكفير في لباس لغوي قشيب، ظاهره فيه الرحمة، وباطنه وحقيقته العذاب والضلال..
حتى جاء في أحدها: لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بـ(لا إله إلا الله)، فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان، ونكصت عن (لا إله إلا الله)، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن (لا إله إلا الله) –أي من أمثالكم يا عباد الله! دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول، وهو يرددها.
وجاء فيه: البشرية بحجملتها بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات (لا إله إلا الله) بلا مدلول ولا واقع، وهؤلاء أثقل إثما وأشد عذابا يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد من بعد ما كانوا في دين الله .
إلى غير ذلك من العبارات التي فيها التكفير العام الجائر للمسلمين، وهذا بعينه -يا عباد الله - ما نسمعه اليوم من المعتدين في التكفير، فهو خلاصة كلامهم الذي يرددونه.
وعندما حصلت حرب أفغانستان الأولى وذهب كثير من شبابنا الطيبين إلى ذلك البلد لقتال الشيوعيين استغلت الجماعات المتطرفة ذلك، فبدأت تغرس في نفوس أولئك الشباب التطرف، والاعتداء في التكفير، والنظرة السوداوية للمجتمعات المسلمة، حتى انتهى الحال بهم بإرسال من استجاب لهم من الشباب إلى بلدانهم للجهاد فيها بزعمهم، فظهرت التفجيرات والتدميرات في السعودية، وفي مصر، وفي غيرها، بزعم استهداف غير المسلمين، والعسكر المرتدين.
فلما مكن الله منهم أصبحوا يخرجون إلى بعض البلدان، كاليمن، والعراق، وسوريا، ينشرون فكرهم، ويريدون إقامة دولتهم، ويتصيدون أبناء المسلمين الذين أفتاهم من أفتاهم بغير علم أن الذهاب إلى تلك الديار من الجهاد في سبيل الله، فيتربصون بهم، ويغرسون فيهم التكفير، وهكذا -يا عباد الله- انتشر التكفير في عدد كثير من شبابنا.
وقد استفاد التكفيريون الذين أعماهم الحسد والحقد، أو اشتراهم أعداء الأمة والسنة، من دروس الماضي، وطوروا شبهات التكفير ووسائل إقناع الشباب بها، واستفادوا من وسائل التواصل الاجتماعي، بل ومن الألعاب الإلكترونية، وأصبحوا يمدون شباكهم إلى مختلف بقاع الأرض، وركزوا على الفتيان الصغار، والفتيات الصغيرات، مستخدمين مؤثرات نفسية كثيرة.
فأصبحت تسمع عن شباب دون العشرين يكفرون المجتمع بولاته، وعلمائه، ورجال أمنه، بل وبعامته، ويستحلون الدماء، ويفجرون أنفسهم لقتل تلك الأنفس المرتدة بزعمهم الفاسد، عياذا بالله من الضلال.
بل أصبحت -يا عبد الله- تسمع أن شابا صغيرا يقتل أباه، أو يجندل أمه بسكين، يضربها مرات عديدة، وإن الحصيف العاقل -يا عباد الله- ليدرك أن المآسي التي تصيب ديار المسلمين، من تفجيرات، وتقتيل، وزعزعة للأمن، إنما هي بسبب الاعتداء في التكفير.
فالواجب علينا جميعا -عباد الله- أن نبرأ إلى الله من الاعتداء في التكفير، وأن نقف صفا واحدا ، مع ولاتنا وعلمائنا في وجهه، وأن نعلم أبنائنا العدل في الأحكام، وأن ننتبه لهم من أن يصطادهم أولئك الضُّلال، حماكم الله جميعا من هذا الضلال، وحفظ الله ولاة أمورنا، وعلماءنا، ورجال أمننا، وشبابنا وشاباتنا، من كل سوء.
أقول ما تسعمون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فيا معاشر المؤمنين:
إن المؤمن سليم القلب يحب الإيمان، ويحب أن يكثر المؤمنون، ويسعى إلى تكثير المؤمنين بدعوته إلى الله، وبصبره على هذا، وبعدم إخراج المؤمنين من دينهم، كما أنه -يا عباد الله- لا يحب لأحد أن يخرج من دين الله ﷺ .
فالمؤمن سليم القلب -يا عباد الله- إذا بلغه أن كافرا دخل في دين الإسلام يفرح فرحا عظيما، وتكون هذه البشرى عنده أعظم من البشارة بكنوز الدنيا، وأما إذا سمع أن مؤمنا خرج من دينه، وخرج عن الإيمان، فإنه يحزن لذلك حزنا شديدا.
فكونوا -عباد الله- من هؤلاء المؤمنين، سليمي القلوب، وإياكم -يا عباد الله- والتعجل في التكفير والاعتداء في التكفير، فإن المؤمن إذا بلغه أن رجلا قد كفر -سواء كان حاكما أو كان محكوما- فإنه لا يسارع باعتقاد تكفيره، ولا بنشر ذلك، ولا بقول ذلك، وإنما يرد الأمر إلى العلماء الكبار، ويفرح أن الله عز وجل لم يكلفه بذلك، فيسلم المسلمون من لسانه ويده، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، ويكون على صفة المؤمنين: «وإذا جاءهم أمر من ن الأمن أو الخوف أذاعوا به، ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» [النساء:83].
فالمنافقون والجهلة -يا عباد الله- إذا جاءهم أمر عظيم - كالحكم على مسلم بالكفر، لا سيما تعلق الأمر بحاكم من حكام المسلمين- بادروا باعتقاد ذلك، ونشروا ذلك، ووزعوه بين الناس، أما أهل الإيمان فشأنهم أنهم يردون الأمر العظيم إلى الرسول الكريم ﷺ في حياته، وإلى سنته بعد مماته، وإلى العلماء الربانيين الذين عُرفوا بسنة رسول الله ﷺ.
فالله الله عباد الله في دينكم وفي دين غيركم، وإياكم والاعتداء في التكفير والتسرع في ذلك، ومن جرى على سنة رسول اللہ ﷺ في هذا الطريق سلم ورد الأمر إلى أهله، فاللهم اهد ضال المسلمين، ووفقنا إلى ما تحب وترضى يا رب العالمين.
ثم اعلموا عباد الله - أن رسولكم ﷺ قال: «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة، وفيه الصعقة، فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»، قالوا: وكيف تبلغك صلاتنا وقد أرمت؟ قال : «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أحساد الأنبياء» .
فاللهم صل على محمد ...