الاستعداد لشهر رمضان

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:١٠٢]

{يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: ١١ ].

{يأيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله، فقد فاز فوزا عظيما} [الأحزاب: ۷۰-۷۱]

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يا عباد الله:

إنكم في هذه الأيام تستعدون لاستقبال أيام مباركات، وضيف مبارك، ولنا مع هذا الأمر الجليل وقفات.

الوقفة الأولى: وقفة تدبر واعتبار.

إننا -يا عباد الله - في العام الماضي في مثل هذه الأيام كنا نستعد لاستقبال شهر رمضان، وها نحن في هذه الأيام نستعد لاستقبال شهرنا القادم، وكل واحد منا يقول لأخيه: ما أسرع ما مرت الأيام! كأننا - والله - البارحة نستعد لاستقبال شهر رمضان الماضي، وها نحن اليوم نستعد لاستقبال شهر رمضان القادم!

وصدق والله، إنها أيام مرت سريعة، وهي سنة كاملة من أعمارنا، مرت ومضت بكل ما فيها، وما بقي منها إلا ما قدمناه لأنفسنا.

وإنها -والله- لأيام تمضي ولا تعود، وإن العمر -يا عباد الله - محدود، وإن الأجل لا بد أن يأتي، وإن اليقين في الدنيا: «كل نفس ذائقة الموت» [آل عمران:185].

وإن الشأن كله - يا عباد الله - أن العبد إذا مات فحمله الناس يتبعه ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى الثالث، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله ويبقى معه عمله.

وإذا قُبِر وكان الرجل صالحا يأتيه من روح الجنة وريحانها، ويوسع عليه في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح.

وأما إذا كان الرجل على غير ذلك -فخاب وخسر عند الامتحان- يأتيه من حر النار وحمومها، ويضيق عليه في قبره، ويأتيه رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوؤك، هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: وأنت، من أنت؟ فوجهك الوجه يجيء بالشر، فيقول: أنا عملك الخبيث.

ثم يكون الشأن يوم القيامة: «والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون» [الأعراف:۸-۹].

فالعاقل -يا عباد الله - من سمع وتدبر، ونظر وتفكر، وعلم أن الدنيا فانية، وأنها سريعة الزوال، وأن المستقبل الحقيقي عند لقاء الله عنا .

ألا فيا عباد الله تفكروا، واعتبروا، وكونوا ممن يعتبر وهو حي، فيحسن سيره إلى الله، وإياكم أن تكونوا ممن يعتبر الناسُ بحالهم وهم لا يعتبرون.

أما الوقفة الثانية: فوقفة تذكير بحالنا في رمضان الماضي.

دخل علينا شهر رمضان الماضي ونحن نستقبله فرحين، نشطنا في أوله، ثم أصابنا الكسل، وأصبحنا نفرط؛ غدا نحسن، وبعد غد نحسن، حتى مرت أيام شهرنا، وودعناه ونحن نبكي على ما فرطنا وعلى ما قصرنا، والواحد منا يمني نفسه ويقطع على نفسه العهد: لإن عشت إلى قابل لأحسنن في شهري، ولأُكرِمَنَّ نفسي في شهر رمضان المبارك .

وإن ربنا سبحانه قد أمد في أعمارنا، وأسأل الله عن أن يدخلنا شهر رمضان ونحن بخير وصحة وقوة.

فعلينا -عباد الله- أن نتذكر ما قطعناه على أنفسنا، وأن نتذكر أن أيام شهر رمضان خفيفة سريعة، فلنحسن إلى أنفسنا في هذه الأيام المباركات.

وأما الوقفة الثالثة: فهي أن شهر رمضان المبارك شهر حبيب إلى الرحمن، حبيب إلى أهل الإيمان، فيه بركات ورحمة ومغفرة وإحسان.

فالواجب علينا أن ندرك عظم نعمة الله علينا بهذا الشهر المبارك، {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرءان هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} [البقرة:185].

هذا الشهر العظيم الذي كان النبي ﷺ يبشر به، ويبشر بما فيه من الخيرات، فكان النبي ﷺ يقول: «إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب الجحيم، وصفدت الشياطين»، وكان ﷺ يقول: «إذا كانت أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجان، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، وباغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك في كل ليلة» .

ومن هنا أخذ العلماء أنه يجوز للمسلم أن يهنئ المسلمين بدخول شهر رمضان المبارك وما فيه من الخيرات، وما فيه من البركات .

ألا فيا عباد الله، اقدروا لهذا الشهر قدره، واعلموا أن الله عز وجل يكرم فيه من شاء إكرامه من عباده، فأكرموا أنفسكم بالتعرض لرحمات الله عز وجل في هذا الشهر المبارك .

وأما الوقفة الرابعة: فاعلموا -عباد الله- أن الله شرع لكم في هذا الشهر عبادات كريمة يعظم فضلها، ويزداد أجرها.

أولها وأعلاها: الصيام، الذي افترضه الله عز وجل عليكم في هذا الشهر المبارك، {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة: 183].

هذا الصوم الذي له مزية عظمى، كما قال نبينا ﷺ: «كل عمل ابن آدم يضاعف، الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، يقول الله: إلا الصوم، فإنه لي، وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي»، وفي الحديث الآخر: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي».

هذا الصبام الذي اختص الله عز وجل بجزائه -فلا يعلم جزاءه ولا يعلم قدر جزائه إلا الله جل وعلا - يضاعف للعبد أضعافا مضاعفة.

فالصوم درة غالية، وكنز ثمين، يجب على المسلم أن يصونه مما يذهبه أو يذهب أجره، فيصونه عن المفطرات، ويصونه عن الذنوب، يقول النبي ﷺ: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس الله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»، فجمع النبي في هذا الحديث التحذير من المعاصي القولية والمعاصي الفعلية، فينبغي على المؤمن أن يصون صومه من هذه القاذورات، من المعاصي باللسان، من الكذب، والغيبة، والنميمة، وغيرها من معاصي اللسان، ومن معاصي بقية الجوارح، من معاصي النظر، ومعاصي السمع، ومعاصي الأيدي، ومعاصي الأرجل، وغيرها من المعاصي، فالواجب علينا -عباد الله - أن نقدر للصيام قدره.

كما أن الله عز وجل شرع لكم - يا عباد الله - قيام رمضان، وقال ﷺ : «من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فينبغي على العبد أن يحرص على هذه السنة المباركة والفضيلة العظيمة، وألا يحرم نفسه من قيام الليل في رمضان، فإن عجز عن ذلك فليحرص على أن يوتر في كل ليلة، وألا يحرم نفسه من هذا، وإن استطاع أن يقوم بعض الليالي في المسجد مع المسلمين فهذا خير وبركة.

فاتقوا الله -عباد الله - ما استطعتم، ولا تحرموا أنفسكم من هذا العمل الجليل في شهركم المبارك.

كما أن الله عز وجل شرع لكم الصدقة والإكثار منها في شهر رمضان، فكان رسولكم عز وجل أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان .

كما أن ربكم قد شرع لكم الإكثار من قراءة القرآن في شهر رمضان، فكان نبينا ﷺ يدارسه جبريل القرآن في كل ليلة من رمضان.

فأحسنوا إلى أنفسكم -عباد الله- بكثرة تلاوة القرآن في شهركم المبارك، واعلموا أن كل حرف بحسنة، والحسنة بعشرة أمثالها، والله يضاعف لمن يشاء.

ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكرموا أنفسكم في هذا الشهر المبارك، فإن الواحد منا لا يدري إذا دخل فيه؛ هل يتمه؟ وهل إذا أتمه هل يعود عليه مرة أخرى؟ ألا فاعزموا من اليوم على الإحسان فيه، فإن أحدنا إذا عزم على الخير كتب له ما نواه، وفضل الله واسع.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد الله الملك القدوس السلام، جعل ثواب الصيام تكفير الخطايا والآثام، وجعل مثل ذلك ثوابا للقيام، وأشهد أن لا إله إلا الله المعبود الحق على الدوام، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام، صـلى الله عليه وسلم أزكى صلاة وأتم سلام، ورضي الله عن آله الطيبين الأعلام، وصحابته الخيار الكرام، أما بعد:

فيا معاشر أهل الإسلام : إن الله حين قال قولاً حكيما محكما، باقيا حكمه ما بقي مسلم على وجه الأرض: «فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل» [البقرة:187]۔

وبين النبي ﷺ في أحاديث كثيرة أن الصوم يبدأ بطلوع الفجر الصادق وينتهي بغروب الشمس، فالواجب على كل مسلم إذا أدركه رمضان وكان مكلفا غير معذور، إذا علم أن الفجر قد طلع أو سمع بذلك، أن يمسك عن المفطرات بنية الصيام والتقرب إلى الله عز وجل إلى الغروب، ولا يجوز لمسلم أن يدع ذلك إلا من عذر يا عباد الله.

ومن المعلوم أن الأرض بالنسبة لهذا الزمان -أعني زمان الصيام- تنقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول: أرض يتميز فيها الليل عن النهار، ويقرب طول الليل من طول النهار، قد يزيد هذا قليلاً، وقد يزيد هذا قليلاً، وهذا لا إشكال فيه عند أحد، يمسك الناس عند طلوع الفجر، ويفطرون عند الغروب.

والقسم الثاني: أرض يتميز فيها الليل عن النهار، لكن النهار يطول طولاً فاحشا، وهؤلاء يجب عليهم أن يمسكوا إذا طلع الفجر وأن يتموا الصيام إلى الليل، بنص القرآن الكريم وأحاديث النبي ﷺ، ولا اجتهاد لأحد مع نص القرآن والحديث الصحيح عن سيد ولد عدنان ﷺ.

وفي هذا - يا عباد الله - عدل في الأحكام، فإن الذي يصوم هذا العام عشرين ساعة أو أكثر سيأتيه زمان يصوم أربع ساعات أو أقل، وهذه بتلك يا عباد الله .

وما يردده بعض الناس من أن الناس الذين يطول عندهم اليوم في أيام رمضان يصومون بتوقيت مكة، أو يصومون بتوقيت بلادهم الأصلي، لا أصل له في دين الله ، وليس عليه من نور الحق شيء ومن فعل ذلك - يا عباد الله - كأنه لم يصم، بل إنه لم يصم يا عباد الله.

فاتقوا الله وتمسكوا بدينكم، ومن كان يقول إنه لا يستطيع أن يصوم هذه الساعات في ذلك البلد الذي يكون فيه، فإنه يجب عليه - يا عباد الله - أن يهاجر من ذلك البلد، لأنه لا يستطيع أن يقيم ركنا من أركان الإسلام، ومن كان لا يستطيع أن يقيم ركنا من أركان الإسلام فإنه يجب عليه أن يهاجر .

ألا فاتقوا الله عباد الله، ولا يغرنكم كلام بعض الناس، والآراء التي ليس عليها دليل من كتاب الله، ولا من سنة رسول ﷺ.

وأما القسم الثالث: فأرض يتميز فيها الليل عن النهار، غير أن الشفق الأحمر فيها لا يغيب، بل يستمر إلى أن يختلط بضوء النهار، فهؤلاء يعرفون غروب الشمس، لكنهم لا يعرفون وقت صلاة العشاء، ولا وقت صلاة الفجر، فهؤلاء يجتهدون في تقدير وقت صلاة العشاء، وفي تقدير وقت صلاة الفجر، وأقرب وسائل الاجتهاد هنا أن ينظروا إلى أقرب بلد إليهم يظهر فيه وقت صلاة العشاء، ووقت صلاة الفجر، فيعمل بذلك يا عباد الله.

وأما القسم الرابع: فأرض لا يتميز فيها الليل عن النهار، بل يكون يومها نهارا كله أو ليلا كله، وهؤلاء يقدرون لصلاتهم قدرها، ولصيامهم قدره، فيجتهدون في تقدير الأوقات، وأقرب ما يكون ذلك بالنظر إلى أقرب البلدان إليهم.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن الصوم إكرام لكم، وليس تعذيبا لكم، ولا يقصد منه أن يشق عليكم، وإنما المقصود أن تكونوا على قرب من الله، واعلموا أن عظم الثواب مع عظم المشقة، وإذا زادت المشقة على إنسان في عمل صالح من غير قصد منه فإن ثوابه يزداد.

ولو أن مسلما -يا عباد الله- شرع في الصيام، غير أنه بسبب من الأسباب شق عليه الصيام، وخيف عليه أن يموت، أو خيف عليه الضرر الذي له أسبابه، فإنه يجوز له إذ ذاك أن يفطر يا عباد الله، ويقضي مكان ذلك اليوم يوما.

ألا فاتقوا الله عباد الله، واحمدوا الله عز وجل أن يسر لكـم فجعلكم ممن يدرك شهر رمضان، أسأل الله جل أن يبلغكم ذلك.

فاللهم صل على محمد ...