مقومات حب الوطن في ضوء تعاليم الإسلام

الشيخ سليمان أبا الخيل

الخُطْبَةُ الأُولَى: 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُه ونَسْتَغْفِرُه ونَتُوبُ إليهِ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا ومِنْ سَيِّئَاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ((١٠٢)) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾  [آل عمران: 102-103].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

عبادَ اللهِ:

إنَّ حُبَّ الوَطَنِ غريزةٌ وجِبِلَّةٌ يُودِعُها اللهُ في قُلُوبِ ونُفُوسِ وعقولِ الناسِ؛ سواءٌ أكَانُوا مُسْلِمِينَ، أو غَيْرَ مُسْلِمِينَ، فما بالُنا إذا كَانَ هذا الوَطَنُ وطَنَ إسلامٍ، ووَطَنَ قُرْآنٍ، ووَطَنَ سُنَّةٍ، ووَطَنَ تَوْحِيدٍ، ووَطَنَ إقامةٍ لِشَرْعِ اللهِ وحُدُودِه، وطَنًا يَرْعَى الحقوقَ والواجباتِ، وطَنًا يَنْظُرُ إلى كلِّ ما يَخْدُمُ الإسلامَ والمسلمينَ في مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها، وطنًا هو بلادُ الحَرَمَيْنِ، وقِبْلَةُ المسلمينَ، ومَهْوَى أفْئِدَتِهِمْ، ومُتَطَلَّعُهُمْ، يُعِينُ كلَّ مُسْلِمٍ في كلِّ أَمْرٍ، ويَنْشُرُ دِينَ اللهِ غَضًّا طَرِيًّا كما جاءَ في كِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم، ألَا يَكُونُ حُبُّه أَوْجَبَ؟! وألَا يكونُ الدِّفَاعُ عنه بالقَلَمِ واللسانِ والسِّنَانِ جهادًا في سبيل الله؟! بَلَى واللهِ.

وإنَّ حُبَّ الوطنِ لا نَقُولُه ونُنادِي به مِنْ قِبَلِ أنْفُسِنَا إذا كان بهذه المثابةِ؛ بَلْ يَشْهَدُ على ذلك الدليلُ مِنَ القرآنِ والسُّنةِ وعَمَلِ سَلَفِ الأُمَّــةِ، فالله عز وجل يقــولُ: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ ورِضْوانًا ويَنْصُرُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: ٨].

هؤلاء الرجالُ الذين خَرَجُوا مِنْ أوْطَانِهِمْ ومِنْ بَيْنِ أَهْلِيهِمْ وذَوِيهِمْ؛ لم يَخْرُجوا مَحَبَّةً للخُرُوجِ، ولا رغبةً وصُدُودًا عَنْ أوْطانِهِمْ وأموالهمْ وأولادِهِمْ؛ وإنَّما أُخْرِجُوا عَنْوَةً، مما يَدُلُّ على أنَّ حُبَّ وطَنِهِمْ مُتأصِّلٌ في قُلُوبِهِمْ ونُفُوسِهِمْ، ويَقُولُ اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ﭙ﴾ [القصص: 85]، قال ابنُ عبَّاسٍ : أي: لرَادُّكَ إلى مكةَ.

وفي حديثٍ مُرْسَلٍ عنِ الضحَّاكِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم لمَّا خَرَجَ إلى الحُدَيْبِيَةِ اشتاقَ إلى مكةَ، فأَنْزَلَ اللهُ سبحانه وتعالى هذه الآيةَ؛ ممَّا يَدُلُّ على أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم يَحِنُّ إلى مكةَ، ويُحِبُّها، ويشتاقُ إليها، ويقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ [المائدة: 33].

قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيْمِيَةَ رحمه الله: فدَلَّتْ هذه على أنَّ النفيَ والتغريبَ تَعْزِيرٌ.

وكان أَمِيرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه يَنْفِي شارِبَ الخمرِ إلى خَيْبَرَ، ونَفَى صَبِيغَ بنَ عِسْلٍ إلى البَصْرَة، كما نَفَى نَصْرَ بنَ حَجَّاجٍ إليها، لمَّا افْتَتَنَتْ فيه النساءُ، ولولا أنَّ النفْيَ مِنَ البلدِ والوطنِ عقوبةٌ؛ لَمَا فَعَلَ عمرُ رضي الله عنه ذلكَ، ودَلالَةُ الآيةِ واضحةٌ جليَّةٌ على ذلك. وقد أَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ والترمِذِيُّ وابنُ ماجه عنْ عبدِ اللهِ بنِ عدي بن الحمراءِ الزهريِّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في مكةَ: «واللهِ إِنَّكِ خَيْرُ أَرْضِ اللهِ وأَحَبُّ أَرْضِ اللهِ إِلَى اللهِ، ولَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ».

فهذه معالمُ ودعائمُ وحقائقُ مِنَ المُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم تَدُلُّ بجلاءٍ وبيانٍ على حُبِّهِ لمكةَ، نَعَمْ إنَّه يُحِبُّ مكةَ؛ لأنَّها خَيْرُ أرضِ اللهِ، وأَحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، وكذلك يُحِبُّها لأنَّها مَوْطِنُه الأصليُّ، فقَوْلُه: «ولَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ»؛ فلْنَتَأَمَّلْ في ذلكَ، ولْنَعْرِفْ هذه الجوانبَ والأمورَ؛ حتَّى لا يُلَبَّسَ علينا أو يُدَلَّسَ فيما يَتَعَلَّقُ بِصِلَتِنا ببِلادِنا ووَطَنِنَا وجَمِيعِ مُتَعَلَّقَاتِه وأحْوَالِه وشُؤونِه.

وأَخْرَجَ البخاريُّ ومسلمٌ عنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ رضي الله عنه قال: كَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم إذا عَادَ مِنَ السَّفَرِ، ورَأَى دَرَجَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ لِنَاقَتِهِ، وإنْ كانتْ دابةً أَطْلَقَهَا، وفي رواية: حَرَّكَهَا لِحُبِّها.

يقول الإمام ابن حجر العسقلاني رحمه الله: في هذا الحديث دليلٌ على فَضْلِ المدينةِ، وعلى مَشْرُوعِيَّةِ حُبِّ الوطنِ، والتَّحَنُّنِ إليه.

وفي الصحيحِ أيضًا أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «هَذِهِ طَابَةُ وهَذَا أُحُدٌ جَبَلٌ نُحِبُّهُ ويُحِبُّنَا»، فأَطْلَقَ المَحَبَّةَ على المكانِ؛ ممَّا يَدُلُّ على أنَّ حُبَّ الوَطَنِ إذا كَانَ وطَنًا إسلاميًّا فهو مَشْرُوعٌ، ويَجِبُ أنْ يَقُومَ الإنسانُ بِمَا يَجِبُ عليه تُجَاهَ هذا الوَطَنِ.

وحبُّ الوطنِ والحنينُ إليه فِطْرَةٌ وغريزةٌ في كلِّ المخلوقاتِ؛ رُوِيَ عن حكماءِ الهِنْدِ أنَّ الحَنِينَ في ثلاثةِ أَصْنَافٍ مِنَ الحيوانِ: الإبلُ تَحِنُّ إلى أوطانها، وإنْ كَانَ عَهْدُها بها بَعِيدًا، والطيرُ يَحِنُّ إلى وكْرِه وإنْ كَانَ مُجْدِبًا، والإنسانُ يَحِنُّ إلى وطَنِهِ وإن ْ كَانَ غيرُه خيرًا له منه.

فلْنَعْلَمْ هذه الحقائقَ، ولْنُدْرِكْها، ولْنُرَبِّي أنفُسَنَا عليها، ولْنَعْلَمْ أنَّنا في هذا الوَطَنِ الغالي والبلادِ الحبيبةِ بلادِ التوحيدِ مَقْصُودُونَ مُسْتَهْدَفُونَ، قد وُجِّهَتْ إلى صُدُورِ أبنائِنا وبناتِنا السهامُ المسمومةُ، فلْنَكنْ دِرْعًا حَصِينًا، وجَبَلًا صَلْدًا في مواجهةِ هذه البِدَعِ والأضاليلِ والخُرافاتِ والتلْبِيسَاتِ والشهواتِ والشُّبُهَاتِ؛ لِيَبْقَى مُجْتَمَعُنا قَوِيًّا، ووَطَنُنا عَزِيزًا شامخًا.

أَقُولُ قَوْلِي هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكُمْ، فاسْتَغْفِرُوهُ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

.

.

.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: 

الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على سَيِّدِ المرسلينَ، نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِهِ وصحبِه أجمعينَ.

ما دامَ أنَّ حُبَّ الوطنِ بهذه المثابةِ، وهو لَيْسَ بِدْعًا مِنَ القَوْلِ؛ بلْ أَمْرًا مَشْرُوعًا إذا كانتِ البلادُ بلادًا تَقُومُ على شريعةِ اللهِ، ووطنًا مُسْلِمًا فإنَّ لهذا الحبِّ والتعلُّقِ مقوماتٍ ودعائمَ لا بُدَّ مِنَ العملِ بها، وخُصُوصًا في وطَنِنا هذا المملكةِ العربيةِ السعوديةِ.

المقوِّمُ الأولُ: وأَوَّلُ أمرٍ مِنْ هذه الأمورِ -وهو سَبَبٌ لتَحْقِيقِ السعادةِ والفَلَاحِ والسرورِ والطُّمَأْنِينَةِ والنجاحِ والفوزِ في الحياةِ الدنيا وفي الآخرةِ- ؛ تحقيقُ التوحيدِ وإخلاصُ العبادةِ للهِ عز وجل غَضَّةً طَرِيَّةً كما جاءتْ في نُصُوصِ الوَحْيَيْنِ، وفَهِمَها علماءُ الأُمَّةِ منهما، يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى:  ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ويَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النساء: 48].

ويقول سبحانه: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ واحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا ولَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾  [الكهف: 110].

وفي الحديثِ الصحيحِ عنْ أنَسِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: قال اللهُ عز وجل في الحديثِ القدسيِّ: «يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقِرَابِ الْأَرْضِ خَطَايَا، وأَتَيْتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ أَتَيْتُكَ بِقِرَابِهَا مَغْفِرَةً».

هذا هو فضلُ التوحيدِ، هذه هي حقيقةُ المُعْتَقَدِ الصحيحِ، فلْنَنْهَضْ ولْنُشَمِّرْ ولْنَعْمَلْ مِنْ أَجْلِ تحقيقِها، والعملِ بها، وإثْرَائِهَا ونَشْرِها وتَدْرِيسِها وإعادَتِها كما كانَتْ في قلوبِ ونُفُوسِ آبائِنا وأجدادِنا وسَلَفِنا الصالِحِ؛ لِنَرَى ما لَا يُمْكِنُ أنْ نَتَوَقَّعَهُ مِنَ الخيراتِ والفضائلِ والشمائلِ والكمائلِ.

المُقَوِّمُ الثاني مِنْ مُقَوِّمَاتِ حُبِّ الوطَنِ:

الاعتصامُ بكِتَابِ اللهِ وسُنَّــةِ رســولِه صلى الله عليه وسلم، يقــولُ اللهُ سبحانه وتعالى:   ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ((١٠٢)) واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 102-103].

ويقول النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ: «تَرَكْتُ فِيكُمْ بَعْدِي مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا كِتَابَ اللهِ وسُنَّتِي»، وقال في الحديثِ الصحيحِ الآخَرِ: «تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْـمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا ونَهَارُهَا سَواءٌ، لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ».

المُقَوِّمُ الثالثُ: مِنْ هذه المقوماتِ التي مِنْ خلالِها يَتَأَصَّلُ حُبُّ الوَطَنِ في نُفُوسِنا ونفوسِ الأجيالِ هو لُزُومُ جماعةِ المسلمينَ وإمامِهِمْ؛ فإنَّهُ صِمَامُ أمانٍ مِنْ كُلِّ الفِتَنِ مهما صَالَتْ وجَالَتْ، ومهما رَفَعَ دعاتُهُمْ عقائِرَها. وفي الصحيحينِ عَنْ حذيفةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنه قال: قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، هل بَعْدَ هذا الخيرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ قَذَفُوهُ

فِيهَا»، قَالَ: يا رسولَ اللهِ صِفْهُمْ لناقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا»، وهنا يُدَسُّ السُّمُّ في العَسَلِ، ويُحَسَّنُ القبيحُ، ويُقَبَّحُ الحَسَنُ، وتَنْقَلِبُ المفاهيمُ، ويُصْبِحُ الحقُّ باطلًا، والباطلُ حقًّا، والضلالُ هُدًى، فَيَخْتَلِفُ الناسُ، ويَكْرَهُ بعضُهم بعضًا، وهذا واللهِ نَذِيرُ سُوءٍ.

فعَلَيْنَا أنْ نَعْلَمَ ما هو المُنَجِّي مِنْ هؤلاءِ الدعاةِ الواقفينَ على أبوابِ جَهَنَّمَ، حذيفةُ رضي الله عنه زَادَ بَيَانًا وتأكيدًا عَنِ البحثِ عنْ هذا الطريقِ والمنهجِ فقال: يا رسول الله، فإِنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ فماذا أَصْنَعُ؟ فَقَالَ له رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْـمُسْلِمِينَ وإِمَامَهُمْ»، وجماعةُ المسلمينَ في هذه البلادِ وهذا الوطنِ شَرْعِيَّـةٌ قَوِيَّـةٌ مُهابَةُ الجَانِبِ، متماسِكَةٌ يَجِبُ علينا أفرادًا وجماعاتٍ أنْ نُحِيطَها بالدُّعَاءِ، وأنْ نَتَعَاهَدَهَا بِالنُّصْحِ والْإِرْشَادِ فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ امْرِئٍ مُؤْمِنٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ عز وجل، ومُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأُمُورِ، ولُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ، فَإِنَّ دَعْوتَهُمْ تُحِيطُ بِهِمْ مِنْ ورَائِهِمْ».

قالَ شَيْخُ الإسلامِ الإمامُ الشيخُ محمدُ بنُ عبدِ الوهَّابِ رحمه الله: «لم يَدْخُلْ على الناسِ خَلَلٌ ولا نَقْصٌ في أُمُورِ دِينِهِمْ ودنياهم إلَّا بالإخلالِ بهذهِ الثلاثِ، أو بِأَحَدِها».

ونحنُ نَرَى في هذه الأيامِ مَنْ يُنَادِي بأمورٍ ومسائلَ وقضايا كُلُّها خارجةٌ عَمَّا أَمَرَ اللهُ به وأرادَه رسولُه صلى الله عليه وسلم.

المُقَوِّمُ الرابعُ مِنْ هذه المُقَوِّمَاتِ:

هو الحفاظُ على الأَمْنِ والأمانِ والطُّمَأْنِينَةِ والاستقرارِ التي نَتَفَيَّأُ ظِلَالَها صَبَاحَ مَسَاءَ، وفي كلِّ شِبْرٍ مِنْ هذه الأراضِي المباركةِ، وإنَّما يَتَحَقَّقُ إذا حَقَّقْنَا التوحيدَ، وأَقَمْنَا شريعةَ اللهِ عز وجل.

والأمنُ والأمـانُ أهـمُّ مـن المطعَمِ والمشـربِ؛ ولـذلك نَجِدُ إبراهيمَ عليه السلام لمَّا تَرَكَ ذُرِّيَّتَهُ بوادٍ غيرِ ذِي زَرْعٍ قالَ: ﴿رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ﴾ [البقرة: ١٢٦]؛ فقَدَّمَ طَلَبَ الأمنِ على طَلَبِ الرزقِ؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَعِيشُ مُسْتَقِرًّا آمِنًا مُطْمَئِنًّا، ولو كَانَ فَقِيرًا؛ لكنْ لا يُمْكِنُ أنْ يَنْعَمَ بِحَيَاةٍ إذا كَانَ خائِفًا مَفْتُونًا، ولو مَلَكَ الدُّنْيَا بحَذَافِيرِها.

فَالأمنَ والأمانَ مَطْلَبٌ ضَرُورِيٌّ، والحِفَاظُ عليه واجبٌ على كلِّ واحدٍ مِنَّا حَسَبَ استطاعَتِه، فَذلكَ، ليسَ مسؤوليةَ مؤسساتِ الدولةِ فقط؛ بل كُلُّ مواطنٍ يَجِبُ أنْ يكونَ رجلَ أَمْنٍ، وأنْ يُحَافِظَ على نَفْسِه وأُسْرَتِه ووَطَنِه ومُجْتَمَعِه، وأنْ يَكُونَ خَيْرَ داعمٍ للقِطَاعَاتِ الأمنيةِ والعسكريةِ التي تقومُ بجهودٍ عظيمةٍ وجَبَّارَةٍ في الحِفَاظِ على أوطاننَا، وتجعَلُنا آمِنِينَ مُطْمَئِنِّينَ.

عبادَ الله، صَلُّوا وسَلِّمُوا على نَبِيِّنا مُحَمَّدٍ، صَلُّوا وسَلِّمُوا عليه؛ فإنَّ مَنْ صَلَّى عليهِ صلاةً واحدةً صَلَّى اللهُ بها عليه عَشْرًا، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبَارِكْ على نبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنِ الخلفاءِ الراشدينَ، الأئمةِ المَهْدِيِّينَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعنْ سَائِرِ الصحابةِ أجمعينَ، ومَنْ تَبِعَهُمْ بإحسانٍ إلى يَوْمِ الدِّينِ.

اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رخاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.

اللهُمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنَا وولاةَ أُمُورِنا، واجْعَلْ ولايَتَنا فيمَنْ خافَكَ واتَّقَاكَ، واتَّبَعَ رِضَاكَ، يا ربَّ العالمينَ.

اللهُمَّ وفِّقْ ولِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ، ووَلِيَّ عَهْدِه محمدَ بنَ سَلْمَانَ بنِ عبدِ العزيزِ بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بعنايَتِكَ ورعايَتِكَ، اللهمَّ أَلْبِسْنَا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصحَّةِ والعافيةِ، اللهمَّ احْفَظْنَا وإيَّاهُمْ بحِفْظِكَ، اللهُمَّ زِدْنَا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا، وتمكينًا وقيامًا بكتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِه صلى الله عليه وسلم، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأُمَّةِ، اللهم جَازِهِمْ خَيْرَ الجزاءِ على ما يُقَدِّمُونَه لأبناءِ هذه البلادِ وللمسلمينَ بِصِفَةٍ عامَّةٍ، واجْعَلْ ذلك في مَوَازِينِ حسناتِهِمْ. اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القضاءِ، وشماتةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ وقَهْرِ الرجالِ، اللهُمَّ إنَّا نعوذُ بكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ الهُدَى والتُّقَى والعفافَ والغِنَى والقَصْدَ في الفَقْرِ والغِنَى، وكلمةَ الحقِّ في الغَضَبِ والرِّضَا، اللهُمَّ طَهِّرْ قُلُوبَنا مِنَ النفاقِ، وأعمالَنا مِنَ الرياءِ، وأَعْيُنَنَا مِنَ الخيانةِ، وأَلْسِنَتَنا مِنَ الكَذِبِ، اللهُمَّ إنَّا نسألُكَ العفوَ والعافيةَ والمعافاةَ الدائمةَ في الدِّينِ والدُّنْيَا والآخِرَةِ والبَدَنِ والأَهْلِ والمالِ والولدِ، اللهم اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا ورِجَالَ أَمْنِنا البَوَاسِلَ، في الحدودِ والثُّغُورِ وفي وسَطِ البلادِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ على عَدُوِّكَ وعَدُوِّنا وعَدُوِّهِمْ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ على عَدُوِّكَ وعَدُوِّنا وعَدُوِّهِمْ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، وقَوِّ عَزَائِمَهُمُ، اللهُمَّ سَدِّدْ سِهَامَهُمْ ورَمْيَهُم، اللهُمَّ جَازِهِمْ خيرَ الجزاءِ على ما يُقَدِّمُونَهُ مِنْ خِدْمَةٍ وحفاظٍ على هذا الدِّينِ وهذه العقيدةِ وهذا الوَطَنِ وهذه القيادةِ وهذا المجتمعِ الطيِّبِ المباركِ، واجْعَلْ ذلك في مَوَازِينِ حَسَنَاتِهِمْ وجهادًا في سَبِيلِكَ، اللهُمَّ أَعِدْهُمْ سالِمِينَ غانمينَ إلينا وإلى أهْلِيهِمْ وذَوِيهِمْ، ورُدَّ كَيْدَ أعدائنا وأعدائهم في نُحُورِهِمْ، إنَّكَ ولِيُّ ذلكَ والقادرُ عليه. وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نبِيِّنا محمدٍ.