الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذي جعلَ الصيامَ جُنَّةَ للصائمينَ مِن النَّار، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، خيرُ مَن صَلَّى لِربِّه وصام قام.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فلا تَزالُ نِعَمُ اللهِ علينا تَتابع، فما تأتي نِعمةٌ إلا أعقبتْها أُخْرى، يَرحمُ بها عبادَه المُحتاجينَ إلى عونِه وغُفرانِه وإنعامِه، ألا وإنَّ مِن أجلِّها وأرفعِها وأجملِها: إيجابَهُ علينا صومَ شهرِ رمضان، وما أدراكَ ما رمضان، إذ صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في شأنه:((إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ))، فَيَا لِسعَادةِ مَن أمسَكَ بزِمامِ نفسِه في هذا الشهرِ العظيم، وشمَّرَ عن ساعدِ الجِّدِ، فسَلكَ بها سَبيلَ الجنَّة، وجنَّبها سُبل النَّار، ويا خسارةَ مَن سَلكَ بها طريقَ المعصيةِ والهَوانِ، وأورَدَها موارِدَ الهلاك، وأغضبَ ربَّهُ الرحمن، وقد يُسِّرَت له الأسباب، فسُلسِلتِ الشياطينُ وصُفِّدت.
أيُّها المسلمون:
مَن لم يَتْبْ في رمضانَ فمتَى يَتوب؟ ومَن لم يُقلِع عن الذُّنوب في رمضانَ فمتَى يُقلِع، ومَن لم يَرحَم نفسَه وقتَ الصيامِ فمتَى يَرحمُها؟ وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ قُلْتَ: آمِينَ، آمِينَ، آمِينَ، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ))، فيا لِحَسرةِ وبُؤسِ وشِقوةِ مِن دخلَ في دعوةِ جبريلَ ــ عليه السلام ــ هذه، وتأمينِ سيِّدِ ولدِ آدمَ صلى الله عليه وسلم عليها، فأبعدَهُ اللهُ وأخزاهُ وأهانه.
فيَا ذا الذي ما كَفاهُ الذَّنْبُ في رجَبٍ * حتى عصى رَبَّهُ في شهرِ شعبانِ
لقدْ أظلَّكَ شـهرُ الصـومِ بعـدَهُما * فلا تُصيِّرْهُ أيضًا شهرَ عِصيـانِ
ويا باغِيَ الخيرِ أقْبِل على الصالحات واستكثِر، ويا باغِيَ الشَّرِ أقْصِر عن الآثام واهْجُر.
ولئِن كنت تُريدُ مغفرةَ الخطايا، فعليكَ بصومِ رمضان، فقد صحَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:((مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ)).
وإنْ كنتَ تُريدُ مُضاعفةَ الحسناتِ، فعليكَ بالصوم، فقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي)).
وإنْ كنتَ تُريدُ أنْ تكونَ مِن أهلِ الجنَّةِ السُّعداءِ، فلا تَغفل عن صومِ رمضان، فقد ثبتَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ، وَأَطِيعُوا ذَا أَمْرِكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ)).
وإنْ كانت نفسُكُ تَتُوقُ للمنازلِ العاليةِ الرَّفيعة، فدُونَكَ رمضان، فقد ثبتَ أنَّ رجلًا أتَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال:((يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَرَأَيْتَ إِنْ شَهِدْتُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَصَلَّيْتُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأَدَّيْتُ الزَّكَاةَ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ وَقُمْتُهُ، فَمِمَّنْ أَنَا؟ قَالَ: مِنَ الصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ)).
أيُّها المسلمون:
ها قد أقبَلَ شهرُ رمضان، شهرٌ جَعلَ اللهُ صيامَه أحدَ أركانِ دِينِه الإسلام، شهرٌ نَزَلَ فيه القرآن، شهرٌ فيه تُصَفَّدُ الشياطينُ، وتُفَتَّح أبوابُ الجِنان، وتُغَلَّقُ أبوابُ النِّيران، فاحرصوا شديدًا على أنْ تكونوا مِمَّن يُحقِّق الغرَضَ مِن صيامه، ألا وهو تقوى اللهِ سبحانه، ألا وهو أنْ يَزجُرَكُم الصيامُ ويُبعِدَكُم عن معصيةِ ربِّكم، ويَدفَعَكُم ويُقويَّكُم على العبادة، ويَجعلَكُم معها في ازدياد، طاعةً لربِّكم سبحانه القائلُ:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
أيُّها المسلمون:
إنَّ الصُّوامَ بترْكِ الطعامِ والشَّرابِ والجِماعِ وباقِي المُفطِّرات لكُثُرٌ جدًا، وهو سَهلٌ عليهم، وقد ثبتَ عن عددٍ مِن تلامذةِ الصحابةِ أنَّهم قالوا:((إِنَّ أَهْوَنَ الصَّوْمِ تَرْكُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ))، ولكنَّ الصائمَ المُسدَّدَ هو: مَن صامَتْ جوارحُهُ عن الآثام، ولِسانُهُ عن كلِّ قولٍ مُحرَّم، وبطنُهُ عن الطعام والشراب، وفرْجُه عن الجِماعِ والاستمناء والفُجور، وكما أنَّ الطعامَ والشَّرابَ يَقطعانِ الصيامَ ويُفسِدانِه، فكذلك الآثام تَقطعُ ثوابَه، وتُفسِدُ ثمرَتَه، حتى تُصَيِّرَ صاحبَهُ بمنزلة مَن لم يَصُم، وقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))، والمُراد بالزور: جميعِ الكلامِ المُحرَّم، وثبتَ عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:((رُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ الْجُوعُ وَالْعَطَشُ))، وصحَّ:(( أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَصْحَابَهُ كَانُوا إِذَا صَامُوا قَعَدُوا فِي الْمَسْجِدِ وَقَالُوا: نُطَهِّرُ صِيَامَنَا)).
أيُّها المسلمون:
أقبِلوا على تلاوةِ القرآنِ في رمضانَ كثيرًا، فلقد كان السَّلف الصالح يُقبِلونَ عليهِ في رمضانَ إقبالًا كبيرًا، ويَهتمُّونَ بِه اهتمامًا عظيمًا، ويتزوَّدونَ مِن تلاوتِه كثيرًا، فكان الشافعيُّ يَختمُ في اليومِ والليلةِ مِن رمضانَ خَتمتين، وكان البُخاريُّ يَقرأُ في كلِّ يومٍ وليلةٍ مِن رمضانَ ختمةً واحدة، وبعضُ السَّلفِ كان يَختمُ في كلَّ ثلاثةِ أيَّام، وبعضُهم كان يَختمُ كلَّ خمسةِ أيَّام، ومِنهم مَن يَختمُ كلَّ جُمعة، وكيفَ لا يكونُ هذا حالُهم مع القرآن، ورمضانُ شهرُ نُزولِه، وشهرُ مدارسةِ جِبريلَ له مع لنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وزمَنُهُ أفضلُ الأزمان، والحسناتُ فيهِ مُضاعفة، وقد قال سبحانه:{ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، وصحَّ أنَّ ابنَ مسعودٍ ــ رضي الله عنه ــ قال:((تَعَلَّمُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ يُكْتَبُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَيُكَفَّرُ بِهِ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، أَمَا إِنِّي لَا أَقُولُ: { الم } وَلَكِنْ أَقُولُ: أَلِفٌ عَشْرٌ، وَلَامٌ عَشْرٌ، وَمِيمٌ عَشْرٌ)).
أيُّها المسلمون:
صحَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم:((كَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ))، فاقتدُوا بنبيِّكُم صلى الله عليه وسلم، وجُودوا في رمضانَ كثيرًا، وأذهِبوا عن أنفسِكم لَهَفَ الدَّراهمِ، وخشيَتَها مِن الفقر، فقد قال الله تعالى معاتبًا ومُرهِّبًا:{هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ}، وإيَّاكُم أنْ تَحقِروا قليلَ الصدقة، فترُدَّكُم عن الإنفاق، فقد صحَّ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((فَلْيَتَّقِيَنَّ أَحَدُكُمُ النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، وأنَّ مِن أفضلِ الجُودِ في رمضان: تفطيرَ الصائمينَ مِن القرَابةِ والجِيرانِ والأصحابِ والفقراءِ والعُزَّابِ وغيرِهم، لِمَا ثبتَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((مَنْ فَطَّرَ صَائِمًا كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ))، نفعنِي اللهُ وإيَّاكُم بما سمعتُم، وحفِظَ لنَا صيامنا عن كلِّ ما يُفسِدُه ويُنقِصُ ثوابَه.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ذِي الفضلِ والإكرام، وصلواتُه على عبدِه محمدٍ خاتَمِ أنبيائِه، وعلى آلِه وأصحابِه الأخيار، وسَلَّم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بعد، أيُّها المسلمون:
فاتقوا اللهَ ربَّكُم حقَّ تقواه، وأجِلُّوهُ حقَّ إجلالِه، وعظِّموا أوامِرَه، وأكبِروا زواجِرَه، ولا تُهينوا أنفسَكُم بعصيانِه، وتُذلُّوا رِقابَكُم بالوقوعِ في ما حرَّم، فتنقادوا للشيطان، وتَخضعوا للشهوة، بالفطرِ في نهارِ الصومِ بغيرِ عُذرٍ شَرعيِّ، إمَّا بجِماعٍ، أو استمناءٍ، أو أكلٍ، أو شُربٍ، أو غيرِ ذلك، فإنَّ الإفطارَ قبلَ حُلولِ وقتِ المغربِ ذنْبٌ خطير، وجُرمٌ شَنيع، وتجاوزٌ لِحدودِ اللهِ فظيع، ومَهلَكَةٌ للواقعِ فيه، حيثُ ثبتَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال مُبيِّنًا عقوبةَ مَن يُفطرونَ قبْل إتمامِ يومِ صومِهم:((بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أَتَانِي رَجُلَانِ، فَأَتَيَا بِي جَبَلًا وَعْرًا، فَقَالَا: اصْعَدْ، فَقُلْتُ: إِنِّي لَا أُطِيقُهُ، فَقَالَا: إِنَّا سَنُسَهِّلُهُ لَكَ، فَصَعِدْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي سَوَاءِ الْجَبَلِ إِذَا بِأَصْوَاتٍ شَدِيدَةٍ، قُلْتُ: مَا هَذِهِ الْأَصْوَاتُ؟ قَالُوا: هَذَا عُوَاءُ أَهْلِ النَّارِ، ثُمَّ انْطُلِقَ بِي، فَإِذَا أَنَا بِقَوْمٍ مُعَلَّقِينَ بِعَرَاقِيبِهِمْ، مُشَقَّقَةٍ أَشْدَاقُهُمْ، تَسِيلُ أَشْدَاقُهُمْ دَمًا قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يُفْطِرُونَ قَبْلَ تَحِلَّةِ صَوْمِهِمْ))، فإذا كانت هذهِ هي عقوبةُ مَن صامَ ثمَّ أفطرَ عمدًا قبْل حُلولِ وقتِ الإفطار، فكيفَ ستكونُ عقوبةُ مَن لا يصومُ أصلًا.
هذا، وأسأل اللهَ أنْ يبلِّغَنا رمضان بُلوغًا حسنًا، وأنْ يُعينَنا على صيامِه وقيامِه، وأنْ يجعلَنا فيه مِن الذَّاكِرينَ الشاكرينَ المُتقبَّلةِ أعمالُهم، اللهم قِنا شرَّ أنفسِنا والشيطان، واغفر لنَا ولوالِدينا وجميعِ أهلينا، إنَّك سميع الدعاء، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم.