الجنة ونعيمها

الشيخ علي بن زيد المدخلي

الخطبة الأولى:

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ.

أما بعد، فاتقوا الله عباد الله حقَّ التقوى وراقِبوه في السرِّ والنجوى.

الجنة أيها العُقَلاء دارُ السعادة الأبدية، جعلني الله وإياكم ووالدينا وأزواجنا وأولادنا وذرياتنا من أهل الفردوس الأعلى من الجنة.

في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (قال الله عز وجل: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِيَ الصَّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر).

مصداقُ ذلك في كتاب الله، {فلا تعلمُ نفسٌ ما أُخفي لهم من قُرَّةِ أعيُن جزاءً بما كانوا يعملون}.

كيف يُقدَّر قدرُ دارٍ غرسَها الله بيده، وجعلَها مقرًّا لأحبابه، وملأَها من رحمتِه وكرامتِه ورِضوانِه، ووصفَ نعيمَها بالفوز العظيم ومُلكَها بالمُلك الكبير؟

تخيَّل، عبد الله، أن موضِعَ صوتٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها. الله أكبر!

إذا دخلَ أهلُ الجنة، الجنة يُنادي مُنادٍ:

«إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا» لَا تَخَافُوا الضَّغْطَ وَلَا السُّكَّرِيَّ وَلَا الْجَلَطَاتِ

«وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا». حياتٌ دائمة،

«وإن لكم أن تشِبُّوا فلا تهرَمُوا أبدًا»، لا ضعف في البُنية، ولا كِبَر يُهْلِكُ صاحِبَه.

«وإن لكم أن تنعمُوا فلا تبأسُوا أبدًا» النعيمُ الدائمُ الذي لا ينقطِع، لا يبغون عنها حِولًا.

تخيَّلوا عباد الله، للمؤمن في الجنة خيمةٌ من لُؤلُؤةٍ واحدةٍ مُجَوَّفة، طولُها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلُون يطوفُ عليهم المؤمن فلا يرَى بعضُهم بعضًا.

تخيَّلوا قِطفًا وعُنقودًا في الجنة، لو تناولَه النبي ﷺ منها وأخذَه لأكلنا منهما بقيت الدنيا.

يخلُق الله تعالى مكان حبَّةٍ تنقطِف حبَّةً أخرى. الله أكبر، إنه النعيم ورب الكعبة.

لكم أن تتأمَّلوا أرضَ الجنة، قد أودَعَها الله جميعَ الخير بحذافيره، وطهَّرَها من كل عيبٍ وآفةٍ ونقص.

أرضُها وتُربتُها مسكٌ وزعفران، وسقفُها عرشُ الرحمن، وحصباؤُها اللؤلؤ والجوهر، وبناؤُها لبنةٌ من فضَّةٍ ولبنةٌ من ذهب.

ما فيها شجرةٍ إلا وساقُها من ذهبٍ وفضَّة، وثمرُها أمثالُ القلال أليَنُ من الزُّبد وأحلى من العسل، وأنهارُها أنهارٌ من لبنٍ لم يتغير طعمُه، وأنهارٌ من خمرٍ لذَّةٍ للشارِبين، وأنهارٌ من عسلٍ مُصفَّى.

وطعامُ أهلِها فاكِهةٌ مما يتخيَّرون، ولحمُ طيرٍ مما يشتهون، وشرابُهم التسنيم والزنجبيل والكافور، وآنيتُهم من الذهب والفضَّة في صفاء القوارير، ما بين المصراعين من مصاريع الباب من أبواب الجنة، مسيرةُ أربعين عامًا.

فيها شجرةٌ واحدةٌ يسيرُ الراكِبُ المُجِدُّ السريعُ في ظلِّها مئةَ عام لا يقطعُها.

أما وجوهُ أهلِها وحُسنُهم، فعلى صورة القمر ليلةَ البدر.

وأما أسنانُهم فأبناءُ ثلاثٍ وثلاثين سنة على صورةِ آدم عليه السلام، أبي البشر.

حُليُّهم أساورُ الذهب واللؤلؤ، يطوفُ عليهم غِلمانٌ مُخلَّدون كأنَّهم لُؤلؤٌ مكنون.

وأما عرائِسُهم وأزواجُهم، فهنَّ الكواعِب الأتراب اللاتي جرَى في أعضائِه ماءُ الشباب.

أهلُ الجنة أيها الفُضلاء، لا يبصُقون فيها ولا يمتخِطون ولا يتغوَّطون.

أمشاطُهم من الذهب والفضَّة، ومجامِرُهم الألوة، ورَشَحُهم المِسك.

ولكل واحدٍ منهم زوجتان، يُرى مخُ سوقُهما من وراء حُلِيِّهَا من الحُسن، لا اختلافَ بينهم ولا تباغُض، قلوبُهم قلبُ رجلٍ واحد، يُسبِّحون الله بُكرةً وعشيَّا.

في الجنة أيها الفُضلاء، لا يفنَى الشباب ولا تبلَى الثياب، بل يزدادُ الحُسن والجمال، ولا يُملُّ اللقاء والوِصال.

تخيَّلوا في الجنة سوقًا يأتونَها كل جمعة، فتهبُّ ريحُ الشمال فتحثُّ في وجوههم وثيابهم، فيزدادون حُسنًا وجمالًا، فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حُسنًا وجمالًا. فتقول لهم أهلُوهم: "والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا"، فيقولون: "وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حُسنًا وجمالًا".

قُطوفُها ذانِيَة قريبة سهلة التناول، {وجنَى الجنتين دان}. قال ابن عباس رضي الله عنهما: [تدنو الشجرة حتى يجتنيها وليُّ الله إن شاء قائمًا وإن شاء قاعدًا].

قال قتادة رحمه الله: [لا يُردُّ أيديهم عنها بعدٌ ولا شوك].

تخيَّلوا عباد الله، إذا أردتَ أن تطيرَ في الجنة، تُحمَلُ فيها على فرسٍ من ياقوتةٍ حمرًا، يطيرُ بك في الجنة حيث شئت.

تخيَّلوا لو أن رجلًا من أهل الجنة اطَّلَع فبدَى أساورُه لطمسَ ضوءَ الشمس كما تطمُسُ الشمس ضوءَ النجوم.

ولو أن امرأةً من نساء أهل الجنة اطَّلَعَت إلى الأرض، لأضاءَت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحًا.

ولنصيفُها خيرٌ من الدنيا وما فيها.

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة.

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ الله لي ولكم، ولكل مسلمٍ ومسلمة ومؤمنٍ ومؤمنة، فاستغفِروه إنه كان غفَّارًا.
.
.
.
الخطبة الأولى:

الحمد لله رب العالمين العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله ﷺ.

أما بعد عباد الله: فاتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى.

تخيَّلوا عباد الله آخرَ رجلٍ يدخلُ الجنة، ينطلِقُ يرمُلُ في الجنة، حتى إذا دنَى من الناس، رُفِعَ له قصرٌ من دُرَّة، فيخِرُّ ساجدًا، فيقال له: "ارفع رأسَك، ما لك؟" فيقول: "رأيتُ ربي". أو "تراءى لِي ربي؟" فيقال: "إنما هو منزلٌ من منازلِك".

قال ثم يلقى رجُلا، فيتهيَّأ للسجود له، فيُقال له: "ما مه؟" فيقول: "رأيتُ أنك ملكٌ من الملائكة"، فيقول: "إنما أنا خازِنٌ من خُزانِك وعبدٌ من عبيدِك، تحت يدي ألفُ قهرَمانٍ على مثل ما أنا عليه".

قال، فينطلِقُ أمامَه حتى يفتحَ له بابَ القصر، وهو من دُرَّةٍ مُجوَّفة شقائقُها، وأبوابُها وأغلاقُها ومفاتيحُها منها، تستقبلُه جوهرةٌ خضراءٌ مُبطَّنةٌ بحمراء، فيها سبعون بابًا، كلُّ بابٍ يُفضِي إلى جوهرةٍ خضراء مُبطَّنة، كلُّ جوهرةٍ تُفضِي إلى جوهرةٍ على غير لون الأخرى.

في كل جوهرة سُرُرٌ وأزواجٌ ووصائف، أدنَاهنَّ حوراءُ عيناء، عليها سبعون حُلَّة، يُرى مُخُّ ساقِها من وراء حُلِيها، كبِدُها مِرآتُه وكبِدُه مِرآتُها.

إذا أعرَضَ عنها إعراضَه، ازدادَت في عينِه سبعين ضعفًا عما كانت قبل ذلك، فيقولُ لها: "والله لقد ازدَدت في عيني سبعين ضعفًا عما كنت قبل ذلك"، وتقول له: "وأنت والله لقد ازدَدت في عيني سبعين ضعفًا".

فيُقال له: "أشرف أشرف"، فيُشرف، فيُقال له: "مُلكُك مسيرةُ مئةِ عام، ينفُذُه بصرُك".

لا إله إلا الله، اللهم إنا نسألُك الفردوسَ الأعلى من الجنة.

تخيَّل عبد الله يوم يُنادِي المُنادِي: "يا أهل الجنة، إن ربَّكم تبارك وتعالى يستزيرُكم، فحيَّ على زيارته"، فيقولون: "سمعًا وطاعًة"، وينهضون إلى الزيارة مُبادِرين.

فإذا بالنجائب قد أُعدَّت لهم فيستوون على ظهورها مُسرعين، حتى إذا انتهوا إلى الواد الأفيح الذي جُعِل لهم موعدًا وجُمِعوا هناك، فلم يُغادر الداعي منهم أحدًا.

أمرَ الربُّ تبارك وتعالى بكرسيه فنُصِبَ هناك، ثم نُصِبت لهم منابر من نور، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضَّة.

وجلس أدناهم، وحاشاهم أن يكون فيهم دني، وجلس أدناهم على كُثبان المسك، ما يرَون أن أصحابَ الكراسي فوقهم في العطايا، حتى إذا استقرت بهم مجالسُهم واطمأنَّت بهم أماكنُهم، نادَ المُنادي: "يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنجِزكموه".

فيقولون: "ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهَنا ويُثقِّل موازينَنا ويُدخِلنا الجنة ويُزحزِحنا عن النار؟"

فبينما هم كذلك، إذ سطع لهم نورٌ أشرَقَت له الجنة، فرفعوا رؤوسَهم، فإذا الجبَّار جل جلالُه، وتقدَّسَت أسماؤه، قد أشرَفَ عليهم من فوقهم، وقال: "يا أهل الجنة، سلامٌ عليكم"، فلا تُردُّ هذه التحية بأحسنَ من قولهم: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

فيتجلَّى لهم الربُّ تبارك وتعالى، يضحك إليهم، ويقول: "أين عباد الذين أطاعوني بالغيب ولم يروني؟ فهذا يوم المزيد"، فيجتمعون على كلمةٍ واحدة: " أن قد رضينا، فارضَ عنا".

فيقول يا أهل الجنة: "إني لو لم أرضَ عنكم لم أسكنكم جنَّتي، هذا يوم المزيد فاسألوني".

فيجتمعون على كلمةٍ واحدة: "أرِنا وجهَك، ننظر إليه"، فيكشِف لهم الرب جل جلاله الحُجُب، ويتجلَّى لهم فيغشَاهم من نوره ما لولا أن الله تعالى قضى ألا يحترقوا لحترقوا، ولا يبقى في ذلك المجلس أحدٌ إلا حاضره ربُّه تبارك وتعالى محاضره.

حتى إنه ليقول: "يا فلان، أتذكر يوم فعلت كذا وكذا؟" فيذكره ببعض غدراته، فيقول: "يا رب، ألم تغفر لي؟" فيقول: "بلى، بمغفرتي بلغت منزلتك هذه".

الدعاء ...