الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (٧٠) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
عِبَادَ الله:
إنَّ طَلَبَ العِلْمِ مِنْ أسْمَى المقاصِدِ الَّتِي يَسْعَى الإنسانُ إلى تَحْصِيلِهَا؛ فَهُوَ أعظمُ ما جَدَّ فيه الطالبُ، ورَغِبَ فيه الراغبُ؛ وإِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ ورَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ورَّثُوا الْعِلْمَ؛ مَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وافِرٍ كما جاءَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم.
لِذَا فَإِنَّنَا اليومَ نتحدَّثُ عَنْ فَضَائِلِ العِلْمِ؛ كَيْ يُشَمِّرَ المجْتَهِدُونَ عن سَاعِدِ الجدِّ، ويسعوا في تَحْصِيلِ العِلْمِ النَّافِعِ الَّذِي يُورِثُ الخشْيَةَ مِنَ اللهِ عز وجل.
الأَمْرُ الأولُ: مَكَانَةُ العِلْمِ وفَضْلُهُ:
أوَّلُ ما يَنْبَغِي على المسلمينَ أَنْ يَعْلَمُوهُ من فَضَائِلِ العِلْمِ أنَّ للعِلْمِ مَكانةً كبيرةً وفضلًا عاليًا، لا يَعْرِفُ كُنْهَه ولا يُدْرِكُ حَقِيقتَه إلا مَن تَلذَّذَ بطَعْمِه وحصَلَ على المَقْصودِ منه؛ فاللهُ عز وجل أَثْنَى ثَناءً كبيرًا على العِلْمِ وطَلبِه والاستزادةِ منه؛ لأن العِلْمَ الصحيحَ يَقودُ إلى المُعتقَدِ الصحيحِ والمَنْهجِ السَّليمِ، ويُبيِّنُ للإنسانِ ما يَحْتاجُ إليه في مَعاشِه ومَعادِه، في أُمورِ دِينِه ودُنياه وأُخْراهُ.
يَقول الإمامُ ابنُ القَيِّم رحمه الله:
«وَلمَّا كانتِ الدُّنيا حَقِيرةً عندَ اللهِ لا تُساوِي لَدَيْهِ جَناحَ بَعوضةٍ كانَتْ وما فِيهَا في غَايةِ البُعْدِ مِنْهُ، وهو سُبْحانَه إنما خَلَقَها مَزْرعةً للآخرةِ ومَعْبَرًا إليها، يَتَزَوَّدُ منها عِبادُه إليه، فلم يَكُن يُقَرِّبُ منها إلا ما كانَ مُتَضَمِّنًا لإقامةِ ذِكْرِه ومُفْضِيًا إلى مَحابِّه، وهو العِلْمُ الذي به يُعْرَفُ اللهُ ويُعْبَدُ، ويُذْكَرُ ويُثْنَى عليه ويُمَجَّدُ؛ ولهذا خَلَقَها وخَلَقَ أَهْلَـها، كما قـال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وقال سبحانه وتعالى: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: 12].
فتضَمَّنَت هاتانِ الآيتانِ أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى إِنَّما خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ وما بَيْنَهُما لِيُعْرَفَ بأَسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ولِيُعْبَدَ، وهذا هو الَمطْلُوبُ وما كان طَرِيقًا إليه مِن العِلْمِ والتَّعَلُّمِ فهو المستثنى من اللَّعْنةِ، واللَّعْنةُ واقعةٌ على ما عداه، إذ هو بعيدٌ عن اللهِ وعن مَحابِّه وعن دِينِه».
فهذا هو فَضْلُ العِلْمِ وأَكْثَرُه والوَاجِبُ منه والذي يُنَجِّي الإنسانَ من كلِّ ما يَخافُه مما هو في هذه الدنيا أو في الآخرةِ عندَما يَلْقَى رَبَّه عز وجل.
وَقَدْ أَثْنَى اللهُ على أَهْلِ العِلْمِ ثناءً حَسَنًـا فَقَـالَ في كِتـابِه: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾ [فاطر: 28].
قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه الله في مَعْنَى هذه الآيةِ:
«إِنَّمَا يَخْشَاهُ حَقَّ خَشْيَتِهِ الْعُلَمَاءُ الْعَارِفُونَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ لِلْعَظِيمِ الْقَدِيرِ الْعَلِيمِ المَوْصُوفِ بِصِفَاتِ الْكَمَالِ المَنْعُوتِ بِالْأَسْمَاءِ الْـحُسْنَى كُلَّمَا كَانَتِ المَعْرِفَةُ بِهِ أتمَّ والْعِلْمُ بِهِ أَكْمَلَ، كَانَتِ الْخَشْيَةُ لَهُ أَعْظَمَ وأَكْثَرَ».
وقـال القُرْطبي رحمه الله في مَعْنَى هذه الآيةِ:
يَعْنِي بِالْعُـلَمَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدْرَتَهُ، فَمَنْ عَلِمَ أَنَّـهُ عز وجل قَدِيرٌ، أَيْقَنَ بِمُعَاقَبَتِهِ
على المَعْصِيَةِ، كما رُوِيَ عن عَـلِيِّ بنِ أَبِي طَلْحةَ رضي الله عنه عن ابنِ عَـبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ في قـولِ اللهِ عز وجل: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ﴾.
قَـالَ: «هُـمُ الَّـذِينَ يَعْـلَمُونَ أَنَّ اللهَ عَلَى كُـلِّ شَيْءٍ قَـدِيرٌ فَيَخْـشَوْنَه».
ولـذلك قال الـربيـع بـن أنس رحمه الله: «مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَه فَلَيْسَ بعَالمٍ».
وقال مجاهد رحمه الله:
«إِنَّما الْعَالِمُ مَن يَخْشَى اللهَ عز وجل».
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : «كَفَى بِخَشْيَةِ اللهِ عِلْمًا، وبِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا»
وقال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في مَعْنَى هذه الآيةِ:
«كُلُّ مَن كَانَ بِاللهِ أَعْلَمَ، كَانَ أَكْثَرَ لَهُ خَشيَةً، وأَوْجَبَتْ لَهُ خَشْيَةُ اللهِ الِانْكِفَافَ عَنِ المَعَاصِي، والِاسْتِعْدَادَ لِلقَاءِ مَن يَخْشاهُ، وهذا دَلِيلٌ على فَضيلةِ العِلْمِ، فإِنَّهُ داعٍ إلى خَشْيةِ اللهِ، وأهلُ خَشْيتِهِ هُمْ أَهْلُ كَرَامَتِهِ».
ويقولُ الرسولُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ المُخَرَّجِ عندَ البخاريِّ في كِتابِ العِلْمِ، باب «العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ والعَمَلِ».
عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم:
«مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الجَنَّةِ».
ما أَعْظَمَ هذا الطريقَ وما أَحْلاهُ وما أَجْملَهُ! ولماذا خُلِقْنَا، ولماذا وُجِدْنَا إلا لِعِبادةِ اللهِ ولتوحيدِه وإخلاصِ العبادةِ له والوصولِ إلى مَرْضاتِه، ثم إلى كَرَامَتِه وجَنَّتِه التي لا يُمْكِنُ أن يُحَصِّلَها إلا مَن عَلِمَ ما يَجِبُ عليه تِجاهَ رَبِّه، وقامَ بوَاجباتِه في هذه الحياة الدنيا.
ومما يَدُلُّ على فَضْلِ العِلْمِ ما رَواهُ إبراهيمُ بنُ عَبْدِ الرحمنِ العُذْرِيُّ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «يَحْمِلُ هَذَا الْعِلْمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُه». مَاذَا يَفْعَلُون؟ «يَنْفُونَ عَنْهُ تَأْوِيلَ الجَاهِلِينَ، وانْتِحَالَ المُبْطِلِينَ، وتَحْرِيفَ الْغَالِينَ».
ولذلك فإنه لا يُمْكِنُ أن يُبَيِّنَ هذه المَعالِمَ وهذه الطُّرقَ والدعائمَ إلا العُلماءُ المُحَقِّقونَ المُوَقِّعُونَ عن رَبِّ العَالَمِينَ، الذين صَفَوْا عَقَدِيًّا وتَأَسَّسُوا مَنْهَجِيًّا وسَلِمُوا فِكْرِيًّا، ونَهَضُوا بوَاجِبِهم تِجَاهَ كِتابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِه صلى الله عليه وسلم، وما كانَ عليه سَلَفُ هذه الأُمَّةِ.
يقولُ شَيْخُنا الشيخُ مُحمَّدُ بنُ صَالِحِ العُثَيْمِينَ رحمه الله:
«والَّذِي يَعْنِينَا هو العِلْمُ الشَّرعِيُّ الذي أنْزَلَهُ اللهُ على رَسولِه محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والذي به يُعْرَفُ الحلالُ والحَرامُ، ويُدْرَكُ الطريقُ السَّلِيمُ المُسْتقِيمُ الذي يُوَصِّلُ إلى اللهِ عز وجل، ولذلك امْتَدَحَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم العُلماءَ، وأَثْنَى عليهم، فقال: «إِنَّ العُلماءَ ورَثةُ الأَنْبياءِ، وإِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِرْهمًا ولا دِينارًا، وإِنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ».
لـو كـانتِ العُلــومُ الأُخْـرَى مَكـانَ مَــدْحٍ وثَنــاءٍ لَامْتُــدِحَ الرسـولُ صلى الله عليه وسلم بها، ولذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كما ثَبَتَ في الحـديث الصحيحِ المُخَرَّجِ عندَ مُسْـلِمٍ رحمه الله لمَّا قَدِمَ المدينةَ ورَأَى النَّاسَ يُؤَبِّرُونَ النَّخْلَ ورَأَى ما يَلْحَقُهم مِن أَذًى وتَعَبٍ في ذلك، فَنَهَاهُم عن هذا العَمَلِ ففَسَدَتِ النَّخْلُ، فلما أُخْبِرَ بذلك قال: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِشُؤونِ دُنْيَاكُمْ».
ولَوْ كان في ذلك مَـدْحٌ وثنـاءٌ لكــانَ أَوَّلَ العَـالِمينَ العَـارِفِينَ به رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
ثم يَقولُ شَيْخُنا رحمه الله:
« ونَحْنُ لا نُنْكِرُ فَضْلَ العُلومِ الأُخْرَى وأَثَرَها، ولَكِنَّها لا تُقارَنُ بالعُلومِ الشَّرْعيةِ»
انتهى كلامه رحمه الله.
ومن هنا قال الناظم:
الـعِلْمُ قَــالَ اللهُ قَـالَ رَسُـولُــهُ
قَـالَ الصَّحَـابَةُ هُـمْ أُولُو الْعِرْفَـانِ
وَلْنَعْلَمْ أن العِلْمَ لا يأتي معَ الخُمولِ والكَسَلِ، ولا مَعَ الجُمودِ والتَّسْويفِ، ولا معَ اللَّواهِي والشَّوارِدِ والمَوارِدِ، وإنما يأتي بالمُتابعةِ والتَّحْصِيلِ، والحِرْصِ والصَّبْرِ والمُثابَرَةِ، والجِهَادِ والمُجَاهَدةِ، وتَرْكِ كُلِّ الأُمورِ وتَفْريغِ النَّفْسِ لذلك، لمَن أرادَ أن يَرْفَعَ عن نَفْسِه الجَهْلَ وأن يُرَبِّيَ غَيْرَه على قَواعِدِ العِلْمِ وأصولِه.
وقد ورد في ذلكَ قولُه رحمه الله :
تَعَلَّـمْ فَـلَيْسَ المَـرْءُ يُولَـدُ عَالِمًــا
ولَيْسَ أَخُو عِـلْمٍ كَمَن هُو جاهـل
وإِنَّ كَبِـيرَ القَـوْمِ لَا عِلْـمَ عِنْــدَهُ
صَغِيرٌ إِذَا الْتَفَّتْ عَلَـيْهِ المَحَافِـلُ
وإنَّ صَغِـيرَ القَـوْمِ إِنْ كَـانَ عَالِمًـا
كَبِـيرٌ إذا رُدَّتْ إليـه الجَحَـافِــلُ
وإنني أَرَى في هذا المَسْجِدِ وُجوهًا شَابَّةً حَريصةً، فَلْتَعْلَمْ ذلك ولْتُدْرِكْه ولْتُشَمِّرْ عن سَواعِدِ الِجدِّ ولْتَطَّرِحْ كلَّ المُعَوِّقاتِ والأُمورِ التي تَمْنَعُها من التَّعلُّمِ والتعليمِ والاستفادةِ والاستزادةِ إذا أرادت أن يُشاَر إليها بالبَنانِ وتقصد للاستفادة إليها في كلِّ زَمانٍ ومن كلِّ مكانٍ، كما كان حال شَيْخِنا الشيخِ مُحَمَّدِ بنِ صَالِحِ العُثَيْمين رحمه الله تعالى.
ولْنَعْلَمْ أَنَّ العِلْمَ الشرعيَّ يَقودُ الإنسانَ إلى الفضائلِ وإلى كلِّ ما يَجْعلُه نُورًا يُقْتَدَى ونِبْراسًا يُضِيءُ الطريقَ لمَن حَوْلَه، ومَن مَعَه، ومَنْ يَلْتَقِي فيه، ومَن يَجْلِسُ في مَجَالِسِه، ومَن يَسْتمِعُ إلى أقوالِه وتَوْجيهاتِه وإرشادتِه.
وهو الذي يَجِبُ أن تُبْذَلَ فيه النفائسُ من الأموالِ، وتُسَخَّرَ له الأوقاتُ، ولا يَعْنِي ذلك الاستهانةَ بالعُلومِ والمَعارفِ الأخرى، فهي لها شأنٌ إذا كانت تَدُورُ في فَلَكِ الكتابِ والسُّنةِ، وتَخْدُمُ ما يَدْعو إليه اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم، بل قَدْ يَكُونُ تَعَلُّمُ عِلْمٍ من العُلومِ والفُنونِ من واحدٍ من الناسِ من المُسلِمِين فَرْضَ عَيْنٍ عليهِ إذا لم يُوجَدْ غَيْرُه يَتَعَلُّمُ ذلك العِلْمَ، أو يَكونُ قَادِرًا على الوصولِ إليه، وخُصوصًا فيما يَتَقَوَّى به المُسلمون ويَجْعَلُهم أمامَ الأعداءِ ذَوِي هَيْبةٍ ومَكَانةٍ ومَنْزِلةٍ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لِلَّـهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وبَعْدُ:
الأَمْرُ الثاني مَنْزِلَةُ العُلماءِ ومَكَانَتُهم:
عِبَادَ الله:
العُلماءُ في كلِّ عَصْرٍ ومِصْرٍ لهم مَكانةٌ عاليةٌ ومَنْزِلةٌ رفيعـةٌ، ولهم القَـدَحُ المُعَـلَّى بـينَ أَبْنـاءِ جِنْسِهِم سَواءٌ أَكـانُوا مُسْلِـمِينَ أم غيرَ مُسلِمِينَ، وتَعْظُمُ مَنْزِلَتُهم وتَزْدَادُ أَهَمِّيَّةً إذا كانوا في البلادِ الإسلاميةِ ومن المُسلِمِينَ، وممن عَلِموا كتابَ اللهِ وسُنةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم، وأَدْرَكوا حَقائِقَ ذلك وفَهِموا مَعانِيَهُما، وكذلك حَقَّقوا في مَقاصِدِهِمَا وبَيَّنوا ذلك للناسِ، وقد أَثْنَى اللهُ عز وجل على العُلماءِ ثَناءً عَاطِرًا، وكذلك رَسولُه صلى الله عليه وسلم.
فـمِــن الآيــاتِ الـدَّالَّـــةِ عــلى ذلــك: قــولُ اللهِ : ﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾ [آل عمران: 7].
يَقُولُ الشَّيْخُ ابنُ سعدي رحمه الله:
«في هذه الآيةِ ثَناءٌ على العُلماءِ الرَّاسِخِينَ الذين عَرَفوا حَقِيقةَ هذا الدِّينَ، وأَدْرَكوا عِظَمَ ما أَنْزَلَ اللهُ على رَسُولِهِ في كِتابِهِ، وقادهم إيمانُهم إلى العِلْمِ النَّافِعِ والعَمَلِ الصَّالِحِ، وعَرَفُوا ما يَجِبُ عليهم في مُقابَلَةِ ذلك، فأَعَادوا المُتشابِهَ إلى المُحْكَمِ فَصَارَ كِتَابُ اللهِ وما جاءَ فيه من الآياتِ مُحْكَمًا، ولَيْسُوا مثلَ أولئك الذين أَخْطَئوا أو نَقَص عِلْمُهم، فتَضَارَبَ عِنْدَهم المُتشابِهُ بالمُحْكَمِ؛ ولذلك أَثْنَى اللهُ على أُولئك بأَنَّهم رَاسِخُون في العِلْمِ، ويَعْلَمونَ أنَّ ما جاءَ في الكِتابِ والسُّنةِ هو من عندِ اللهِ عز وجل، فكانتْ لهم هذه المَكانةُ وهذه المَنْزلةُ».
الآية الثـانية: هي قــول الله عز وجل: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ [آل عمران: 18].
هذه الآيةُ اشتملت على ثلاثةِ أُمورٍ:
[1] الأَمْرُ الأَولُ: هو بَيانُ فَضْلِ العُلماءِ ومَنْزِلَتِهم على غَيْرِهِم.
[2]الأَمْرُ الثاني: اقْترانُ شَهَادَتِهم بشَهادةِ اللهِ والمَلائكةِ بأنَّ اللهَ قَائِمٌ بالعَدْلِ والقِسْطِ.
[3] الأَمْرُ الثالثُ: تَعْدِيلُهم وتَزْكِيَتُهم من اللهِ . وأَعْظِمْ بها من تَزْكيةٍ وتعديلٍ، من رَبِّ العالَمِينَ!
الآيةُ الثالثةُ: قولُ اللهِ عز وجل: ﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].
يقول ابن حَجَرٍ رحمه الله في بيان معنى هذه الآية:
«إنها وَاضحةُ المَعَالِمِ في فَضْلِ العِلْمِ، والمَقْصودُ بالعِلْمِ هنا هو عِلْمُ الشَّريعةِ الذي أَنْزلَهُ اللهُ على رسولِه صلى الله عليه وسلم، وبِهِ تُعْرَفُ العَقِيدةُ الصَّحيحةُ، وأَسْماءُ اللهِ وصِفاتُه ونُعوتُ جَلالِهِ سبحانه وتعالى، ومَدَارُ ذلك على التَّفْسيرِ والحديثِ والفِقْهِ». انتهى كلام ابن حجر رحمه الله تعالى .
وفي الحديث الصحيح المخرج عند البخاري ومسلم، وقد أشرنا إليه أيضًا في بيان فضل العلم ومكانته، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ بِهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إلى الجَنَّةِ».
قال الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله:
«طَلَبُ العِلْمِ أَفْضَلُ من صَلاةِ النَّافِلَةِ».
وقال الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله أيضًا:
«مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا فَعَلَيْهِ بالعِلْمِ، ومَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ فَعَلَيْهِ بالعِلْمِ».
وقال الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله تعالى أيضًا في فَضْلِ العِلْمِ:
«مَا تُقُرِّبَ إلى اللهِ عز وجل بَعْدَ الفَرَائِضِ بأَفْضَلَ مِن طَلَبِ العِلْمِ».
فاللهُ أكبر، هذا هو شأنُ العِلْمِ ومنزلةُ العلماءِ ومَكانَتُهم التي لا تُضاهِيها مَنْزلةٌ ولا مَكانةٌ مهما بَلَغَ الإنسانُ شَأْنًا ومَكانةً، ومهما كانت عندَه من الأُمورِ الدنيوية والخِبْراتِ وغيرِها، إلا أنَّ العَالِمَ يَفُوقُه ومَنْزِلَتَه أَعْلَى من مَنْزلتِه على كلِّ حالٍ.
وفي الحديثِ الصحيحِ أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:
«إِنَّ العُلماءَ ورَثةُ الأَنْبياءِ، وإِنَّ الأَنْبِياءَ لَمْ يُورِّثُوا دِرْهمًا ولا دِينارًا، وإِنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَن أَخَذَهُ أَخَذَ بحَظٍّ وافِرٍ» .
وفي هذا الحَديثِ مَدْحٌ وثَناءٌ على العُلماءِ ومَكانَتِهم؛ لأَنَّهم يَحْمِلونَ الإِرْثَ النَّبويَّ ويَقومونَ به ويُؤَدُّونَ هذه الرسالةَ في كلِّ زَمانٍ وفي كلِّ مَكانٍ، فَاسْتَحَقُّوا أن يكونوا ورَثَةً للأنبياءِ دُونَ غيرِهم.
وفي الحديثِ المُخَرَّجِ عندَ البخاريِّ ومُسلِمٍ عن مُعاويةَ بنِ أَبِي سُفيانَ رضي الله عنهما قالَ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ».
فالفُقهاءُ في الدِّينِ والعَارِفُونَ لمَعالِمِ الحلالِ والحرامِ هم الذين يُرِيدُ اللهُ بهم خَيْرًا، ومَن أرادَ اللهُ به خَيْرًا أعلى شَأْنَه ورفَعَ مَنْزِلتَه وكَرَّمه من بينِ الخَلائِقِ.
وثَبَتَ أيضًا في الحـديثِ الصحـيحِ عن عبـدِ اللهِ بـنِ عَمْـرِو بنِ العاصِ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «إِنَّ اللهَ لَا يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا مِن صُدُورِ العُلَماءِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بمَوْتِ العُلَماءِ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسَ رُؤُوسًا جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».
وهذا الحَدِيثُ يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّ فَقْدَ العُلماءِ مُصِيبةٌ وثُلْمةٌ عَظِيمةٌ تَجْعَلُ الناسَ يَقَعونَ في مَزَالِقَ ومَهَاوٍ سَحيقةٍ؛ لأنه إذا فَقَدَتِ الساحةُ العُلماءَ رَجَعَ الناسُ إلى أولئك الجُهَّال الذين يَرْفَعون أَنفُسَهم بالقُشورِ وبالفُروعِ وبالثقافاتِ دونَ الأُصولِ والقَواعدِ والمَصادِرِ الأَصِيلةِ، وبالتالي يَسْأَلُهم الناسُ عن الدِّينِ وعن الدنيا فيُجِيبونَهم بإجاباتٍ هي أبعدُ ما يكونُ عَمَّا أرادَ اللهُ ورسولُه، فيَضِلُّون ويُضِلُّون، وهذا ما نراهُ واقِعًا مَلْموسًا نُشاهِدُه في كثيرٍ من المَحافِلِ والأَماكِنِ، وعَبْرَ وسائلِ الإِعْلامِ المُختلفةِ، رُفِعَ بَعْضُ هؤلاء الرُّؤساء الجُهَّال، وأَقْصِدُ بهم المُتعالِمينَ الذين يَظُنون أنهم علماءُ، أو أنه لُبِّسَ عليهم، فقِيلَ: إِنَّكم عُلماءُ، فيُبَيِّنونَ للناسِ بَيانًا بَعِيدًا عن الصوابِ، ويُفتونَهم بفَتَاوَى لا تَخْرُجُ إلَّا عن الهَوَى أو عن ما هو ممنوعٌ ومَرْدودٌ شَرْعًا، وبالتالي تَحْصُلُ الفِتَنُ وتَقَعُ الهَوامُّ والطَّوامُّ، ويَحْصُلُ الخِلافُ والاختلافُ والشِّقاقُ والنِّزاعُ.
ويَقولُ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رضي الله عنه في فَضْلِ العِلْمِ:
«تَعَلَّمُوا العِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَه خَشْيَةٌ، وطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، ومُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيمَهُ لمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ، وبَذْلَهُ لِذَوِي القُرْبَى بِرٌّ وصِلَةٌ؛ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الحَلالِ والحَرَامِ، به يُعْبَدُ اللهُ وبه يُطاعُ، وبه تُوصَلُ الأَرْحَامُ ويُعْرَفُ الحَلالُ والحَرَامُ، هو قَبْلَ العَمَلِ والعَمَلُ تَابِعٌ له، يَهْنَأُ به مَن رُزِقَهُ، ومَن لم يُرْزَقْهُ فَهُو الخَاسِرُ». أو قريبًا مما قال رضي الله عنه.
هذه حقيقةُ العِلْمِ وهذا هو فَضْلُ العِلْمِ ومَنْزلةِ العُلماءِ.
عبادَ اللهِ:
صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ.
اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ.
اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا،
وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا.
اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ