حكم المستهزئين بالله وعقوبتهم

الشيخ صالح الأطرم

الحمد الله الذي أعزَّنا بالإسلام واختاره لنا دينًا، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، أحمده سبحانه منَّ علينا بنعمة الإيمان، وكرَّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، وأشهد أن لا إله إلا الله، يعلم بواطن الأمور وأسرار القلوب، وهو عليم بذات الصدور، ويُجازي كل نفس بما كسبتْ ولا يظلم ربُّك أحدًا، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الغر الميامين، فَهِموا الإسلام قولاً وعملاً، وأنه دنيا ودين، مصحف وسيف، فأعزهم الله تعالى وأعزَّ بهم دينه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.

أما بعد:

فيا أيها الناس، اتقوا الله تعالى، يقول - عز وجل - في كتابه العزيز: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65].

أيها المسلمون:

الخوض هو: المشي بما يُلوِّث الأقدام بالماء والطين، واللعب هو: العبث بما لا فائدة فيه، وتسوء عاقبتُه من قول أو فِعْل، والمراد بالخوض هنا: الخوض بما يلوِّث العقيدة، ويُكدِّر صفوها، ويُسوِّد صفحتها؛ ذلكم أن رجالاً خرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- في غزوة تبوك، انحازوا جميعًا فأخذوا يتكلَّمون بالرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ويَستبعِدون قدرة الله تعالى، يرجفون بالمسلمين ويَصِفونهم بالصفات الذميمة، بما هم مبرؤون منه، ويقولون: أيظن هذا الرجل أن قتال الروم كقتال العرب، ثم يقولون: ما رأينا مِثلَ قراءنا هؤلاء أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنة، ولا أجبن عند اللقاء، يَعنون بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه - رضي الله عنهم - سخريَّةً منهم واستهزاء، ثم عرفوا أن الله تعالى سيَفضحهم بتنزيل آية تتلى إلى يوم القيامة، فجاؤوا يَعتذِرون بقولهم: إنما كنا نخوض ونلعب، ونتحدَّث حديثًا نقطع به الطريق، فأمر الله تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يَردَّ عليهم بالتوبيخ والتقريع والإنكار: ﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ﴾ [التوبة: 65]، ويُخبِرهم بأن عذرهم غير مقبول؛ لأنه لا يَصِح لهم الدخول في ذلك، فعمدة الإيمان هو تعظيم الله تعالى، وتعظيم قدرته وسلطانه وشرْعه وأحكامه؛ من عبادات، وحلال وحرام، وواجبات ومستحبات، وأن أحكام الله تعالى تسمو على كل حُكْم، وفوق كل قانون، وأن كل مبدأ يتضاءل أمام شريعة الله تعالى، ويضمحِل جانبها: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [المائدة: 50]، وإن الخاضعين والمنقادين لأوامره تعالى وأوامر رسوله -صلى الله عليه وسلم- المذعنين لطاعته لا يزالون سبَّاقين للمعروف، وقَّافين عن المحارم، كما أن الاستهزاء هو: الاستخفاف بذلك كله، والاستهانة به، وإظهار المعايب والنقائص بالمسلمين على وجه يُضحَك منه، سواء بالوصف الذميم، أو المحاكاة القوليَّة والفعلية، ومن هذه الآية نستفيد حُكمَ مَن استهزأ بشيء فيه ذِكر الله تعالى أو القرآن أو الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو المسلمين؛ لإسلامهم، وحكم ذلك: الكفر، سواء كان المستهزئ جادًّا أم هازلاً.

فالمسلم يرتد بذلك، والكافر يزداد كفرًا، سواء استهزأ بشعيرة من شعائر الدين؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ ﴾ [المائدة: 58].

فسلب الله تعالى هؤلاء العقلَ النافع والرُّوح الصافية، وأنه لم يبقَ معهم إلا بمقدار ما للبهائم من تمييز غذاء البدن، وما تأكله من مواد الغذاء الجسمي، أو كان الاستهزاء بالمسلمين المؤمنين؛ لما هم عليه من التقوى والإيمان لرب الورى.

قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ ۞ وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ ۞ وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ ۞ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ۞ وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ ۞ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾ [المطففين: 29 - 34].

فأثبت الله تعالى الإجرام لهؤلاء؛ بسبب استهزائهم وسخريتهم ضحكًا وغمزًا وتفكهًا بذكر معايب المسلمين، ومثالب المؤمنين، واستمرارًا في طغيانهم؛ حسبما تُملي لهم أذواقُهم المرة، وفِطرُهم المُنعكِسة، وأفكارُهم المتقلبة، وقلوبهم المسودة، وأهواؤهم السيئة، وأنفسُهم الأمَّارة بالسوء.

ولذا حكموا لأنفسهم أنهم أهل الهدى، وأن هؤلاء المؤمنين لضالون؛ أي: لتائهون عن الطريق، وما شعروا بأن الضلال سجيَّتهم، والدمار مآلهم، والهلاك مصيرهم: ﴿ وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ ﴾ [الشعراء: 227].

حينما تتجلَّى الحقيقة في يوم لا ينفع فيه الندم، يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم يُخزي الله تعالى فيه المجرمين المستهزئين بالمؤمنين؛ رِفْعة وعزة وكرامة وثوابًا على ما صبروا واحتسبوا من الإيمان، وتحمَّلوا الأذى من الكفار: ﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ۞ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ ﴾ [المطففين: 34، 35]؛ يتساءلون عن إثابة الكفار على ضحكهم بالمؤمنين استبعادًا؛ لأن مثل هذا تستوخم عاقبته، فلا يستحقون ثوابًا بل عقابًا.

ويتساءل المؤمنون شكرًا لله تعالى على ما أنعم بهم عليهم من الإيمان والتقوى، والعمل بما يرضي الله تعالى، وأن سخرية هؤلاء المجرمين لم تقف حجر عثْرة في طريقهم، وتحقيق غايتهم، ولم تَعُقهم عن مسيرهم إلى ما فيه راحتهم وقرة أعينهم.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ ۞ لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ ﴾ [التوبة: 65، 66].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.