إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن الله تعالى لكمال علمه وحكمته وكمال قوته وقدرته خلق الناس من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل بعد تلك القوة ضعفاً كما قال سبحانه وتعالى { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]
وفي الضعف الأول وهو مرحلة الطفولة يكون الطفل محفوفاً _بفضل الله _برحمة والديه وشدة حرصهم عليه وسهرهم أن لا يصل مكروه إليه.
ثم في حال الشباب والقوة يكون بعد عون الله معتمداً على قوته وقدرته وإمكاناته، ثم يتدرج به الحال حتى يعود إلى الضعف شيئاً فشيئاً حتى يكون شيخاً كبيراً قد شاب شعره ووهن عظمه ورقّ جلده وصار يعجز عن كثير مما كان يقوم به بنفسه، وقد تضعف ذاكراته أو يختل عقله حتى لا يعلمَ شيئاً ممن كان يعلم كما قال تعالى (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا).
ولنا في هذه الخطبة وقفة مع مرحلة كبر السن والتقدم في العمر من خلال المسائل التالية:
أولاً: لنعلم أن طول العمر نعمة إذا استغل المعمّر عمره في طاعة الله كما قال صلى الله عليه وسلم وقد سئل مَن خيرُ الناس فقال “من طال عمره وحسن عمله” رواه الترمذي. وعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ حَيٌّ مِنْ قُضَاعَةَ أَسْلَمَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، قَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا، أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟» رواه أحمد.
وأما من طال عمره وساء عمله فذلك من شر الناس والعياذ بالله كما قال صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: لمرحلة الكبر فضل على مرحلة الصغر والشباب ، ففيها يكون وفور العقل وثقوب النظر وخبرة السنين ودروس التجارب وضعف سلطان الهوى والطيش، وإذا كان الكبير ذا علم وسُنّة كثر خيره وعظمت بركته، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم (البركة مع أكابركم).
ثالثاً: ينبغي لأهل السن والعلم والحكمة أن يتلطفوا مع الشباب ويصبروا عليهم ويتألفوهم حتى ينتفع الشباب من علمهم وخبرتهم وحكمتهم فالشباب اليوم هم كهول الغد، فإذا بلغوا تلك السن مسلحين بخبرة من سبقهم عظم النفع بهم.
رابعاً: لكبير السن منزلة في الإسلام فينبغي أن يرعى حقه وأن يحفظ مقامه وأن تقدر مكانته وأن يربى الصغار على ذلك لينشؤوا عليه، ومما يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم «إِنَّ مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ إِكْرَامَ ذِي الشَّيْبَةِ الْمُسْلِمِ» رواه أبو داود. فمن إجلال الكبير أن يقدم عند الكلام، و عند مناولة السواك والشراب والطعام ونحو ذلك مما يكون من باب التكريم والتفضيل كما ثبتت به السنة.
ومن إجلال الكبير أن يوسع له في المجلس إذا دخل عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : جاء شيخ يريد النبي صلى الله عليه و سلم فأبطأ القوم عنه أن يوسعوا له فقال النبي صلى الله عليه و سلم “ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويوقر كبيرنا”.
ومن إجلال الكبير أن يُتلطف معه وأن يُشعر بتوقيره وتقديره وأن تُراعى أخلاقه إذا كان في خلقه شدة أو سرعة غضب تأسياً بالنبي ﷺ مع من كان هذا حاله.
ومن إجلال الكبير وتوقيره أن يقدم في الإمامة إذا استوى مع غيره في القراءة لقوله صلى الله عليه وسلم (وليؤمكم أكبركم) متفق عليه، ومن إجلال الكبير ورحمته أن يراعيه الإمام في الصلاة فلا يطيل إطالة تشق عليه لقوله صلى الله عليه وسلم «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ» متفق عليه. ومن إجلال الكبير أن يبادره الأصغر منه بالسلام لقوله صلى الله عليه وسلم (يُسلّم الصغير على الكبير) رواه البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد: فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن تلك الآداب الفاضلة والأخلاق السامية التي حثت عليها شريعتنا في التعامل مع كبار السن تلك الأخلاق التي تدور بين التوقير والتكريم والإجلال وبين الرحمة والعطف والرأفة شرعت لنا في التعامل مع كبير في السن من المسلمين من قريب أو بعيد من جار أو غير جار ممن نعرف أو ممن لا نعرف. بل إن لكبير السن من الكفار غير المحاربين حقاً في رحمته والرفق به ورعايته بما لا يتنافى مع الشرع المطهر الحنيف. فإذا كان هذا حق كبير السن عامة فكيف بحقه إذا كان هذا الكبير هو الأب أو الأم لا شك أن حقهما أعظم وآكد وأجل وأخطر، وقد وصى الله تعالى بالوالدين إحساناً وصية عامة تشمل الإحسان إليهما سواء كانا في قوتهما أو ضعفهما ثم أكد على الوصية بهما في حال الكبر حيث تكون حاجتهما إلى العناية والرعاية والمراعاة أكثر فقال تعالى { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا } [الإسراء: 23، 24] وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم بالذل والخسار والخيبة من أدرك أبويه عند الكبر فلم يدخل الجنة ببرهما إشارة إلى أن الجنة قريبة دانية ممن أدرك أبويه عند الكبر أو أحدهما إذا اتقى الله وبر بهما فقال صلى الله عليه وسلم في ذلك صحيح مسلم «رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من؟ يا رسول الله قال: «من أدرك أبويه عند الكبر، أحدهما أو كليهما فلم يدخل الجنة» رواه مسلم.
فاتقوا الله معاشر الأبناء والبنات في آبائكم وأمهاتكم ولا سيما عند بلوغهم الكبر أحسنوا صحبتهم وسارعوا في مرضاتهم وأبشروا بالجنة وأبشروا بخير الدنيا والآخرة. ويا أيها الشباب تخلقوا بهذا الخلق الجميل وهو إجلال المسنين واحترامهم ورحمتهم فإن الجزاء من جنس العمل فأعينوهم عند قطع الطريق أو حمل المتاع، وبإيثارهم بالمقاعد في أماكن الانتظار في صالات المطار أو المستشفيات ونحو ذلك فإن ذلك لا يزيدكم إلا رفعة وسمواً.
ومن كان له كبير يرعاه في كبره ومرضه فليتق الله فيه وليحتسب الأجر في الرفق به والحرص عليه والصبر على رعايته فذلك من الإحسان العظيم والله يحب المحسنين.
[الدعاء ... ]