غنائم الشتاء

الشيخ عبدالسلام بن برجس

عباد الله:

لقد دخل فصل الشتاء الذي تقـر فيـه الـعـيـون بمشاهدة الأرض بعد أن أحياها الله بالماء، فـ «اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج» [الحج: 5]، والذي تتطلع الأفئدة إليه؛ لتتخلص من حرارة الصيف وشدة لهيب شمسه.

إن هذا الفصل ـ يا عباد الله ـ فصل مبارك يستقبله المسلم بحباواة وتكريم؛ وذلك لـمـا أودع الله ـ جل وعلا - فيه من تيسير القيام ببعض العبادات التي تشق في غيره، ومن مضاعفة أجور بعض العبادات التي يشق القيام بها فيه .

أخرج الإمام أحمد وغيره من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الشتاء ربيع المؤمن»، وأخرجه البيهقي وغيره بلفظ: «الشتاء ربيع المؤمن؛ طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه»، ذلك؛ لأن نهاره قصير بارد.

وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن؛ لأنه يرتع فيه في ميادين الطاعات، ويفرح في أنـواع مـن الـعبـادات، وينـزه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه؛ فالمسلم يستطيع أن يصوم نهـار الشتاء دون مشقة ولا كلفـة مـن جـوع وعطش ونحـو ذلك؛ لأن نهاره قصير بارد.

ولذا، قال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ لأصحابه: «ألا أدلكم على الغنيمة الباردة؟ قالوا: بلى، قال: الصيام في الشتاء» ، وقد روي مرفوعا ولا يثبت .

ومعنى كونه غنيمة باردة أنها غنيمة حصلت من غير قتال، ومن غير مشقة وعناء .

وكذلك يقدر المسلم في الشتاء على قيام ليله، مع أخذ نفسه حظا كاملا مـن النـوم، بخلاف لـيـل الـصـيـف؛ فإنه ـ لقصره، وشدة حره ـ تغلب كثرة النوم فيه، ويشق قيامه؛ فيحتاج القيام فيه إلى مجاهدة كبيرة.

جاء عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان إذا دخل الشتاء قال: «جاءكم الشتاء، فضل بركة؛ ليله طويل يُقام، ونهاره قصير يُصام» حسنه الهيثمي وغيره.

ويقول الحسن البصري ـ رحمه الله -: «نعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليلة طويل يقومه، ونهاره قصير بصومه .

وجاء عن عبيد بن عمير ـ رحمه الله تعالى ـ أنـه كـان إذا دخـل الشتاء قال: «يا أهـل القـرآن، قـد طـال لـيـلـكـم للقراءة؛ فاقرؤوا، وقصر نهاركم للصيام؛ فصوموا».

فحري بالمسلم ـ عباد الله ـ أن يتقبل هذه الفرصة المباركة، وأن يجعل من ساعات ليـل الـشـتاء سـاعة يخلو فيهـا بربه ـ جل وعلا - ؛ عل عثرة تُقال، أو ذنبا يُغفر، أو كربا يفرج، أو درجة ترفع؛ فإن قيام الليـل يزيـد المؤمن إيمانا إلى إيمانه، ويجعل المسلم مُعَرَّضا لحصول الثواب المخفي في قول الله ـ جل وعلا -: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون» [السجدة: 17].

عباد الله:

لقد شرع لنا أن نستدفع أذى البرد بما يدفعه من لباس ونحوه، وقد امتن الله ـ جل وعلا ـ على عباده بما خلق لهم من أصواف بهيمة الأنعام وأشعارها ما يستدفنون به؛ قال الله ـ جل وعلا ـ: «والأنعام خلقهـا لكـم فيهـا دفء ومنافع ومنها تأكلون» [النحل: 5]، وقال: «ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين» [النحل:٨٠].

فعلى المسلم أن يستدفع أذى الحر والبرد؛ فإن الحر والبرد شدتها من أعداء بني آدم، وعلى المسلم أن يتذكر في شدة البرد جهنم؛ فيستعيذ منها؛ لأن أشد ما تجدون من البرد هـو مـن جهنم؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ لجهنم نفسين: نفسا في الشتاء، ونفسا في الصيف؛ فأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، وأشد ما تجدون من الحر من سمومها».

عباد الله:

روى ابن المبارك عن سليم بن عامر الخبائري ـ رحمه الله ـ أنه قال: «كان عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إذا حضر الشتاء تعاهدهم وكتب لهم بالوصية: إن الشتاء قد حضر، وهو عدو لكـم؛ فتأهبوا لـه أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارا ودثارا؛ فإن البرد عدو سريع دخوله، بعيد خروجه».

فعلى المسلم أن يأخذ بوصية الفاروق ـ رضي الله تعالى عنه ـ، وأن يخـاف مـن البرد، وأن يستعد له استعدادا كاملا، لاسيما في أول وقته؛ فإنه أضر ما يكون على المسلم كمثل هذه الأوقات.