الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الغَنيِّ الحميد، وأشهدُ أنْ لا إله إلا اللهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، السابقُ إلى الخيرات، اللهمَّ صلِّ عليه وعلى آلِه وأصحابِه.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فلَقد قطعتُم الأكثرَ مِن شهرِ رمضان، ولم يَبقَ إلا قليلُه، فمَن كان مُحسِنًا فيما مَضَى فليَحمدِ اللهَ، ويَزدَد إحسانًا، ومَن قصَّرَ فليَتدَارَك نفسَه بالتوبةِ والإحسانِ فيما بَقِيَ، فإنَّ الباقِيَ مِن عَشرِ رمضانَ الأخيرةِ، أيَّامَها أفضلُ أيَّامِ رمضان، ولياليَها أفضُ ليالي السّنةِ كُلِّها، وبابُ التوبةِ مفتوحٌ، وزمَنُ الأعمالِ الصالحةِ لم يُغلَق بعَد، وقد قال الله ُسبحانه مُبشِّرًا:{فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}، وقال تعالى:{وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى}، وصحَّ أنَّ الله تعالى قال:((يَا عِبَادِى إِنَّكُمْ تُخْطِئُونَ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِى أَغْفِرْ لَكُمْ)).
أيُّها المسلمون:
لقد قَرُبتُم مِن وقتِ إخراجِ زكاةِ الفِطرِ المُستَحبِّ والواجبِ، ودُونَكم ــ سدَّدكمُ اللهُ ــ بعضُ أحكامِها:
الحُكمُ الأوَّلُ: تجبُ زكاةُ الفِطرِ على المُسلمِ الحيِّ، ذَكرًا كانَ أو أُنثَى، صغيرًا أو كبيرًا، حُرًّا أو عبدًا، لِمَا صحَّ عن ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال:((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ، وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى، وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ))، وإلى وجوبِها على هولاءِ ذهبَ عامَّةُ الفقهاء.
الحُكمُ الثاني: الجَنينُ الذي في بَطنِ أمِّهِ يُستحبُّ إخراجُ زكاةِ الفِطرِ عنهُ باتفاقِ المذاهبِ الأربعة، وصحَّ أنَّ تِلميذَ الصحابةِ أبي قِلابَةَ ــ رحمه الله ــ قال:((كَانَ يُعْجِبُهُمْ أَنْ يُعْطُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنِ الْحَبَلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
الحُكمُ الثالثُ: المجنونُ يجبُ إخراجُ زكاةِ الفِطرِ عنهُ باتفاقِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرِها، لِدُخولِه في عُمومِ حديثِ:((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ))، والمجنونُ مِن المسلمينَ، وأيضًا قد وجَبَتِ الزكاةُ في هذا الحديثِ على الصغيرِ الذي لم يَعقِل بعدُ ويُكلَّفُ بالأحكامِ، فكذلكَ المجنونُ تجبُ عليه مِثلَه.
الحُكمُ الرابعُ: المسلمُ الفقيرُ لَه حالان:
الحالُ الأوَّل: أنْ يكونَ مُعدمًا لا شيءَ عندَه، وهذا لا تجبُ عليهِ زكاةُ الفطرِ باتفاقِ العلماءِ، نقلَه عنهُم الحافظُ ابنُ المُنذرِ ــ رحمه الله ــ.
الحالُ الثاني: أنْ يَملِكَ طعامًا يزيدُ على ما يَكفيهِ ويَكفِي مَن تَلزمُه نفقتُه مِن الأهلِ والأولادِ ليلةَ العيدِ ويومَهُ أو يَملِكُ ما يقومُ مقامَ الطعامِ مِن نُقودٍ، وهذا تجبُ عليهِ زكاةُ الفِطرِ عندَ أكثرِ العلماء.
الحُكمُ الخامسُ: زكاةُ الفِطرِ عندَ أكثرِ الفقهاءِ تُخرَجُ مِن غَالِبِ قُوتِ البلدِ الذي يَجرِي عليهِ الكَيلُ بالصَّاع، كالتَّمرِ، والأُرْزِ، والشَّعيرِ، والبُرِّ، والذُّرةِ، والدُّخنِ، والعَدَسِ، والفُولِ، والحُمُّصِ، والكُسكُسِ، والزَّبيبِ، واللوزِ، وأشبَاهِ ذلك، ومِقدارُ ما يُخرَجُ في زكاةِ الفِطرِ: صَاعٌ، والصَّاعُ كَيلٌ معروفٌ زمَنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقبلَه وبعدَه، وهوَ بالوزنِ المُعاصرِ ما بينَ الكيلوينِ وأربعِ مئةِ جرِام إلى الثلاثةِ كِيلو.
الحُكمُ السادسُ: تُخرَجُ زكاةُ الفِطرِ قبلَ العيدِ بيومٍ أو يَومينِ، لِمَا صحَّ عن تِلميذِ الصحابةِ نافعٍ ــ رحمه الله ــ أنَّه قال:((وَكَانُوا يُعْطُونَ قَبْلَ الفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ))، والأفضلُ باتفاقِ العلماءِ: أنْ تُخرَجَ يومَ عِيدِ الفِطرِ بعدَ صلاةِ فَجرِهِ وقبلَ صلاةِ العِيد، لِما صحَّ أنَّ ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ قال:((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، وَأَمَرَ بِهَا أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إِلَى الصَّلاَةِ))، وذَكرَ الإمامُ مالكُ بنُ أنسٍ ــ رحمه الله ــ:((أَنَّهُ رَأَى أَهْلَ الْعِلْمِ يَسْتَحِبُّونَ أَنْ يُخْرِجُوا زَكَاةَ الْفِطْرِ إِذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ، قَبْلَ أَنْ يَغْدُوا إِلَى الْمُصَلَّى))، وقال ابنُ عباسٍ ــ رضي الله عنه ــ:((فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ، مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ))، وصحَّحه عديدٌ مِن العلماء، ومَن أخَّرَها عمدًا حتى انقضَى يومُ العيدِ بِغُروبِ شَمسِهِ: فقد أثِمَ، وكانَ مُرتكبًا لِمُحرَّمٍ باتفاقِ العلماءِ، نَقلَهُ عنهمُ الفقيهانِ: ابنُ رُشدٍ المالكي، وابنُ رَسلانَ الشافعي ــ رحمهما الله ــ، وإنْ أخَّرَها نسيانًا أو جهلًا أو بسببِ عُذرٍ حتى انتهتْ صلاةُ العيدِ ويومِه: كمَن يكونُ في سَفرٍ وليسَ عندَهُ ما يُخرِجُه، أو لم يَجد مَن تُخرَجُ إليه، أو اعتمدَ على أهلِه أنْ يُخرِجوها واعتمدوا هُم عليه، فإنَّه يُخرِجُها حينَ يَعلَمُ، ولا إثْمَ عليه.
الحُكمُ السابع: لا يَجوزُ أنْ تُخرَجَ زكاةُ الفِطرِ نقودًا، بل يَجبُ أنْ تُخرَجَ طعامًا، لأنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فرَضها طعامًا، وهَكذا أخرجَها صلى الله عليه وسلم، وأصحابُه ــ رضي الله عنهم ــ معَ وجودِ النُّقودِ في زَمنِهم، حيث صحَّ أنَّ ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ قال:((فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ))، وصحَّ عن أبي سعيدٍ ــ رضي الله عنه ــ أنَّه قال:((كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ))، وفي حديثِ ابنِ عباسٍ ــ رضي الله عنه ــ السابقِ أنَّه قال:((فَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ طُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ))، والطُعْمَةُ: إنَّما تكونُ بما يُطْعَمُ ويُؤكلُ، وإخراجُها نقودًا يُعطِّلُ ما فرَضَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِن طُعمَةٍ، إذ الفقيرُ قد يَصرِفُ النُّقودَ في طعامٍ، أو إنترنت، أو دُخَانٍ، أو لِباسٍ، أو لُعبةٍ، أو دُخولِ سينماء، وقال الفقيهانِ القاضي عِياضٍ المالكيُّ، والنَّوويُّ الشافعيُّ ــ رحمهما الله ــ: “ولم يُجِز عامَّةُ العلماءِ إخراجَ القِيمةِ في زكاةِ الفِطرِ، وأجازَهُ أبو حنيفة”، ومَن تجرَّأَ فأخرجَها نقودًا: لم تُجزِئهُ عند مالكٍ والشافعيِّ وأحمد، وغيرِهم، ومَن أخرجها طعامًا: أجزَأَتهُ عندَ جميعِ العلماء، وبَرِئت ذِمَّته، والحمدُ للهِ أوَّلًا وآخِرًا، وظاهرًا وباطنًا، وعلى كلِّ حال.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ، وسلامُ على عبادِه الذين اصطَفَى، وباللهِ أستعِينُ.
أمَّا بعدُ، أيُّها المسلمون:
فلا يَزالُ الكلامُ متواصلًا عن أحكامِ زكاةِ الفِطرِ، فأقول مُستعينًا بالله:
الحُكمُ الثامنُ: فقراءُ المُسلمينَ تُعطَى لهم زكاةُ الفِطرِ بنصِّ السُّنةِ النَّبويةِ، واتفاقِ العلماءِ، نقلَهُ عنهُم الفقيهُ ابنُ رُشدٍ المالكيُّ ــ رحمه الله ــ، ولا يجوزُ أنْ تُعطَى لِغيرِ المُسلمينَ حتى ولو كانوا فقراءَ، عندَ أكثر الفقهاء، مِنهم: مالكٌ، والشافعيُّ، وأحمد، وكثيرون.
الحُكمُ التاسعُ: يُخرِجُ الرَّجلُ زكاةَ الفِطرَ عن نفسِه، وعمَّن يَمُونُ مِن أهلِه، ويُنْفِقُ عليهم، مِن زوجةٍ، وأبناءٍ، وبناتٍ، وغيرِهم، تَبعًا للنفقة، وقد صحَّ عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ ــ رضي الله عنها ــ:(( َنَّهَا كَانَتْ تُخْرِجُ صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مَنْ تَمُونُ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ))، وصحَّ عن ابنِ عمر ــ رضي الله عنه ــ:((أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ جَمِيعِ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، عَمَّنْ يَعُولُ)).
الحُكمُ العاشرُ: دَلَّتِ السُّنةُ النَّبويةُ وآثارُ الصحابةِ على: أنَّ زكاةَ الفِطرِ تُخرَجُ في البلدِ التي يكونُ فيها مُخرِجُها، فمَن كانَ بمكَّة يُخرجُ زكاتَه فيها، على فُقرائِها، ولا يُرسِلُها إلى فُقراءِ المَدينة، ومَن كان في الرياض فعلَى فُقراءِ الرياضِ، ومَن كانَ في القاهرةِ فعلَى فُقرائها، وليسَ في الإسكندَريةِ، وهكذا، وهو قولُ أئمَّةِ المذاهبِ الأربعةِ، وغيرِهم، واختلفوا فيمَن أرسلَها إلى بلدٍ آخَرَ مع وجودٍ فُقراءَ في مكانِه، فقال كثيرون: لا تُجزئ، وإذا كان الرَّجلُ يَعيشُ في بلدٍ، ومَن يُنْفِقُ عليهم يَعيشونَ في بلدٍ آخَر، فيُخرِجُ عن نفسِه حيث يَسكُن، ويُخرِجونَ هُم حيثُ يَسكنون.
اللهمَّ ارفع الضُّرَ عن المُتضرِّرينَ مِن المسلمينَ، وأعِذنا وإيَّاهُم مِن الفتنِ ما ظهرَ مِنها وما بَطن، وتقبَّل صيامَنا وقيامَنا وجميعَ طاعاتِنا بقبولٍ حسَن، واجعلنا مِمَّن صامَ وقامَ رمضانَ وليلةَ القدرِ إيمانًا واحتسابًا فغَفَرتَ له ما تقدَّم مِن ذنبِه، وارحَم موتانا، وسَدِّد لِمراضِيكَ وُلاتَنا ونُوّاَبَهم وجُندَنا وأهلينا، إنَّك سميع الدعاء، وأقول هذا، وأستغفر الله لِي ولكم.