الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي تفضَّل على عباده، وفصَّل لهم الحقوق والواجبات، ورضِيَ لهم الأعمال الصالِحات، وكرِهَ لهم السيئات، ووعدَ الصادقين بالخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مُجيبُ الدعوات، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُؤيَّدُ بالمُعجِزات، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه الناصِرين لدين الله بالجهاد والحُجَج والبيِّنات.
أما بعد: فاتقوا الله فلا تُضيِّعوا فرائِضَه، ولا تعتَدوا على حُدوده؛ فقد فازَ من اتَّقى، وخابَ من اتَّبعَ الهوى.
عباد الله: اعلموا أن أعمال العباد لهم أو عليهم، لا ينفعُ اللهَ طاعةُ الطائعين، ولا تضُرُّه معصيةُ العاصِين، قال الله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) [الجاثية: 15]، وقال تعالى: (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 40].
وقال - عز وجل - في الحديث القُدسي: «يا عبادي! إنكم لن تبلغُوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغُوا نفعِي فتنفَعوني . يا عبادي! إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم، ثم أُوفِّيكم إياها؛ فمن وجد خيرًا فليحمَد الله، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسَه»؛ رواه مسلم من حديث أبي ذرٍّ - رضي الله عنه -.
وأداءُ الحقوق الواجبة على العبد نفعُها في آخر الأمر وأوله يعودُ إلى المُكلَّف بالثواب في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ) [الأنبياء: 94]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) [الكهف: 30].
والتقصيرُ في بعض الحقوق الواجِبة على المُكلَّف، أو تضييعُها وتركُها بالكلية، يعودُ ضررُه على الإنسان المُضيِّع للحقوق المشروعة في الدين؛ لأنه إن ضيَّع حقوقَ ربَّ العالمين فما ضرَّ إلا نفسَه في الدنيا والآخرة، فالله غنيٌّ عن العالمين، قال الله تعالى: (إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 7].
وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [فاطر: 15]، وقال - عز وجل -: (هَا أَنتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) [محمد: 38]، وقال تعالى: (وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [النساء: 111].
وحقُّ الربِّ الذي يجبُ حفظُه هو التوحيد، وقد وعدَ الله عليه أعظمَ الثواب، قال تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ) [ق: 31].
ومن ضيَّع حقَّ الله - عز وجل - بالشرك به، واتخاذ وسائط من دون الله يعبُدهم ويدعُوهم لكشف الضُّرِّ والكُربات، وقضاء الحاجات، ويتوكَّل عليهم، فقد خابَ وخسِرَ وأشركَ بربِّه، وضلَّ سعيُه، لا يقبلُ الله منه عدلاً ولا فِدية، ويُقال له: ادخل النار مع الداخلين، إلا أن يتوبَ من الشرك.
وفي الحديث: «يُقال للرجل من أهل النار: لو أن لك ما في الأرض هل تفتدي به من النار؟ فيقول: نعم. فيُقال له: قد أُمِرتَ بما هو أيسرُ من ذلك، ألا تُشرِك بالله شيئًا»؛ رواه البخاري.
وإن ضيَّع المُكلَّف وترك حقوقَ الخلق الواجِبةَ فقد حرمَ نفسَه من الثواب في الدنيا والآخرة، وإن قصَّر في بعضِها فقد حُرِم من الخير بقدر ما نقصَ من القيام بحقوق الخلق.
والحياةُ تمضِي بما يلقَى الإنسانُ من شدَّة ورخاء، وحِرمان وعطاء، ولا تتوقَّفُ الحياةُ على نَيل الإنسان حقوقَه الواجِبة له، وعند الله تجتمِعُ الخُصوم، فيُعطِي اللهُ المظلومَ حقَّه ممن ظلمَه وضيَّع حقَّه.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لتُؤدُّن الحقوقَ إلى أهلها يوم القيامة، حتى يُقاد للشاة الجَلحاء من الشاة القَرناء»؛ رواه مسلم.
وأعظمُ الحقوق بعد حقِّ الله ورسوله: حقوقُ الوالدَين، ولعِظَم حقِّهما قرنَ الله حقَّه بحقِّهما، فقال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23، 24]، وقال تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
وعظَّم الله حقَّ الوالدَين؛ لأنه أوجدَك وخلقَك بهما، والأمُّ وجدَت في مراحل الحمل أعظمَ المشقَّات، وأشرفَت في الوضع على الهلاك، قال الله تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف: 15].
ورَضاعُه آيةٌ من آيات الله، والأبُ يرعَى ويُربِّي، ويسعَى لرزقِ الولد، ويُعالِجان من الأمراض، ويسهرَ الوالِدان لينام الولد، ويتعبَان ليستريح، ويُضيِّقان على أنفسهما ليُوسِّعَا عليه، ويتحمَّلان قذَارَة الولد ليسعَد، ويُعلِّمانه ليكمُل ويستقيم، ويُحبَّان أن يكون أحسنَ منهما.
فلا تعجَب - أيها الولد - من كثرة الوصيَّة بالوالدَين، ولا تعجَب من كثرة الوعيد في عقوقهما.
ولن يبلغَ ولدٌ كمال البرِّ بالوالد مهما اجتهَدَ وبذَلَ إلا في حالةٍ واحدةٍ؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يجزِيَ ولدٌ والدَه إلا أن يجِدَه مملوكًا فيشترِيَه فيُعتِقَه»؛ (رواه مسلم وأبو داود والترمذي).
والوالِدان بابان من أبواب الجنة؛ من برَّهما دخل، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «رغِمَ أنفُه، رغِمَ أنفُه، رغِمَ أنفُه». قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدركَ أبوَيه عند الكِبَر أو أحدَهما ثم لم يدخُل الجنة»؛ رواه مسلم.
أيها المسلم: إذا رضِيَ عنك والِداك فالربُّ راضٍ عنك؛ عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «رِضا الله في رِضا الوالِد، وسخَطُ الله في سخَط الوالِد». حديث صحيح؛ رواه الترمذي، والحاكم في "المستدرك"، وقال: "حديث صحيح".
وبرُّ الوالدَين هو طاعتُهما في غير معصية، وإنفاذُ أمرهما ووصيَّتهما، والرِّفقُ بهما، وإدخالُ السرور عليهما، والتوسِعةُ عليهما في النفقة، وبذلُ المال لهما، والشفقةُ والرحمةُ لهما، والحُزنُ لحُزنهما، وجلبُ الأُنس لهما، وبرُّ صديقهما، وصِلةُ وُدِّهما، وصِلةُ رحِمهما، وكفُّ جميع أنواع الأذى عنهما، والكفُّ عما نهيَا عنه، ومحبَّةُ طول حياتهما، وكثرةُ الاستغفار لهما في الحياة وبعد الموت. والعقوقُ ضدُّ ذلك كلِّه.
وكثرةُ العقوق من أشراط الساعة، وفي الحديث: «إن من أشراط الساعة أن يكون المطرُ قيظًا، والولدُ غيظًا، وأن يفيضَ الأشرارُ فيضًا، وأن يغيضَ الأخيارُ غيضًا».
ومن أعظم العقوق للوالدَين: تحويلُهما أو تحويلُ أحدهما إلى دار المُسنِّين، وإخراجُهما من رعاية الولد - والعياذ بالله -. وهذه ليست من أخلاق الإسلام، ولا من كرم الأخلاق، ولا من الشَّهامة والمُروءة.
ومن أعظم العقوق: التكبُّر على الوالدَين، والاعتداءُ عليهما بالضرب والإهانة، والشتم، والحِرمان؛ عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الجنةَ يُوجد ريحُها من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجِدُ ريحَها عاقٌّ»؛ رواه الطبراني.
قال الله تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) [النساء: 36].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ونفعنا بهدي سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقول قولي هذا وأستغفرُ الله العظيم الجليل لي ولكم وللمسلمين، فاستغفِروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القويُّ المتين، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الصادقُ الأمين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فاتقوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكوا من الإسلام بالعُروة الوُثقَى.
عباد الله: إن حقوق الوالدَين مع ما في القيام بها من عظيم الأجور والبركة، فهي من مكارِم الأخلاق، وأكرم الخِصال التي يقوم بها من طابَت سريرتُه، وكرُم أصلُه، وزكَت أخلاقُه. وجزاءُ الإحسان الإحسان، والمعروف حقُّه الرعاية والوفاء، والجميلُ يُقابَلُ بالجميل، ولا يُنكِرُ المعروفَ والجميل إلا مُنحَطُّ الأخلاق، ساقطُ المُروءة، خبيثُ السريرة، قال الله تعالى: (وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [البقرة: 237].
وقال تعالى عن عيسى - عليه الصلاة والسلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [مريم: 32]، فالعاقُّ جبارٌ شقيٌّ، وعن يحيى - عليه السلام -: (وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا) [مريم: 14].
وقال عن الشقيِّ: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ) [الأحقاف: 17].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! من أحبُّ الناس بحُسن صحابَتي؟ قال: «أمُّك، ثم أمُّك، ثم أمُّك، ثم أباك، ثم أدناك فأدناك»؛ رواه البخاري ومسلم.
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا»، فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم ارضَ عن الصحابة أجمعين، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيِّك أجمعين، اللهم وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم وارضَ عنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ...