الصلاة وفضائلها

الشيخ علي بن زيد المدخلي

الخطبة الأولى:

الحمد لله، جعل الصلاة عماد الدين، وكتابًا موقوتًا على المؤمنين، حثّنا عليها في الذكر المبين، فقال عزّ من قائل: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}.

نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خشعت له القلوب وخضعت، ودامت له النفوس ورقّت، وعنت له الوجوه وذلّت.

ونشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، الناصح الصادق الأمين. آخر وصية له ﷺ: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم).

اللهم صلِّ وسلِّم على محمد الأمين، الموصوف بالرحمة والمحبة واللِّين، وعلى آله وأصحابه الميامين، والتابعين لهم، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:
فيا أيها المسلمون، اتقوا الله، فتقواه أفضل مُكتسَب، وطاعته أعلى نسب.

عباد الله:
نعم الله علينا سابغة، وآلاؤه عظيمة، أعظمها نعمة الإسلام والإيمان، حقًا قول الله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.

فاحمدوا الله تعالى، فقد جعلنا من خير أمة أُخرجت للناس، وهدانا لدين ليس به شك ولا التباس.

ألا وإن من أظهر معالم ديننا، وأعظم شعائره، وأنفع ذخائره: الصلاة المفروضة.

فهي ركن الدين، ومعراج المتقين، وفريضة الله على المسلمين.

فلا دين لمن لا صلاة له، ولا حظّ في الإسلام لمن تركها وأهملها.

هي آكد وأول مفروض، وأعظم معروض، وأجلّ طاعة، وأرجى بضاعة.

من حفظها حفظ دينه وأمانته، ومن أضاعها فهو لما سواها أضيع.

هي رأس الأمانة، يقول عنها النبي ﷺ: (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة).

كلّ الفرائض، أنزلها الله سبحانه وتعالى على رسوله، إلا الصلاة، فإنه سبحانه أصعد رسولَه إليها، فعرج به إلى السماء السابعة، حتى رفعه إلى سدرة المنتهى، ثم فرض عليه خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فراجع ربه، فسأله التخفيف لأمته، فهي لا تطيق ذلك، فوضعها الله عنه عشرًا عشرًا، حتى أمره بخمس صلوات كل يوم وليلة، وخمسون في الثواب والأجر.

فلما جاوز رسول الله ﷺ سدرة المنتهى، إذ بمنادٍ يقول: (أمضيتُ فريضتي، وخففتُ عن عبادي).

عباد الله:
الصلاة المفروضة هي أول ما يُحاسب عليه العبد يوم القيامة، قال رسول الله ﷺ: (إن أول ما يُحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله).

من ترك صلاة مكتوبة متعمدًا من غير عذر، فقد برئت منه ذمة الله.

ولقد كان أصحاب النبي ﷺ لا يرون شيئًا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، وفي ذلك قال النبي ﷺ: (ليس بين العبد والكفر إلا ترك الصلاة).

بل كانت وصية رسول الله ﷺ عند فراق الدنيا، وهو في الرمق الأخير، كان يسأل: (هل صلّى الناس؟ هل صلّى الناس؟ مروا أبا بكر فليصلِّ بالناس).

الصلاة يا عباد الله عنوان الفلاح، وطريق النجاح،
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَىٰ صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَٰئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

جعلها الله قرة للعيون، ومفزعًا للمحزون، فكان ﷺ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة، ويقول: (جُعلت قرة عيني في الصلاة).

وكان ﷺ ينادي: (يا بلال، أرحنا بالصلاة).

حقًا، لقد كانت الصلاة سروره، وهناءة قلبه، وسعادة فؤاده، بنفسي وأبي وأمي هو ﷺ.

أيها المسلمون:
الصلاة أكبر وسيلة لحفظ الأمن، والقضاء على الجريمة، وأنفع وسيلة للتربية على العفة والفضيلة.
ألم يقل المولى وهو أصدق القائلين: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.

المحافظة عليها عنوان الصدق والإيمان، والتهاون بها علامة الخذلان والخسران.

طريقها معلوم ومرسوم، من حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاةً وعنوانًا.

ومن حافظ على ركوعهن وسجودهن ومواقفهن، وأيقن بأنهن حق من عند الله، وجبت له الجنة.

الصلوات الخمس نفحات ورحمات، وتكفير للسيئات، ورفعة في الدرجات، يقول رسول الهدى ﷺ: (أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء. قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا).

الصلاة باب للرزق والخيرات {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ}.

وهي المفزع عند الجزع، وإليها الهرب عند الهلع،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.

واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، واستمعوا يا رعاكم الله لهذا الحديث العظيم الذي رواه الإمام الطبراني في صحيحه، وصححه الألباني، قال: أن رسول الله ﷺ قال: (تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الصبح غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم الظهر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العصر غسلتها، ثم تحترقون تحترقون، فإذا صليتم العشاء غسلتها، ثم تنامون فلا يُكتب عليكم حتى تستيقظوا).

ومعناه: أنكم أيها المسلمون تحترقون بكثرة وقوعكم في المهالك، بكثرة الذنوب والمعاصي، فتكفّرها الصلوات الخمس بحمد من الله تعالى، كما قال رسول الله ﷺ في المتفق عليه: (الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن إذا اجتُنبت الكبائر).

ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة، ومن ذرياتنا، ربنا وتقبل دعاء، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وتقصير، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمد لله، غافر الزلات، مقيل العثرات، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات.

نشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب الأرض والسماوات.

ونشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، شهادة نرجو بها النجاة.

اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان وإيمان إلى يوم الممات.

أما بعد:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأطيعوه، وراقبوه، ولا تعصوه.

الصلاة يا عباد الله، فريضة مشتركة بين النبيين، قال سبحانه وتعالى عن إبراهيم ولوط ويعقوب وإسماعيل عليهم الصلاة والسلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ}.

من أراد الحِرز والحفظ والتوفيق، فليحافظ على الصلوات الخمس مع جماعة المسلمين، فإن رسول الله ﷺ قال: (من صلّى صلاة الصبح فهو في ذمة الله).

أهل الصلاة عباد الله، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

فلن يضيع الله أجرهم، {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ}.

أهل الصلاة اجتمع لهم شرف المناجاة، وشرف العبادة، وشرف المسجد، فكان لهم النور التام يوم القيامة، كما قال نبينا ﷺ: (بشّر المشّائين في الظُّلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة).

أهل الصلاة عباد الله، برآء من النار ومن النفاق، كما قال رسول الهدى ﷺ: (من صلّى أربعين يومًا الصلوات في جماعة، لا تفوته تكبيرة الإحرام، كتب الله له براءتين: براءة من النفاق، وبراءة من النار).

ومن أعظم ثمرات الصلاة وجوائزها، أنها تؤهلك أيها المسلم إلى رؤية الله تعالى في الآخرة، وأعظم بها نعمة، فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: كنا عند النبي ﷺ، فنظر إلى القمر ليلة البدر، فقال:
(إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر، لا تُضامّون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا) ثم قرأ:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}.

وهل نعيم أعظم من رؤية الباري عز وجل؟

أهل الصلاة يكسوهم نور في الوجه، وراحة في القلب، وصلاح في البدن، وانشراح في النفس والروح.

لقد نعتهم الله لنا في القرآن العظيم بقوله تعالى:
{سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ}.

ولا زلنا بحمد الله نشاهد أناسًا من أهل المساجد، يكسو محياهم البشر والفلاح.

بل لا نزال بحمد الله نشاهد شبابًا إذا حضرت الصلاة، أوقفوا سياراتهم، وصفّوا مع المصلّين، فلله الحمد والمنة.

الله أكبر يا مؤمنون، إنها الصلاة، التي هي الصلة مع رب العالمين، هي أمّ العبادات، وأساس الطاعات، إنها نهر الحسنات الجاري، عمود الدين وشعاره وأُسّه ودِثاره.

والله، إنها لكذلك وأكثر من ذلك، فهي خضوع وخشوع، وافتقار واضطرار، ودعاء وثناء، وتحميد وتمجيد.

كفى شرفًا أن رسول الله ﷺ يقول:
(إذا كان أحدكم في الصلاة، فإنه يُناجي ربّه).

والله تعالى يقول:
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ ۚ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ۚ ذَٰلِكَ ذِكْرَىٰ لِلذَّاكِرِينَ}.

فيا عبد الله، قد سمعت الذكرى، وعرفت الحق، فالزم طريق الهدى والتُّقى، وحافظ على عهد الله إليك، وتأهّب، فالحساب بين يديك.

حافظ على صلاتك مهما قصّرت وأخطأت، حافظ عليها مهما عصيت وارتكبت، فوالله، إنها ستنهاك عن كل فحشاء ومنكر، ولو بعد حين.

وفقني الله وإياكم لمراضيه، وجعل مستقبل حالنا خيرًا من ماضيه.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك نبينا محمد ﷺ ...

الدعاء ...