الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله ﷺ.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون:
فإن القتل بغير حق من أعظم الذنوب والمعاصي، حتى قال الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءُهُ جَهَنَّمُ خَالدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}،
وقال ﷺ: (من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) [رواه البخاري].
وهذا الوعيد في حق من قتل نفسًا بغير حق سواء لعداوة أو خصومة أو بقصد السرقة أو لغير ذلك من الأسباب.
أما إذا كان القتل صادراً عن عقيدة فاسدة، أي عن اعتقاد كفر المسلم بغير مُكَفِّر شرعي واستحلال دمه أو استحلال دم المعاهد بغير مكفر شرعي أيضًا، فكان القتل هنا أشد وأعظم جرمًا؛ لأن هذا هو دين الخوارج، وهم شرار الخلق وكلاب النار يوم القيامة، وقد توعدهم ﷺ بما لم يتوعد به فرقة أخرى، والعياذ بالله.
عباد الله:
إن أمتنا ابتليت بعقيدة الخوارج ومنهجهم وفكرهم منذ عهد مبكر، فقد بدأوا بسفك دم عثمان، ثم علي، ثم جمع من الصحابة رضي الله عنهم، ثم استمر بلاؤهم وشرهم إلى عصرنا هذا.
بل إنه في عصرنا هذا، لما غلب الجهل، واشتد سلطان الهوى، وتيسرت سبل التواصل بين الناس اتصالًا حسّيًا ومعنويًا، فشى الاغترار بهم والتأثر بشبهاتهم.
أيها الإخوة:
إن الخوارج يتصيدون الناس بطرق شتى وأساليب متنوعة، ومنها على سبيل المثال خداع طائفة من الناس بالشعارات الإسلامية البراقة من خلال أسماء تنظيماتهم، كتنظيم قاعدة الجهاد، وتنظيم الدولة الإسلامية، وتنظيم جبهة النصرة، أو تنظيم الإخوان المسلمين ونحوها من الأسماء.
فالجهاد، ودولة الإسلام، ونصرة دين الله كلها معانٍ سامية لها تأثير على عواطف من يقف عند الشعار الخارجي، لكنه لا يبحث ولا يختبر ما وراء هذه الشعارات من الحقائق، والتي يمكن اختصارها في تكفير المسلمين بغير حق واستحلال دمائهم بغير حق، والدعوة إلى الخروج على ولاة الأمور، وتسليط بأسهم على أهل التوحيد والسنة، وكف بأسهم عن دول معينة كدولة الرافضة ودولة اليهود.
ومن طرقهم إثارة تعاطف الناس من خلال إظهارهم الحرص على حقوق الرعية المهضومة المستلبة، لذا يكثر حديثهم عن شؤون المال وتوزيع الثروة ونحو ذلك.
وإمامهم في هذا هو رأس الخواري ذو الخويصرة، فإن أول اعتراضه على رسول الله ﷺ كان بشأن سياسته المالية في توزيع غنائم حُنين وغيرها.
وهم لا يهمهم الإصلاح ولا أحوال الناس، ولكن يهمهم إثارة غيظهم وأحقادهم على ولاة الأمور حتى تشتعل نار الفتن بين الشعوب وحكامها.
وإلا فمن أراد الإصلاح فعليه أن يسلك سبيل إمام المصلحين محمد ﷺ، حيث أمر الرعية بالصبر على جور الحكام، وأمر ببذل النصح لهم على وجه السرية حتى لا تكون تلك النصيحة سببًا للفتن.
ومن طرقهم في خداع الشباب:
تسميتهم ما يقومون به من الانتحار والفتن والاغتيالات والذبح والحرق جهادًا في سبيل الله، وأن الانضمام إليهم يعني ضمان الشهادة والجنة والحور العين.
فيستلبون الشباب، ولا سيما العصاة منهم، بمثل هذا الطرح، يقولون لهم: "ذهب شبابك وأنت في ترك صلاة وفعل فواحش وغفلة عن الله، فهلم إلى أقرب طريقة إلى الجنة، هلم إلى عملية استشهادية، هلم إلى عملية انتحارية، فإنك بضغطة زر، وخلال لحظة واحدة، وإذا بك تشرب خمور الجنة، وتضاجع الحور، وتتقلب في أنهار الجنة كيف تشاء".
فيصدقهم بعض الشباب، فيشترون الجنة بما جعله الله من أسباب الحرمان من الجنة واستحقاق النار، وذلك لأنهم يبتدعون في دين الله بسلوك مسلك الخوارج.
والبدعة، عباد الله، من أسباب دخول النار، كما في الحديث: (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
ويقتلون أنفسهم، وقتل النفس من أسباب دخول النار، كما قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا، وكان ذلك على الله يسيرًا}.
ويقتلون المسلمين المصلين، وقتل أهل التوحيد من أسباب دخول النار، كما قال ﷺ: (إني نُهيت عن قتل المصلين).
ويقتلون الناس غدرًا، كقتلهم لرجال الأمن وغيرهم، والقتل غدرًا من أسباب دخول النار، كما قال ﷺ: (الإيمان قيد الفتك، لا يفتك مؤمن، أي لا يقتل غدرًا وغيلة).
وينزعون أيديهم من طاعة ولاة أمورهم، وشق العصى ونزع البيعة، من أسباب دخول النار، كما قال ﷺ: (من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
عباد الله:
إنه لما كان العلم الشرعي هو ما يكشف بعد توفيق الله باطل أقوالهم وأفعالهم، كان الخوارج أشد الناس حرصًا على إسقاط علماء السنة وتشويه سمعتهم، حتى لا يأخذ الناس عنهم، ولا سيما الشباب.
فتجدهم يشنون حملات لا تتوقف على العلماء، برميهم بالمداهنة والعمالة والخيانة، والجهل بواقع الأمة ونحو ذلك من الأوصاف والتهم المنفرة عنهم.
ولهذا يستولون على عقل الشاب ، فتجده يقتل أنفسًا معصومة بناءً على فتوى من شخص مجهول لا يدري من هو، وجدها في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، في الوقت الذي يرمي فيه فتاوى العلماء الربانيين التي تنهى عن مثل هذا الإجرام تحت قدميه، لا يبالي بها ولا يلتفت إليها.
فعلى شبابنا الحذر كل الحذر من هذه التنظيمات الخارجية التكفيرية، لا تغتروا بأسمائها، ولا بطرحها، ولا برموزها، فإنهم رؤوس بدعة وضلالة وجهالة.
ولا تغتروا بمن يذكيها أو يدافع عنها، سواء صدرت هذه التذكية من داعية أو ولي أو معلم أو غير ذلك، فتزكية الباطل لا تجعله حقًا، وتزكية المبتدع لا تجعله سلفيًا، ما دام واقعه يكذب تلك التزكية.
نعوذ بالله من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق حمده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ، صفيلُه وخليلُه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله؛
فإن حوادث الاغتيالات لبعض الأهل والأقارب الملبسة بلباس الدين والجهاد والشرع، التي حدثت في الأوقات القريبة أو الماضية، تستوجب منا جميعًا أخذ الحيطة والحذر تجاه أبنائنا وبناتنا، ولا سيما في أمرين مهمين: أمر أصحابهم، وأمر المواقع التي يدخلونها في النت.
فإن الصاحب لا يكفي أن يكون ظاهره الاستقامة حتى تطمئن إليه، لأن الاستقامة استقامتان:
استقامة في ترك الشهوات، بحيث يعفي لحيته، ويرفع ثوبه عن كعبه، ويحافظ على صلواته ونحو ذلك من المظاهر المعلومة.
واستقامة أهم منها، وهي الاستقامة على عقيدة السلف الصالح، واجتناب البدع والشّواذ.
فإذا كان الصاحب مصليًا صائمًا تاليًا للقرآن، لكنه خارجي تكفيري العقيدة، فلا خير فيه، أو كانت الفتاة مصلية صائمة محتشمة ولكنها خارجية تكفيرية، فلا خير فيها، فهما أخطر على ابنك وابنتك من أصحاب الفواحش مع سلامة عقيدتهم.
فالنبي ﷺ وصف الخوارج بأنهم أهل صلاة عظيمة، وأهل صيام عظيم، وأهل تلاوة القرآن، ومع ذلك قال عنهم: (شرار الخلق والخليقة)، وقال عنهم: (كلاب النار)، وقال عنهم أنه لو أدركه لقتلهم.
وهذا يدلنا أن الاجتهاد في التعبد مع فساد العقيدة لا ينفع بشيء، والعياذ بالله.
ومن فقه السلف ما تضمنته هذه الحكاية: فقد جاء رجل إلى يونس بن عبيد أحد أئمة السلف الصالح، فقال: "يا أبا عبد الله، تنهانا عن مجالسة عمرو"، -يعني ابن عبيد المعتزلي الضال- وقد دخل عليه ابنك؟، قال: "ابني؟"، قال: نعم. فتغيَّض الشيخ، قال: "فلم أبرح حتى جاء ابنه فقال: يا بُني، قد عرفت رأيي في عمرو". ثم تدخل عليه. قال: "كان معي فلان"، قال فجعل يعتذر. فقال يونس: "أنهاك عن الزنا والسرقة وشرب الخمر، ولأن تلقى الله عز وجل بهن أحبُّ إليَّ من أنْ تلقاه برأي عمر وأصحاب عمرو".
هذا الموقف منه رحمه الله ليس من باب التهوين من الفواحش والمعاصي، لا بل كلها بلاء وشر، ولكن المقصود بيان خطر البدعة، وأنها أشر وأشد من المعصية، فيجب الحذر منها حذرًا أشد وآكد من الحذر من المعصية.
وإن بعض الآباء يحرص أشد الحرص ألا يدخل أبناءه أو بناته على المواقع المخلة بالآداب والأخلاق، وهذا واجب يشكرون عليه، لكنهم لا يبالون بدخول أبنائهم وبناتهم على مواقع البدع والمبتدعة، ولا يفكرون في ذلك أصلاً، وهذا من الجهل ونقص البصيرة وعدم الإحساس والمبالاة بعظم شأن البدعة وشدة خطرها في الدنيا والآخرة.
فاعتنوا بأبنائكم، وربوهم على طاعة الله ورضاه ورضا رسوله ﷺ، وعلى توقير ولاة الأمور واحترامهم والدعاء لهم، وإياكم أن يسمعوا منكم القدح والطعن والانتقاد لولاة الأمر.
فبعض الآباء يكثر في مجالسه من تشويه صورة الدولة، وإذا انتمى ولده لداعش استغرب وتعجب، وهذا من العجائب والغرائب.
حثوا أبنائكم وبناتكم، وشجعوهم على الرجوع إلى كبار العلماء، كأمثال سماحة المفتي والعلامة الفوزان حفظهم الله، وإلى فتاوى اللجنة الدائمة، وبيانات هيئة كبار العلماء، والإرث المبارك للشيخ ابن باز، وابن عثيمين، والألباني رحمهم الله، وأمثالهم من علماء السنة في هذا البلد. فتواتهم موجودة، والوصول إليها سهل ميسر، والحمد لله.
ربوا أبناءكم وبناتكم على شكر نعمة الله عليهم، أن هداهم للإسلام والسنة والتوحيد، ومنَّ عليهم بالاجتماع، والأمان، والرخاء، وحفظهم من الفتن التي أهلكت غيرهم.
ربوهم وفهموهم، ووضحوا لهم أن هذه النعم مرهونة البقاء بشكر الله عليها، بالاستقامة على كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وعقيدة السلف الصالح.
فمتى ما غيروا وبدلوا، فإن الله سريع العقاب، شديد البطش والانتقام، ليس بيننا وبينه سبب، ولا نسب إلا بطاعته.
اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك.
واعلموا رحمني الله وإياكم، أن الله جل جلاله أمركم بالصلاة على نبيه ﷺ، فقال جل وعلا قولا كريما:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد ﷺ، وعلى آله وأصحابه.
وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة: أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.