الخطبة الأولى:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على المَبعوثِ رحمةً للإنسِ والجِنِّ أجمعين، وعلى آلِه وأصحابِه والتابعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
إنَّ التَّفقهَ في الدِّينِ، وتعلًّمَ أحكامِه، لَمِن أجَلِّ العبادات، وأعلى خِصالِ المُتقين، وأكبرِ أسبابِ زيادة الإيمانِ والخشية، حيث قال الله سبحانه مُرغِّبًا: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ }، وقال تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ }، فأقبِلوا على العلم، وتزوَّدوا مِنه، لاسِيَّما ما يتعلَّقُ بصيامِ رمضانَ عندَ دخولِ وقتِه، ودُونكم جُملة مِن المسائلِ الفقهيةِ المُتعلِّقةِ بالصوم والصائمين:
المسألةُ الأولى / عن صومِ الصِّغارِ ذكورًا وإناثًا.
يُستحبُّ للقائمِ على الصغيرِ أو الصغيرةِ إذا رَأى أنَّهما قد أطاقا الصومَ وقَدِرا عليهِ قبلَ بُلوغَهما أنْ يأمرَهُما ويَحُثَّهما على صيامِ رمضانِ أو أكثرِهِ أو بعضِه لِيعتادانِه، ويَتمرَّنا عليه، وقد كان تَصويمُهم عندَ الإطاقةِ والقُدرةِ معمولًا بِه زَمَنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابِه، وصَحَّ أنَّ رجلًا أفطرَ في نهارِ رمضانَ، وأُتِيَ بِه إلى عمر ــ رضي الله عنه ــ فقال له:((وَيْلَكَ، وَصِبْيَانُنَا صِيَامٌ، وَضَرَبَهُ)).
المسألةُ الثانية / عن صومِ المُغْمَى عليه.
المُغْمَى عليهِ في رمضانَ لا يَصنعُ أهلُه جهتَه شيئًا حتى يتبيَّنَ لهُم حالُه، فإنْ استمرَ معه الإغماءُ حتى ماتُ فلا شيءَ عليه، لا صيامَ عنه، ولا إطعامَ، لأنَّهُ ماتَ قبلَ التمكُّنِ مِن القضاءِ، فسقط َعنه، وبِه قال عامَّةُ الفقهاء، وصحَّ أنَّ ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ قال :((فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ:لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ))، وإنْ مَنَّ اللهُ عليهِ بالشفاءِ مِن الإغماءِ وجَبَ عليهِ قضاءُ جميعِ أيَّامِ إغمائِه باتفاقِ العلماء، ومَن نَوى الصيامَ مِن الليلِ ثم أُغمِيَ عليهِ قبلَ طلوعِ الفجرِ فلم يفِق إلا بعد غروبِ الشمس فسدَ صومُ يومِه هذا، وعليهِ القضاءُ عندَ أكثرِ العلماء، وأمَّا مَن نَوى الصيامَ مِن الليل ثم وُجِدَت مِنه إفاقةٌ في النهار ولو قليلةً ثم أُغمِيَ عليه في باقيه، فصيامُ يومِه هذا صحيحٌ باتفاقِ الأئمة الأربعة، وبعض الناس قد يُغمَى عليه في نهار الصوم قليلًا ثم يفِيق، وهذا صومُه صحيحٌ باتفاقِ المذاهب الأربعة، ويُؤكِّدُ عدمَ فسادِ صومِه ما ثبت أنَ ابن عمر ــ رضي الله عنه ــ:((كَانَ يَصُومُ تَطَوُّعًا فَيُغْشَى عَلَيْهِ فَلَا يُفْطِرُ))، والغَشْيُ: قليل الإغماء.
المسألةُ الثالثة / عن صومِ المريض.
أباحَ اللهُ للمريضِ أنْ يُفطِرَ في رمضان، فقال سبحانه:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، إلا أنَّه ليسَ كلُّ مَرضٍ يُبيحُ الفِطرَ لصاحبِه، وإنَّما يُبيحُه المرضُ الذي يُجهِدُ الصائمَ أو يَضُرُّ بِه، وإلى هذا ذهبَ الأئمةُ الأربعةُ، وغيرُهم.
وللمريضِ مع صيامِ رمضانَ هذه الأحوال الثلاثة:
الحال الأوَّل: أنْ يكونَ مرضُه مِن الأمراضِ المُزمِنةِ التي لا يُرجَى شفاؤُه مِنها، ويَضُرُ بِه الصوم، أو يَشُقُ عليهِ ويُجهِدُه، وهذا يُباحُ له الفطرُ بقيَّةَ عُمرِه باتفاق العلماء، ويجبُ عليهِ عندَ أكثرِ العلماء إذا لم يَصُم أنْ يُطعِمَ عن كلِّ يومٍ أفطرَه مسكينًا، وإنْ تَحامَلَ على نفسِه فصامَ، فصيامُه صحيحٌ باتفاقِ العلماء.
الحال الثاني: أنْ يكونَ مرضُه مِن الأمراضِ التي يُرجَى شفاؤُه مِنها، فهذا ينتظرُ حتى يُشفَى، فإنْ شُفِي قَضَى بعددِ ما ترَكَ صيامَه مِن أيَّام، لقول الله تعالى:{وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، ومَن نَوى الصيامَ مِن الليلِ وفي أثناءِ النَّهارِ أصابَه مرضٌ فإنَّه يُباحُ له الفِطرُ باتفاقِ العلماء.
الحال الثالث: أنْ يَمرَضَ في رمضان، فيُفطِرَ فيه، ثم يموت قبلَ القضاء، وهذا لا يَخلو عن أمرين:
الأوَّل: أنْ يتمكَّنَ مِن القضاءِ بحصولِ الشِّفاء له إلا أنَّه يُفرَّط فيموت ولم يَقضِ بعد، وهذا يُطعَمُ عنه عن كلِّ يومِ مسكينًا باتفاق العلماء.
الثاني: أنْ يستمِرَ معه المرضُ حتى يموتَ، ولم يَتمكَّن مِن القضاء، وهذا لا شيءَ عليه، لا إطعامَ عنه ولا صيام، وقد صحَّ أنَّ ابن عباس ــ رضي الله عنه ــ قال:((فِي الرَّجُلِ الْمَرِيضِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَزَالُ مَرِيضًا حَتَّى يَمُوتَ: لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ)).
المسألةُ الرابعة / عن العاجزِ عن الصيامِ بسببِ كِبَرِ السِّن.
الرجلُ المُسِنُّ والمرأةُ العجوزُ إذا كانا لا يُطيقانِ صيامَ رمضان، فإنَّه يجوزُ لهما الفِطر، باتفاق العلماء، ويجبُ عليهِما إذا لم يَصوما عندَ أكثرِ الفقهاءِ أنْ يُطعِما عن كلِّ يومِ أفطراهُ مسكينًا، لِثبوت ذلكَ عن عددٍ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ويكونُ عددُ المساكينِ بعددِ أيَّامِ الشهر عند أكثر الفقهاء، فإنْ أطعَما عددًا أقلّ، بَقِيَ في ذِمَّتهما إطعامٌ مساكينَ بعددِ ما تركاه، ولم تَبرأ ذِمَّتُهما حتى يُكمِلا العدد، وإذا وصَلا إلى حَدِّ الخَرَفِ سقطَ الصومُ عنهما، لفقدِ أهليةِ التكليفِ وهي: العقل، ولا إطعامَ عنهما، فإنْ كانا يُميِّزانِ أيامًا، ويَهذيانِ أيامًا أخْرى، وجَبَ عليهما الصومُ أو بَدَلُه وهو الإطعامُ حالَ تَمييزهما، ولم يَجب حالَ هذيانِهما، وإنْ كانا يُميِّزانِ ويُخرِّفانِ في نفس اليوم، فلا شيءَ عليهما، لا صيامَ ولا إطعام.
المسألة الخامسة / عن صوم المرأة الحامل والمُرضِع.
المرأةُ الحامِلُ أو المُرضِعُ إذا كان بدنُها قويًا، وتتغذَّى تغذيةً جيَّدة مُفيدة، وكان الصومُ لا يَضُرُّ بِها، ولا بالجَنينِ الذي في بطنِها أو الطفلِ الذي تُرضِع، فإنَّها تصومُ ولا تُفطر، لأنَّها كالصَّحيح، وأمَّا إذا خافت على نفسِها أو على ولدِها مِن الصوم، فإنَّه يُباحُ لها الفِطر باتفاقِ العلماء، وثبت أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنِ الْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ الصَّوْمَ))، وللحاملِ والمُرضعِ حالان:
الحال الأوَّل: أنْ يُفطِرا بسببِ الخوفِ على نفسيهمِا مِن المرض، فيجبُ عليهِما القضاءُ فقط عندَ عامِّة الفقهاءِ، لأنَّهما بمنزلةِ المريضِ الخائفِ على نفسِه، والمريضُ لا يجبُ عليهِ إلا القضاءُ فقط بنصِّ القرآن، ولا إطعام عليهما.
الحال الثاني: أنْ يُفطِرا بسببِ الخوفِ على ولَديهِما مِن الضَّرر، فيجبُ عليهما القضاءُ باتفاقِ الأئمةِ الأربعة، وإنْ أطعمَتا مع القضاءِ عن كلِّ يومِ مسكينًا فحسَنٌ، لثبوتِ الإطعامِ عن بعضِ أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم، بارك اللهُ لكم فيما سمعتُم، وزادكُم فقهًا بِدينِه، إنَّه سميع الدعاء.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الغفورِ الرحيمِ، وأشهدُ أْنْ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وبالله ِأستعين.
أمَّا بعدُ، أيُّها الناس:
فلا يزَالُ الكلامُ معكُم متواصلًا عن أحكامِ الصيامِ الفقهية، فأقولُ:
المسألة السادسة / عن جماعِ الصائمِ في نهارِ رمضان.
الجماعُ في نهارِ رمضان مُحرَّمٌ، ومُفسِدٌ للصومِ، ومِن الكبائر، ومَن وقعَ فيه مختارًا فعليهِ الكفارةُ المُغلَّظةُ، بنصِّ السُّنةِ النَّبويةِ واتفاقِ العلماء، والكفارةُ المُغلَّظة هي: تحريرُ رَقبة، فمَن لم يَجد فصيامُ شهرينِ مُتتابعين، فمَن لم يَستطع فإطعامً سَتِّين مسكينًا، ومَن وقع مِنه جماعٌ في أيِّامٍ عِدَّة ومُختلِفةٍ مِن رمضان، فيجبُ عليه عن كلِّ يومٍ جامعَ فيه كفارةٌ مُستقِلَّة، لأنَّ كلَّ يومٍ مِن أيَّامِ رمضانَ عبادةٌ مُستقِلَّة، ويجبُ على المُجامعِ أيضًا مع الكفارةِ المُغلَّظةِ قضاءُ اليومِ الذي أفطرَهُ بالجماع، وإنْ كانت الزوجةُ مُطاوِعةً لزوجِها في الجماعِ فعليها مِثلُ ما عليهِ مِن كفارةٍ مُغلَّظةٍ، وقضاء، لأنَّها مُكلَّفةٌ بالصومِ مِثلَه، وحصلَ مِنها مِثلُ ما حصلَ مِنه مِن هَتك حُرمةِ صومِ رمضان، وبهذا كلُّه قال أكثرُ العلماء.
المسألةُ السابعة / عن كيفيةِ إطعامِ المساكينِ لِمَن لزِمَهُ الإطعامُ.
إطعامُ المساكينِ له ثلاثُ طرائق:
الطريقة الأولى: أنْ يُعطَى المساكينُ مِن القُوتِ الذي يُكالُ بالصَّاع، كالشَّعيرِ والبُرِّ والذُّرةِ والعدَسِ والأُرْزِ والدُّخْنِ، وأشباه ذلك، فصحَّ أنَّ ابن عباس قال:((الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ فَيُفْطِرُ وَيُطْعِمُ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ مِسْكِينًا نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ))، ومقدارُ ما يُعطَى المِسكينُ: نِصفُ صَاعٍ مِن جميعِ ما ذُكِرَ وأشباهه، ما عدا البُر، فمِنَ الصحابةِ مَن قال: يُخرِجُ نصفَ صَاعٍ، ومِنهم مَن قال: رُبْعَه، ونِصفُ الصِّاعِ: يَقْرُبُ مِن الكيلو ورُبع أو ونِصف.
الطريقة الثانية: أنْ يُعطَى المساكينُ طعامًا مطبوخًا يُشبعُهم، حيث صحَّ عن أنسٍ:((أَنَّهُ ضَعُفَ عَنْ صَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَكَبِرَ عَنْهُ، فَأَمَرَ بِمَسَاكِينَ فَأُطْعِمُوا خُبْزًا وَلَحْمًا حَتَّى أُشْبِعُوا)).
الطريقة الثالثة: أنْ يُعطَى المساكينُ طعامًا نيئًا يَصلح كوجبَة، كلحمٍ مع أُرزٍ وزيتِ وبصَل، أو دُجاجٍ مع خُبز وخضرواتٍ.
ولا يجوزُ أنْ يُعطَى المساكينُ نُقودًا، بدلَ الطعامِ، ولا تصحُّ الكفارة بالنقودِ عندَ أكثرِ العلماءِ، لأنَّه لم يأتِ في نُصوصِ القرآنِ والأحاديثِ النَّبويةِ وفتاوى وأفعالِ الصحابةِ غيرَ الطعام.
هذا وأسأل الله تعالى أنْ يبارك لنا في أقواتنا وأوقاتنا وأعمارنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همِّنا، ولا تُلهنا بِها عن آخِرتنا، ووفقنا لِما ينفعنا في معادنا، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، وأصلح ذات بينهم، وارزقهم الأمِن والإيمان، واجعلنا مِمَّن صام وقام رمضان إيمانًا واحتسابًا فغفرت له ما تقدَّم مِن ذنبه، إنَّك سميع الدعاء، وأقول هذا، وأستغفر الله لي ولكم.