الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
عِبَادَ الله:
لَا شَكَّ أَنَّ لِلتَّقْوَى أَثَرًا عَجِيبًا عَلَى النُّفُوسِ والْقُلُوبِ والْأَفْكَارِ، وعَلَى الْأَفْرَادِ والْـمُجْتَمَعَاتِ في طَاعَتِهَا وعِبَادَتِهَا، وكُلِّ شُؤونِهَا؛ إِيمَانِيَّةً أَوْ أَمْنِيَّةً أَوِ اجْتِمَاعِيَّةً أَوِ اقْتِصَادِيَّةً أَوْ غَيْرَهَا. وقَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ في بَيانِ المقصُودِ بالتَّقْوَى وثِمَارها، لا بُدَّ أَوَّلًا أَنْ نُعَرِّجَ على المعنى اللُّغَوِيِّ لِكَلِمَةِ التَّقْوَى؛ فحقيقةُ التَّقْوَى في اللُّغَة الوِقَايَةُ؛ أي: أَنْ يَقِيَ الإنسانُ نفسَهُ مما يخافُ ويحذرُ.
وأمَّا المقصودُ بالتَّقْوَى في اصْطِلاحِ العُلَماءِ؛ فيَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ والْإِمَامُ ابْنُ رَجَبٍ، رَحِمَهُمَا اللهُ: «إِنَّ مَدَارَ التَّقْوَى عَلَى الْوِقَايَةِ مِنْ عَذَابِ اللهِ؛ وذَلِكَ بِفِعْلِ أَوَامِرِهِ واجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ».
ورُوِيَ عَـنْ عَــلِيِّ بْــنِ أَبِي طَــالِـبٍ رضي الله عنه في قَــوْلِ اللهِ تَـعَـالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ﴾ [سورة آل عمران: 102]، أَنَّ التَّقْوَى هِيَ: «الْإِيمَانُ بِالتَّنزِيلِ، والْخَوْفُ مِنَ الْجَلِيلِ، والرِّضَا بِالْقَلِيلِ، والِاسْتِعْدَادُ لِيَوْمِ الرَّحِيلِ» .
ورُوِيَ عَنْ طَلْقِ بْنِ حَبِيبٍ في مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَيْضًا عِنْدَمَا جَاءَهُ قَوْمٌ يَسْأَلُونَهُ كَيْفَ يَتَّقُونَ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ: «اتَّقُوْهَا بِالتَّقْوَى». فَقِيْلَ لَهُ: صِفْ لَنَا التَّقْوَى. فَقَالَ: «العَمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ، عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ، رَجَاءَ ثَوَابِ اللهِ، وتَرْكُ مَعَاصِي اللهِ، عَلَى نُوْرٍ مِنَ اللهِ، مَخَافَةَ عَذَابِ اللهِ».
وَقَالَ مُجَاهِدٌ رحمه الله، وهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَيْضًا، عَنِ التَّقْوَى: «أَنْ يُطَاعَ اللهُ فَلَا يُعْصَى، ويُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، ويُشْكَرَ فَلَا يُكْفُرُ».
وَالتَّقْوَى ثَلَاثُ مَرَاتِبَ:
[1]الِاتِّقَاءُ
[2]والْخَوْفُ
[3]والْعَمَلُ بِالتَّنْزِيلِ
وقَدْ جَاءَتْ في الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ في ثَلَاثَةِ مَعَانٍ: التَّذَلُّلِ، والرَّهْبَةِ، والطَّاعَةِ، والْعِبَادَةِ، والتَّنْزِيهِ عَنِ الْـمَعَاصِي؛ كِبَارِهَا، وصِغَارِهَا، ومَا دَامَتِ التَّقْوَى كَذَلِكَ، ومَعْنَاهَا واضِحٌ جَلِيٌّ بَيِّنٌ مِنْ خِلَالِ مَا قَالَهُ سَلَفُنَا الصَّالِحُ؛ فَمَا شَرَفُهَا؟ ومَا فَضْلُهَا؟ ومَا مَنْزِلَتُهَا في دِينِ اللهِ وعِنْدَ الْـمُسْلِمِينَ؟
إِنَّ الْـمُتَأَمِّلَ في النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ في الْقُرْآنِ والسُّنَّةِ والَّتِي جَاءَتْ كَثِيرَةً ومُتَوَاتِرَةً تَعْرِضُ جَوَانِبَ التَّقْوَى وتُوصِي بِهَا بَلْ وتُلْزِمُ يَرَى أَنَّ لِلتَّقْوَى مَنْزِلَةً عَالِيَةً، ومَكَانَةً عَظِيمَةً وشَرَفًا لَا يُضَاهِيهِ أَيُّ شَرَفٍ في هَذَا الدِّينِ.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ بَيَانَ شَرَفِ التَّقْوَى وفَضْلِهَا ومَنْزِلَتِهَا يُمْكِنُ أَنْ نَتَحَدَّثَ عَنْهُ عَبْرَ النِّقَاطِ الْآتِيَةِ:
أَولًا: أَنَّ التَّقْوى وصِيَّةُ اللهِ لِلْأَولِينَ والْآخِرِينَ:
يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].
ويَقُولُ الْإِمَامُ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَّالِيُّ رحمه الله: اللهُ عز وجل أَعْلَمُ بِمَا يُصْلِحُ عِبَادَهُ في مَعَاشِهِمْ ومَعَادِهِمْ وهُوَ أَنْصَحُ لَهُمْ؛ ولِذَلِكَ لَا يَخْتَارُ لَهُمْ إِلَّا مَا يَنْفَعُهُمْ في أُمُورِ دِينِهِمْ ودُنْيَاهُمْ، ومَا دَامَ أَنَّهُ أَوْصَاهُمْ بِالتَّقْوَى الَّتِي هِيَ لِلْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ؛ فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ حِكْمَتِهِ، وآثَارِ رَحْمَتِهِ، وجَمِيلِ صَنِيعِهِ.
فَلَيْسَ هُنَاكَ أَبْلَغُ مِنَ التَّقْوَى في التَّوْجِيهِ والتَّرْبِيَةِ والْهِدَايَةِ والْبَصِيرَةِ، وكُلِّ مَا يَحْتَاجُهُ الْإِنْسَانُ الْـمُسْلِمُ.
ثَانِيًا: أَنَّهَا وصِيَّةُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِعِبَادِ اللهِ الْـمُؤْمِنِينَ:
مِن أَصْحَابِه رضي الله عنهم، ومنَ التابعين، وممَّنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَـامَـةِ؛ ثَـبَتَ في الْـحَدِيثِ الصَّحِيـحِ عَـنِ الْعِرْبَـاضِ بْـنِ سَارِيَـةَ رضي الله عنه قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصُّبْحَ ذَاتَ يَوْمٍ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا، فَوعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً؛ ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، ووجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ؛ فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ؛ كَأَنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ؛ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا؟ قَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوى اللهِ، والسَّمْعِ والطَّاعَةِ، وإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا؛ فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا؛ فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْـمَهْدِيِّينَ؛ فَتَمَسَّكُوا بِهَا، وعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّواجِذِ، وإِيَّاكُمْ ومُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ».
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ الْـحَنْبَلِيُّ رحمه الله:
[ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ والسَّمْعِ والطَّاعَةِ» هَاتَانِ الْكَلِمَتَانِ الْكَرِيمَتَانِ فِيهِمَا سَعَادَةُ النَّاسِ في دُنْيَاهُمْ وأُخْرَاهُمْ؛ فَكَلِمَةُ التَّقْوَى كَفِيلَةٌ بِسَعَادَةِ الدُّنْيَا والْآخِرَةِ؛ لِمَ لَا وهِيَ وصِيَّةُ اللهِ لِلْأَوَّلِينَ والْآخِرِينَ؟
والسَّمْعُ والطَّاعَةُ سَبَبَانِ في سَعَادَةِ النَّاسِ إِذَا أَخَذُوا بِهِمَا؛ فَإِنَّهَا سَتَنْدَفِعُ عَنْهُمُ الشُّرُورُ والْـمَظَالِمُ، وسَيَأْمَنُونَ عَلَى أَدْيَانِهِمْ وعُقُولِهِمْ وأَنْفُسِهِمْ وأَمْوَالِهِمْ وأَعْرَاضِهِمْ ] اهـ.
وأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ جُنْدُبِ بْنِ جُنَادَةَ ومُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنهما أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْـحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «حَيْثُمَا كُنْتَ»؛ أَيْ: في حَالِ السِّرِّ والعَلانِيَة؛ حيثُ يَرَاكَ النَّاسُ أو لا يَرَوْنَكَ، في أقوالِكَ وأفعالِكَ، وحَرَكَاتِكَ وسَكَنَاتِك، وكلَّ شُؤونِكَ؛ عَلَيْكَ بتقوى اللهِ.
وفي الحديثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؛ فَيَعْمَلُ بِهِنَّ، أَوْ يُعَلِّمُ مَنْ يَعْمَلُ بِهِنَّ؟» فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي فَعَدَّ خَمْسًا وقَالَ: «اتَّقِ الْـمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارْضَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَكَ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وأَحْسِنْ إِلَى جَارِكَ تَكُنْ مُؤْمِنًا، وأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُسْلِمًا، ولَا تُكْثِرِ الضَّحِكَ؛ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
إِنَّها وصَايَا كالجِبالِ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ واللهِ لو وعَيْنَاهَا ودَرَسْنَاهَا وتَعَلَّمْنَاهَا ورَبَّيْنَا أَبْنَاءَنَا وبَنَاتِنَا عليْهَا لَرَأَيْنَا مِنَ الخَيْرَاتِ والبَرَكَاتِ والفضائلِ والشَّمائلِ والكَمَائِلِ ما لا يُمْكِنُ أنْ نَتَصَوَّرَهُ، ولكنَّ الناسَ انْصَـرَفُوا وانْحَرَفُوا وانْجَرَفُوا يَتَّبِعُونَ أمورَ الدُّنْيَا، وكُلَّ نَاعِقٍ ومُبْعِدٍ لهم عَنْ هذِهِ الخيراتِ، وهذه التوجيهاتِ، والمنهجِ النبويِّ الكَرِيمِ.
وإنَّنَا اليومَ أحوجُ ما نكونُ إلى طَرْحِ هذه الجوانبِ وتَأْسِيسِهَا وتَأْصِيلِهَا وتَغْذِيَتِهَا وإِثْرَائِهَا، والعَمَلِ على أنْ نَرَاهَا في أَنْفُسِنَا، وبَيْنَ أَبْنَاءِ مُجْتَمَعِنَا، فَتَنْصَلِحُ بإذنِ الله أَحْوَالُنَا، وتَقْوَى شَوْكَتُنا، ونَفُوزُ بسعادَةِ الدَّارَيْنِ إن شَاء الله.
واسْمَعُـوا عِبَادَ الله وصِيَّـةَ النَّـبِيِّ صلى الله عليه وسلم في آخِرِ عَهْـدٍ بَيْنَـهُ وبَـيْنَ أَصْحَـابِهِ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ؛ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وخَطَبَنَا فِي حِجَّةِ الْودَاعِ وهُو عَلَى نَاقَتِهِ الْـجَدْعَاءِ، وتَطَاولَ فِي غَرْزِ الرَّحْلِ، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ» فَقَالَ رَجُلٌ فِي آخِرِ النَّاسِ: مَا تَقُولُ، أَوْ مَا تُرِيدُ؟ فَقَالَ: «أَلَا تَسْمَعُونَ؛ أَطِيعُوا رَبَّكُمْ، وصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوالِكُمْ، وأَطِيعُوا أُمَرَاءَكُمْ، تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ».
فَمَا هو مَرْغُوبُ كُلِّ مُؤْمِنٍ ومُسْلِمٍ ومَقْصُودُه ومَنْشُودُه عَلَى وجْهِ هَذِهِ البَسِيطَةِ؟ أليسَ هو الحصولَ على الجَنَّةِ والوصولَ إِلَيْهَا؟ بَلَى، واللهِ هُوَ ذَاك!!
فما بَالُنَا نَتَغَافَلُ ونَتَكَاسَلُ ونُسَوِّفُ بالتَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ، ونَتَهَاوَنُ بما أَوْصَانَا بِهِ نَبِيُّ الرَّحْمَةِ محمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ صلى الله عليه وسلم؛ المعصومُ الَّذِي لا يَنْطِقُ عنِ الهَوَى، الرَّحْمَةُ المُسْدَاةُ؛ الذي مَا رَأَى بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الخَيْرِ إلا ودَلَّنَا عَلَيْهِ، ولَا بابًا مِن أبْوابِ الشَّرِّ إلَّا وقد حَذَّرَنَا مِنْهُ.
وَفي الحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكَ بِتَقْوى اللهِ؛ فَإِنَّهُ رَأْسُ كُلِّ شَيْءٍ، وعَلَيْكَ بِالْجِهَادِ؛ فَإِنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلَامِ، وعَلَيْكَ بِذِكْرِ اللهِ وتِلَاوةِ الْقُرْآنِ؛ فَإِنَّهُ رَوْحُكَ فِي السَّمَاءِ، وذِكْرٌ لَكَ فِي الْأَرْضِ».
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أُوصِيكَ بِتَقْوى اللهِ فِي سِرِّ أَمْرِكَ وعَلَانِيَتِهِ، وإِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ، ولَا تَسْأَلَنَّ أَحَدًا شَيْئًا وإِنْ سَقَطَ سَوْطُكَ، ولَا تَقْبِضْ أَمَانَةً، ولَا تَقْضِ بَيْنَ اثْنَيْنِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ سَفَرًا؛ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْصِنِي. قَالَ: «أُوصِيكَ بِتَقْوى اللهِ، والتَّكْبِيرِ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ».
وَفي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مِنْ دُعَائِهِ: «اللهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواهَا، وزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ ولِيُّهَا ومَوْلَاهَا».
ثَالِثًا: التَّقْوى وصِيَّةُ اللهِ للأَولِينَ والآخِرِينَ:
والدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ سُبْحَانَهُ: ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ [النساء: 131].
رابعًا: أنَّ التَّـقْـوَى وصِيَّـةُ الأنبيـاءِ لِأُمَمِـهِم ومَـنْ تَبِعَـهُمْ: يَقُـولُ اللهُ تَعَــالَى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 106].
وَقَــالَ تَــعَـــالَى: ﴿كَذَّبَتْ عَادٌ المُرْسَلِينَ إذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 124].
وَقَـــالَ تَعَــــالَى: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ المُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ صَالِحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 142].
وَقَــالَ تَعَـــالَى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ المُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوَهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 161].
وَقَــالَ تَعَـــالَى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ المُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ﴾ [الشعراء: 177].
ومَا دَامَتِ التَّقْوَى هي وصيَّةُ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ووصيَّةُ الأنبياءِ كلِّهِم، فَأَعْظِمْ بِهَا مِنْ وصِيَّةٍ!! وأَكْرِمْ بها مِنْ مَنْزِلَةٍ!! فلماذا لا نَتَّقِي اللهَ، ونَبْحَثُ عن كلِّ ما يُعِينُنَا على تَقْوَاهُ ورِضَاهُ؟ وهذا دليلٌ واضِحٌ، ومُؤَشِّرٌ قَوِيٌّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ومؤمنٍ أنْ يَرْعَى ذلك، وأنْ يَعْتَبِرَ به، وأن يَعْرِفَ قِيمَةَ هذه الشَّعِيرَةِ وهذا المبدأِ الَّذِي هو التَّقْوَى.
خَامِسًا: أنَّ التَّقْوى وصِيَّةُ السَّلَفِ الصَّالِحِ لمنْ جَاءَ بَعْدَهُم:
فَهَذَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه يَقُولُ في خُطْبَتِهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وأَنْ تُثْنُوا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، وأَنْ تَخْلِطُوا الرَّغْبَةَ بِالرَّهْبَةِ، وتَجْمَعُوا الْإِلْحَافَ بِالْـمَسْأَلَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ عز وجل أَثْـنَى عَلَى زَكَـرِيَّا وأَهْـلِ بَيْــتِهِ، فَـقَــالَ: ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ﴾ [الأنبياء:90].
وَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ، وعَهِدَ إِلَى عُمَرَ، دَعَاهُ، فَوَصَّاهُ بِوَصِيَّتِهِ، وأَوَّلُ مَا قَالَ لَهُ: «اتَّقِ اللهَ يَا عُمَرُ». هَذَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه ثَانِي اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا في الغَارِ، وهذا عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ رضي الله عنه الفاروقُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ.
فَمَا بَالُنَا نَحْنُ المساكِين الضِّعَاف الَّذِينَ لم نَأْخُذْ بِنَهْجِهِم، ولم نَسْتَفِدْ من سِيرَتِهم، ولم نَسِرْ على طَرِيقِهِم، أليسَ الأَوْلى أنْ نَكُونَ أَكْثَرَ مِنْهُم قيامًا بالتَّقْوَى، وأنْ يُوصِيَ بَعْضُنَا بَعْضًا بها؛ فإنَّ مَنْ يَفْعَلْ ذلك يُؤْجَرْ إن شَاء اللهُ؛ خَاصَّةً في هذا الزَّمَانِ الذي انْتَشَرَت فِيهِ الشَّهَواتُ والشُّبُهاتُ؛ وتكالبَ النَّاسُ عَلَى الملذَّاتِ، حتى نَسُوا ذِكْرَ الله، والاستقامةَ على عِبَادَتِه وتَقْوَاه، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ المُؤْمِنِينَ﴾ [الذاريات: 55].
واعْلَمُوا عبادَ الله:
أَنَّ تَقْوَى اللـهِ سَبيلٌ إلى محبَّةِ النَّاسِ وإن كرهوا؛ قال ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: إنَّ زَيْدَ بْنَ أَسْلَمَ كان يقولُ: «منِ اتَّقَى اللهَ أَحَبَّهُ الناسُ وإنْ كَرِهُوا».
فَلِمَاذَا لا نَتَّقِى اللهَ؟ ولماذا لا نَتَوَاصَى بِالتَّقْوَى؟ ونكونُ دَائِمًا وأبدًا في حِيَاضِها، وداخِلَ حُدُودِها.
سادسًا: أنَّ التَّقْوى أجملُ لباسٍ يَلْبَسُهُ العبدُ المؤمِنُ:
والدَّلِيلُ على ذلك قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: ﴿يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 26].
نَعَمْ؛ إنها أجملُ لباسٍ، وأفضلُ مَلْبُوسٍ ومُتْلَبَّسٍ به في أوَّلِ الدُّنْيَا، وفي آخرِها، ويُمْكِنُ للعَبْدِ في أيِّ زمانٍ ومكانٍ أن يَلْبَسَهَا ويَتَحَلَّى بها؛ فَبَعْدَ أنْ تَمَنَّنَ اللـهُ عز وجل على عِبَادِه بأنْ رَزَقَهُمْ لِبَاسًا يُوارِي سَوْءَاتِهم وهذا شَيْءٌ ضَرُورِيٌّ ذَكَرَ ما هو تَكْمِيلِيٌّ مما يُتَزَيَّنُ به في الدُّنْيَا؛ أَلَا وهو الرِّيشُ؛ لأنَّ هذا مِنَ الـمُكَمِّلَاتِ وليس من الضَّرُورِيَّاتِ، وجَّهَهُمْ إلى ما هو أفضلُ وأجملُ وأعمقُ أَثَرًا وتأثيرًا، ولباسُ التَّقْوَى ذلِكَ خَيْرٌ.
فَإِذَا عَلِمْنَا ذلكَ لا بُدَّ أنْ نَعْلَمَ ما هُو لِبَاسُ التَّقْوَى؟ قال ابنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما : «هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ». وقِيلَ: هُوَ الخُلُقُ الحَسَنُ. وقيل: إنَّهُ الوَجْهُ الطَّلْقُ. وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
سابعًـا: أن الله عز وجل جَعَـلَ أهـلَ التَّـقْوى هم أهـلُ القـرآنِ الَّـذينَ يُبَشَّرُونَ بِهِ:
والدليلُ على ذلكَ قَوْلُه تَعَالَى: ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّداًّ﴾ [مريم: 97].
هذا القرآنُ العظيمُ السَّبْعُ المَثَانِي الذي ﴿لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42] هو حَبْلُ اللهِ المتينُ، ونورُه المُبِينُ، وصِرَاطُه المستقيمُ؛ مَنْ أَخَذَ به هُدِيَ، ومن تَرَكَهُ ضَلَّ؛ فيه خَبَرُ مَنْ قَبْلَنَا، وحُكْمُ ما بَيْنَنَا، ونبأُ مَنْ بَعْدَنا؛ هو بِشَارَةٌ للمتَّقِينَ منَ الله العزيزِ الرَّحيمِ؛ فأين نحنُ مِنَ التَّقْوَى؟
ثامنًا: منَ الأمور التي تَدُلُّ على فَضْلِ التقوى وشَرَفِها أنَّ الله عز وجل أَمَرَ عبادَهُ بأنْ يَتَعَاونُوا عليها، وألَّا يتعاونُوا على ضِدِّها:
يقول اللـهُ عز وجل: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ﴾ [المائدة: 2].
يقول ابنُ القَيِّمِ رحمه الله: «هذه الآيةُ اشْتَمَلَتْ على مصالِحِ العبادِ في الدُّنْيَا وفي المَعَادِ»؛ فإنَّهُم إذا تَعَاوَنُوا على البرِّ والتَّقْوَى حصل لهم منَ الخيرِ والأمُورِ الطَّيِّبَةِ ما لا يُمْكِنُ أن يُحصَى، وإذا تَرَكُوا التعاونَ على الإثمِ والعُدْوَان كان ذلك أيضًا زيادةً في الخيرِ والفضلِ.
ولذلك فإنَّ الـمُسْلِمَ بَلْ والأُمَّةَ جَمْعَاءَ مطلوبٌ منها أن تتعاونَ على البرِّ والتقوى وتَتَوَاصَى بذلك، وأن يَعْلَمُوا أنهم إذا سَلَكُوا هذا الطريقَ والأسلوبَ والمنهجَ؛ فإن اللهَ سَيَقِيهِمْ بِفَضْلِهِ ومنَّتِهِ الصوارفَ والفتنَ والعَوَادِيَ، وكلَّ الـمُكَدِّرَاتِ والـمُنَغِّصَاتِ أَيًّا كان نَوْعُها، ومهما كان شَكْلُها.
تَاسِعًا: أن الله عز وجل وصَفَ التَّقْوى بأنَّها خَيْرُ زَادٍ:
قــال تعـــالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].
فإذا كانتِ التَّقْوَى هيَ خَيْرَ الزَّادِ وخَيْرَ مَلَاذٍ؛ فلماذا لا نأخذُ بها ونبحثُ عن كلِّ ما يُعِينُنَا عليها؛ لنتزودَ بها في الدُّنْيَا والآخِرَةِ؟ يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ إلا مَنْ أَتَى اللهَ بقَلْبٍ سَلِيمٍ.
وَخَتَمَ اللهُ عز وجل هذه الآيةَ بقوله: ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾
دِلالةً على أنَّ الذين يَتَّقُونَ اللـهَ، ويَعْمَلُونَ بهذه الصِّفَةِ، ويجمِّلون أنفسَهُم وأحوالَهُم بها، هم أصحابُ العقولِ والألبابِ والبَصَرِ والبَصِيرَةِ؛ أما غيرُهُم فلا.
عَاشِرًا : أن الله عز وجل جَعَلَ كَلِمَةَ التَّوحيدِ والإخلاصِ هي التَّقْوى؛ قَالَ: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾ [الفتح: 26].
إنَّهُم أصْحَابُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، وأما كلمة التقوى فهي قَوْلُ: «لا إلهَ إلا اللهُ»؛ انظرُوا إلى فَضْلِ التَّقْوَى!
حـاديَ عَشَـر : مَكَـانُ التَّــقْوى الَّــذِي يـدلُّ عـلى عَظَمَــتِها: ذَكَرَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مِيْزَةً للتقوى وفَضِيلَةً ليستْ لغَيْرِها؛ فقالَ في الحديثِ الصَّحِيحِ: «التَّقْوى هَاهُنَا»؛ ويُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.«بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْـمُسْلِمَ؛ كُلُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ، ومَالُهُ، وعِرْضُهُ».
إِذًا الْـمَيْزَةُ والْفَضِيلَةُ الْعَاشِرَةُ؛ وهِيَ الْأَخِيرَةُ هِيَ أَنَّ التَّقْوَى لِأَهَمِّيَّتِهَا وشَرَفِهَا وعِظَمِ مَنْزِلَتِهَا تَكُونُ في الْقَلْبِ؛ كَمَا جَاءَ في ذَلِكَ الْـحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي تَلَوْنَاهُ.
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الْـحَمْدُ لِلَّـهِ والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ وبَعْدُ:
عبادَ اللهِ، كَيْفَ نَكُونُ مِنَ الْـمُتَّقِينَ؟
الْجَوَابُ عن هَذَا السُّؤَالِ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى تَأْصِيلٍ وبَيَانٍ لَا نَخْرُجُ فِيهِ عَنِ الْكِتَابِ والسُّنَّةِ، ومَنْهَجِ سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ويُمْكِنُ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ لَوَازِمَ التَّقْوَى الَّتِي مِنْ خِلَالِهَا يُحَقِّقُ الْإِنْسَانُ تَقْوَاهُ تَتَلَخَّصُ في الْأُمُورِ الْآتِيَةِ:
الْأَمْرُ الْأَولُ: إِخْـلَاصُ الْعِبَـادَةِ لِلَّـهِ عز وجل وتَـوْحِيــدُهُ، والْقِيَـامُ بِحَـقـِّهِ، وعِبَــادَتُهُ، يَقُـــولُ اللهُ عز وجل: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56]، وَيَقُـولُ سُبْـحَانَـهُ: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ﴾ [البينة: 5].
وَفِي الْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ: عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذُ، هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟ ومَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟» قُلْتُ: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «فَإِنَّ حَقَّ اللهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ ولَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ أَلَّا يُعَذِّبَ مَنْ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ؟ قَالَ: «لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا».
فَالتَّوْحِيدُ الخالِصُ هو سَبِيلُ النَّجَاةِ، أمَّا الشِّرْكُ فَهُو مُحْبِطٌ لِلْعَمَلِ مُفْسِدٌ لَهُ، ولَوْ ظَلَّ الْإِنْسَانُ مُتَعَبِّدًا لَيْلًا ونَهَارًا. ﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]؛ فَلَا تَجْعَلْ للَّـهِ نِدًّا، أَوْ تَدْعُ غَيْرَهُ، أَوْ تَسْتَغِثْ بِغَيْرِهِ، أَوْ تَنْذِرْ لِغَيْرِهِ، أَوْ تَذْبَحْ لِغَيْرِهِ، أَوْ تَحْلِفْ بِغَيْرِهِ؛ واجْتَنِبِ الرِّيَاءَ مِنْ أَجْلِ أَلَّا تَقَعَ في الشِّرْكِ.
فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَإِنَّكَ مِنَ الْـمُتَّقِينَ إِنْ شَاءَ اللهُ؛ ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ ؛ أَيْ: بِشِـرْكٍ؛ ﴿أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
وَالْأَمْنُ أَمْنَانِ؛ الْأَوَّلُ: الْأَمْنُ في الْـحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ فَيَأْمَنُ مَنْ أَخْلَصَ التَّوْحِيدَ لِلَّـهِ عز وجل في الدُّنْيَا عَلَى دِينِهِ، وعَلَى عَقْلِهِ، وعَلَى نَفْسِهِ، وعَلَى عِرْضِهِ، وعَلَى مَالِهِ.
والثَّانِي: هُوَ أَمْنُ الْآخِرَةِ؛ وذَلِكَ بِأَنْ يُزَحْزَحَ الْإِنْسَانُ عَنِ النَّارِ، ويُدْخَلَ الْجَنَّةَ، وهَذَا هُوَ مَرْغُوبُ كُلِّ مُؤْمِنٍ؛ يُؤْمِنُ بِاللهِ عز وجل ومَطْلُوبُه.
الْأَمْرُ الثَّانِي: مِنْ لَـوَازِمِ التَّـقْوَى الِاعْتِصَـامُ بِكِتَـابِ اللهِ وسُنَّـةِ رَسُـولِهِ صلى الله عليه وسلم؛ فَـإِنَّ الِاعْتِصَـامَ بِهِـمَا نَجَـاةٌ، والْبُعْـدَ عَنْهُـمَا هَـلَاكٌ؛ واللهُ عز وجل يَقُولُ: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْومُ ويُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9].
وَأَمَّا سُنَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فما هي إلا وحيٌ يُوحَى؛ وفِي الْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا وإِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ ومِثْلَهُ مَعَهُ» ؛ فَسُنَّةُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحْيٌ وحِكْمَةٌ ومِصْبَاحٌ يُضِيءُ لنَا الطَّرِيقَ إلى قِيَامِ السَّـاعَةِ، يَقُولُ الله عز وجل لِنِسَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : ﴿واذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ والْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا﴾ [الأحزاب: 34].
فبالكِتَابِ والسُّنَّةِ أكْمَلَ الله الدِّينَ، وأَتمَّ علينا نِعْمَتَهُ، ورَضِيَ لنا الْإِسَلامَ دينًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : «إِنَّ اللهَ رَضِيَ هَذَا الدِّينَ لِرَسُولِهِ ولِعِبَادِهِ الْـمُؤْمِنِينَ؛ فَلَا يَسْخَطُهُ أَبَدًا، وأَتَمَّهُ فَلَا يُنْقِصُهُ أَبَدًا، وأَكْمَلَهُ فَلَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ أَبَدًا».
الْأَمْرُ الثَّالِثُ: لُزُومُ جَمَاعَةِ الْـمُسْلِمِينَ، ولْنَعْلَمْ أَنَّ لُزُومَ جَمَاعَةِ الْـمُسْلِمِينَ هو مِنَ التَّقْوَى أَوْ مُوَصِّلٌ إِلَى التَّقْوَى، قَالَ اللهُ عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ولَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ١٠٢ واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 102، 103].
وَحَبْلُ اللهِ في هَذِهِ الْآيَةِ هُوَ الْقُرْآنُ. وقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ الْجَمَاعَةُ، ولَا خِلَافَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ؛ فَالْقُرْآنُ يَدْعُو إِلَى الْجَمَاعَةِ، ويَأْمُرُ بِهَا وبِلُزُومِهَا، والْجَمَاعَةُ حَقٌّ، والْفُرْقَةُ زَيْغٌ ومَهْلَكَةٌ، والْجَمَاعَةُ حِفَاظٌ عَلَى الْهُوِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ، ولَا جَمَاعَةَ إِلَّا بِإِمَامَةٍ، ولَا إِمَامَةَ إِلَّا بِطَاعَةٍ.
وَقَدْ أَوْصَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بضرورَةِ لُزُومِ الجماعَةِ، وأنَّ ذلكَ مِنَ الأُمُورِ التي يُحِبُّـهــا الله سبحانه وتعالى؛ فَفِي الْـحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَـنْ أَبِي هُـرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا؛ فَيَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ولَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا ولَا تَفَرَّقُوا، ويَكْرَهُ لَكُمْ قِيلَ وقَالَ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ الْـمَالِ».
وَمَعَ لُزُومِ جَمَاعَةِ المسلِمِينَ لا بُدَّ مِنَ النُّصْحِ والإرْشَادِ القائِمِ على كِتَابِ الله وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، النابعِ مِنَ الحرصِ على مَصْلَحةِ البلادِ والعبادِ لِوُلاةِ الأمورِ؛ وذلِك لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم «ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِـلَّهِ، ومُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، ولُزُومُ الْجَمَاعَةِ؛ فَإِنَّ دَعْوتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ ورَائِهِمْ».
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: «هَذَا الْـحَدِيثُ اشْتَمَلَ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ ومَبَانِيهِ الْعِظَامِ الَّتي لَوْ أَخَذَ بِهَا النَّاسُ لَتَحَقَّقَتْ لَهُمُ السَّعَادَةُ في الدُّنْيَا والْآخِرَةِ».
أَسْأَلُ اللهَ الْعَلِيَّ الْقَدِيرَ أَنْ يُوَفِّقَنَا وإِيَّاكُمْ لِـمَا يُحِبُّهُ ويَرْضَاهُ، وأَنْ يَجْعَلَنَا وإِيَّاكُمْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ والسُّنَّةِ، ومِنَ الْـمُؤْمِنِينَ الْـمُخْلِصِينَ الْـمُتَّقِينَ، وأَنْ يُهَيِّئَ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا، اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنَا، وأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا، ووُلَاةَ أُمُورِنَا، واجْعَلْ وِلَايَتَنَا فِيمَنْ خَافَكَ واتَّقَاكَ واتَّبَعَ رِضَاكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ. اللهُمَّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا سَخَاءً رَخَاءً وسَائِرَ بِلَادِ الْـمُسْلِمِينَ. اللهُمَّ مَنْ أَرَادَ بِلَادَنَا ودِينَنَا ووُلَاةَ أَمْرِنَا وعُلَمَاءَنَا وأَبْنَاءَ مُجْتَمَعِنَا بِسُوءٍ فَاشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ، واجْعَلْ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ.
اللهُمَّ وفِّقْ وُلَاةَ أَمْرِنَا وعَلَى رَأْسِهِمْ خَادِمُ الْـحَرَمَيْنِ الشَّرِيفَيْنِ الْـمَلِكُ سَلْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وسُمُو وليِّ عَهْدِه الأمين الأميرُ محمَّدُ بْنُ سَلمانَ بنُ عبد العزيز، بِتَوْفِيقِكَ واكْلَأْنَا وإِيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورِعَايَتِكَ. اللهُمَّ زِدْهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتَمْكِينًا وقِيَامًا بِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ومَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنَا ورِجَالَ أَمْنِنَا في الْـحُدُودِ والثُّغُورِ وفِي وسَطِ الْبَلَدِ، اللهُمَّ احْفَظْهُمْ بِحِفْظِكَ واكْلَأْنَا وإِيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورِعَايَتِكِ، اللهُمَّ احْفَظْنَا وإِيَّاهُمْ مِنْ فَوْقِنَا، ومِنْ تَحْتِنَا، وعَنْ يَمِينِنَا، وعَنْ شِمَالِنَا، ونَعُوذُ بِعَظَمَتِكَ أَنْ نُغْتَالَ وإِيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنَا. اللهُمَّ انْصُرْهُمْ، ولَا تَنْصُرُ عَلَيْهِمْ. اللهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَهُمْ، وارْبِطْ عَلَى جَأْشِهِمْ، واجْعَلْ عَمَلَهُمْ جِهَادًا في سَبِيلِ اللهِ.
وَآخَرُ دَعْوَانَا أَنِ الْـحَمْدُ لِلَّـهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وصَلِّ اللهُمَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.