أدنى أهل الجنة

الشيخ عبدالسلام الشويعر

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ﷺ . «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون»، «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً»، «يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا ۝ يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم و ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما»

أما بعد عباد الله :

فإنه إذا عظم الشيء عندك ولم تستطع الإحاطة به، فإن إيرادك لأدنى درجاته مشعر بعظيم شأنه، وجلالة قدره .

وإليك يا رعاك الله خبر أدنى أهل الجنة منزلة فيها ، وآخرهم دخولا لها، فإن فيه خيراً وعظة.

لقد أخبر النبي ﷺ عن درجات أهل الجنة، فأعلاهم أولهم لها دخولاً، وأدناهم آخرهم بعد خروجهم من النار ؛ في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « ينجو المؤمنون فتنجو أول زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفاً لا يحاسبون، ثم الذين يلونهم كأضوء نجم في السماء، ثم كذلك. تحل الشفاعة و يشفعون حتى يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة فيجعلون بفناء الجنة، ويجعل أهل الجنة يرشون عليهم الماء حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ، ويذهب حُرَاقُه ) .

ثم بَيَّنَ ﷺ أن آخر من يخرج النار إنما تفضل الله عليه بدعائه له، ففي صحيح مسلم من حديث أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : « يخرج من النار أربعة فيُعرضون على الله، فيلتفت أحدهم فيقول : أي رب إذ أخرجتني منها فلا تُعدني فيها، فينجيه الله منها ».

وبين ﷺ كيف يكون عرض ذلك الرجل على الله؛ ففي صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي ﷺ قال : « إني لأعلم آخر أهل الجنة دخولا و آخر أهل النار خروجاً منها ، رجل يؤتى به يوم القيامة فيُقال : اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فتُعرض عليه صغار ذنوبه فيقال : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول : نعم لا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه، فيقال له : فإن لك مكان كل سيئة حسنة، فيقول رب قد عملت أشياء لا أراها ها هنا ) .

فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه .

فإذا أنجاه الله من النار مثَّل له شجرة ذات ظل فيجلس تحتها، ولم يدخل الجنة، في صحيح مسلم

عن ابن مسعود و أبي ذر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال: « آخر من يدخل الجنة رجل يمشي مرة ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا ما جاوزها التفت إليها ، فقال : تبارك الذي نجاني منك لقد أعطاني الله شيئاً، ما أعطاه أحدا من الأولين ولا الآخرين . فترفع له شجرة ( وفي رواية : ومثلت له شجرة ذات ظل).

فيقول أي رب أدنني من هذه الشجرة فلأستظل بظلها و أشرب من مائها .

فيقول الله عز و جل : يا بن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟ .

فيقول : لا يا رب. ويعاهده أن لا يسأله غيرها.

وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه.

فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها.

ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى فيقول: أي رب أدنني من هذه لأشرب من مائها وأستظل بظلها لا أسألك غيرها.

فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول لعلي إن أدنيتك منها تسألني غيرها.

فيعاهده أن لا يسأله غيرها، وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها .

ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأُولَييْن.

فيقول أي رب أدنني من هذه لأستظل بظلها و أشرب من مائها لا أسألك غيرها.

فيقول: يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؟

فيقول: بلى يا رب هذه لا أسألك غيرها.

وربه يعذره لأنه يرى ما لا صبر عليه.

فيدنيه منها فيسمع أصوات أهل الجنة ، فيقول : أي رب أدخلنيها.

فيقول: يا ابن آدم ما يُصريني منك ، أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها، قال: يا رب أتستهزئ مني و أنت رب العالمين.

فضحك ابن مسعود رضي الله عنه فقال : ألا تسألوني مم أضحك ؟ .

فقالوا: مم تضحك ؟

قال: هكذا ضحك رسول الله ﷺ .

فقالوا : مم تضحك يا رسول الله ؟ .

قال: « مِنْ ضَحِكِ رَبِّ العالمين حين قال : أتستهزئ مني وأنت رب العالمين ، فيقول : فإني لا أستهزئ منك ولكني على ما أشاء قادر ».

فإذا أذن له بدخول الجنة بعد ذلك، ظن أنها ملأى، في الصحيحين: عن عبد الله رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : « إني لأعلم آخر أهل النار خروجاً منها، وآخر أهل الجنة دخولا ، رجل يخرج من النار حبوا ، فيقول الله : اذهب فادخل الجنة ، فيأتيها فيخيل إليه أنها ملأى، فيرجع فيقول: يارب وجدتها ملأى ، فيقول: اذهب فادخل الجنة ، فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها ، فيقول تسخر بي ، - أو تضحك مني - و أنت الملك؟.

فلقد رأيتُ رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت تواجده ، وكان يقول : ذاك أدنى أهل الجنة منزلة ».

عباد الله :

ذلك خبر دخول أهل الجنة فيها ، وأما ما له فيها ، فهو خبر عجيب ، فإن له الدنيا وعشرة أمثالها كما سبق في الحديث الصحيح ، ويقال له تَمَنَّ: ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: « إن مقعد أحدكم من الجنة أن يقول له تمن! فيتمنى ويتمنى ، فيقول له : هل تمنيت ؟ فيقول : نعم . فيقول له: فإن لك ما تمنيت ومثله معه ».

وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه في صحيح مسلم « ويُذَكِّرُه الله : سل كذا وكذا ، فإذا انقطعت به الأماني قال الله : هو لك وعشرة أمثاله ».

قال ﷺ : « ثم يدخل بيته فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك ، قال : فيقول ما أُعطي أحد مثل ما أعطيتُ ».

🔴

وعند الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ قال : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جِنانه و أزواجه و نعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، و أكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشية، ثم قرأ رسول الله ﷺ "وجوه يومئذ ناضرة ناظرة" » .

وعند الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال : « أدنى أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة ، وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية إلى صنعاء ».

عبدالله ! إن خير أدنى أهل الجنة عظيم ، وقد سأل عنه موسى عليه السلام ربَّه جل وعلا لقصد عظيم ، ففي صحيح مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : « سأل موسى ربه ما أدنى أهل الجنة منزلة (وفي لفظ: إن موسى - عليه السلام- سأل الله عز وجل عن أخس أهل الجنة منها حظاً) ، قال : هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهلُ الجنةِ الجنةَ فيقال له : ادخل الجنة، فيقول : أي رب كيف؟ ، وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذتهم ، فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلْكِ مَلِكٍ من ملوك الدنيا ، فيقول : رضيت رب ، فيقول: لك ذلك، ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله، فقال في الخامسة رضيت رب. فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله ولك ما اشتهت ولذت عينك . فيقول رضيت رب . قال : ربِّ فأعلاهم منزلة؟ ، قال : أولئك الذي أردت، غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن و لم يخطر على قلب بشر ».

واقرأوا إن شئتم : « فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون ».