الخُطْبَةُ الأُولَى:
إنَّ الحمدَ للهِ، نحمَدُه ونَشْكُرُه، ونَسْتَعِينُه ونَسْتَهْدِيهِ ونَتُوبُ إليه، ونَعُوذُ به مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هاديَ له، وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عَبْدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آلهِ وصحابَتِه، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].
أيها الأخوة في اللهِ:
تَنْصَرِمُ الأيام والليالي، وتُطْوى الشهورُ والأعوامُ، ومن الناس من ودَّع وحضر أجَلُه، ومن الناس من يُمْهِل الله له، ويُبَلِّغه فُرَص العُمر وأيام الظَّفَر، والليل والنهار مُتعاقبانِ، ولا يَبْقى للمرءِ إلا ما حَمَله زادًا للدارِ الآخرة والحياة الباقيةِ الدائمةِ، وكلٌّ يجري إلى أجلٍ مُسَمًّى، وكم مِن الناسِ يتمَنَّى البقاءَ، ويَعِدُ نفسَه ويُمنِّيها بالأعمالِ الصالحةِ، ولكن عاجَلَهم أمرُ اللهِ، وكانوا عِبْرةً لمن بَقِيَ باستدراك الليالي والأيام.
وشَهْرُ رمضانَ له في قُلوبِ المؤمنين وحْشةٌ، وفي نُفوسِ الصالحين رَغْبةٌ، ومع أن مُرورَه يتكرر أعوامًا عديدةً، وأزمنةً مَديدةً، إلا أن الشَّوقَ إليه يَزْدادُ، والحديثَ عنه يحلو، والرغبةَ في إدراكِه ومُعايشةِ أوقاتِه السعيدةِ تَشْتَدُّ، وإنما تَشتاقُ النفوسُ المؤمنةُ لرؤيةِ هذا الشهرِ؛ لأنها تُدْرِكُ مَنْزلتَه، وتَعرِفُ له حَقَّه، لأنه فضلُ اللهِ على هذه الأمة، إذ يَتمكَّنُ المؤمن الحاذق الكَيِّسُ أن يعمل ما لا يُمْكِنُه عَمَلُه في عُمرٍ طويلٍ، وهذه الأمة أكرمُ الأمم على الله، فمع أنها آخِرُ الأمم زَمَنًا وأقصرها عُمرًا، إلا أنَّ اللهَ جعَلَ لها مَواسِمَ الخيرِ ونفحاتِ الرحمة، فعَمَلٌ في زمنٍ يَسيرٍ يَعدِلُ في ثوابِه - إذا تحقق شَرْطُه - ما يُعْمَلُ في عُمُر طويلٍ.
والأُسوةُ والقُدوةُ في هذا الشوقِ هو النبيُّ المصطفى صلى الله عليه وسلم، الذي رفَع الله قَدْرَه وأعلى ذِكْرَه، فقد كانَ صلى الله عليه وسلم يَشْتاقُ لهذا الشهرِ، ويَسْألُ ربَّه أن يُبَلِّغه إياه، فكان بلوغُ هذا الشهرِ بالنسبةِ له صلى الله عليه وسلم أُمنية يتمناها.
والبِشارةُ والتهنئة بقُدومِ الشهر ثَبَتَتْ عن الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وهي دَلالةٌ على ما سَبَقَ من الشَّوقِ والفَرحِ بقُدومِه، فقد أخْرَجَ الإمام أحمدُ وغَيْرُه عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ يُبَشِّر أصحابَه بقُدومِ شَهْرِ رمضانَ، ويقول إذا حَضَرَ: «قَدْ جَاءَكُمْ رَمَضَانُ، شَهْرٌ مُبَارَكٌ، افْتَرَضَ اللهُ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوابُ الْجَنَّةِ، وتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوابُ الْجَحِيمِ، وتُغَلُّ فِيهِ الشَّيَاطِينُ، فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا، فَقَدْ حُرِمَ».
قال ابنُ رَجَبٍ: «هذا الحديثُ أصلٌ في تَهْنئةِ الناسِ بعضِهم بعضًا بشَهْرِ رمضانَ، كيفَ لا يُبَشَّر المؤمنُ بفتحِ أبوابِ الجِنَانِ؟! كيفَ لا يُبَشَّرُ المُذْنِبُ بغَلْقِ أبوابِ النِّيرانِ؟! كيف لا يُبَشَّرُ العاقِلُ بوقتٍ تُغَلُّ فيه الشَّياطِينُ؟! من أين يُشْبِهُ هذا الزَّمانَ زمانٌ».اهـ.
والسَّلَفُ الصالحُ كانوا يَسْتشعرون شَرَفَ الزمانِ وفضلَ العملِ، ويَتَأَسَّوْنَ برسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الشوقِ والفرحِ بقُدومِ رمضانَ.
قال مُعَلَّى بنُ الفَضْلِ: «كانوا يَدْعونَ اللهَ سِتَّة أشهرٍ أن يُبلِّغَهم رمضانَ، ويَدْعونه ستة أشهرٍ أن يَتقَبَّلَه منهم».
وكان يَحْيَى بنُ أبي كَثِيرٍ يدعو إذا حضَرَ شَهْرُ رَمضانَ: «اللهُمَّ سَلِّمْني إلى رَمَضانَ، وسَلِّم لي رمضانَ، وتَسَلَّمْه مِنِّي مُتَقَبَّلًا».
فبُلوغُ شَهْرِ رمضان نِعْمةٌ عظيمةٌ على مَن أقدره الله عليه، وإشاعةُ الفَرَحِ به من الفرحِ بفَضْلِ اللهِ ورحمتِه، وقد قال سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُو خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [يونس: 58].
وحُسْنُ الاستقبالِ وإشاعةُ الفرحِ والتهنئةُ به مما يُعِين على القيامِ بحقِّه من وجهٍ، ويُشِيعُ هذه الأجواءَ الرُّوحانيةَ، ويُنَمِّي في النفوسِ تَمْييز هذا الشهرِ عن غيرِه من الشهور، ويهيئها لاستغلالِه؛ لأنَّ العَمَلَ الجَدَّ لا يكون على تَمامِهِ ولا يقومُ به صاحبُه على كمالِه إلا حِينَ يَتهيَّأ له تمامَ التهيؤ، فيستثير في النفسِ هِمَّتَها، ويحدوه الشوقُ بمَحبَّةٍ صادقةٍ، ورغبةٍ جامحةٍ، وعزمٍ أكيدٍ، ورأيٍ سديدٍ لكلِّ عملٍ صالحٍ يُقرِّبُ إلى المولى الحميدِ.
إن مما يَسْتثِيرُ هذا الشَّوْقَ:
قراءةَ هَدْيِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وشوقه واجتهاده في هذا الشهرِ، وأنْ نَتدَبَّر ما ورَدَ في كتابِ الله تعالى وسُنة رسولِه صلى الله عليه وسلم من فَضائِل هذا الشهر وحِكَمه وأحكامِه، وأن نَستشرِفَ مَعانِيَ الصومِ وحِكَمَه وأسرارَه، لا ليتوقف الامتثالُ عليها فحَسْبُ، وإنما لنَفْهَم مَقْصودَ الشرعِ وحِكَمه من وجهٍ، ولنتَخَلَّصَ من أَسْرِ العاداتِ والسَّيْرِ على المألوفاتِ والاستقبال الذي يدور في هذا الإطارِ إلى تَعَمُّق في المعاني ودراسة المقاصد، ليكونَ ذلك مِقْياسًا لمدى استفادتِنا من هذا المَوْسِم الفاضلِ.
ولكن يجب التَّنبُّه إلى أنه ليسَ الشأنُ أن نَتباشَرَ فحَسْبُ، بل لا بُدَّ من إيفاءِ التهنئةِ بالصِّدْقِ والجِدِّ، وذلك بفيضٍ من الأعمالِ الصالحةِ عظيمٍ، واجتهادٍ في نيلِ الحسناتِ كبيرٍ، لا كما تَدَّعِي طوائفُ المَحَبَّةَ والسُّرورَ، لكنها لا تُعْقِب ذلك السرور بالمبادرة والاجتهادِ، فيَفْرَحون أَوَّلَه، وربما تَمْتلِئُ بهم بُيوتُ الله، ثم يَعودونَ إلى سِيرتِهم الأولى خَائِضِينَ في اللَّغْو، عاكفين على اللهوِ، مُتمَنِّين على اللهِ الأماني.
إن واجِبَ الذين يَمُنُّ اللهُ عليهم بإدراكِ الشهرِ وبلوغ الفريضةِ أن يتقوا الله فيها، وأن يَسْتشعروا قَدْرَها ويغتنموها، فإنها إن فاتت، ولم يُحْسِن المرءُ استغلالها كانت حَسْرةً ما بعدَها حسرةٌ، وخَسارةً أَعْظِمْ بها من خَسارةٍ!!
لو لم يكن فيها إلا ما دعا به جِبْريل عليه السلام وأمَّن عليه الرسولُ صلى الله عليه وسلم من البُعْدِ والطَّرْدِ من رحمةِ الله، فقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم : «آمِين، آمِين، آمِين»، ولما سُئِلَ عن سِرِّ تأمينِه أخْبَرَ أن جبريل عليه السلام قال له دَعَواتٍ، منها: «مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَدَخَلَ النَّارَ فَأَبْعَدَهُ الله، قُلْ: آمِينَ».
إن هذا الصِّنْف من الناسِ الذين يَخْسَرونَ هذا الشهرَ وفُرَصَه لم يُحْسِنوا استقبال شهرِ رمضانَ، وقد لا يَظْهَر منهم الفَرحُ به، بل ربما تَنْقبِضُ نُفوسُهم، ويَعْتَبِرُ بعضُهم هذا الشهر سِجْنًا وحبسًا عن حظوظِهم وشهواتِهم، ولذا يستثقلون الشهر، وتَضِيقُ نُفوسُهم، وأحيانًا يظهرُ ذلك عليهم أثناءَ الشهرِ عُبوسًا في الوجهِ وضِيقًا في الصَّدْرِ، وسُوءَ خُلُقٍ في التعاملِ، فيَرَوْنَ رمضانَ كالضيفِ الثَّقيلِ، يَعُدُّون أيامَه ولياليَه، بل لحظاتِه، يَعُدون رحيلَه.
وهذه الصورةُ السَّلْبية من الاستقبالِ نَاشِئَةٌ عن تراكم المَعاصي، لأنَّ المَعاصِيَ حجابٌ عن اللهِ، وظُلْمةٌ في القلبِ، وسوادٌ في الوجهِ، ولأنهم اعتادوا التوسع في الملذاتِ والشهواتِ، فيكونُ الصيامُ شاقًّا عليهم لأجلِ ذلك، ولو تَأَمَّلوا لأدركوا أنَّ فَرْضَ الصيامِ من لُطْفِ اللهِ عز وجل بالعبادِ ورحمتِه بهم.
يقول الحسنُ البَصْريُّ رحمه الله: «مِسْكينٌ ابنُ آدَمَ، محتومُ الأجلِ، مَكْتومُ الأمَلِ، مَسْتورُ العِلَل، يَتكلَّم بلَحْمٍ، ويَنْظُرُ بشَحْمٍ، ويَسْمَعُ بعَظْمٍ، أَسِيرُ جُوعِه، صَرِيعُ شِبَعِه، تُؤذِيهِ البَقَّةُ، وتُنْتِنُه العرقةُ، وتقتلُه الشَّرْقة، لا يَمْلِكُ لنفسِه ضَرًّا ولا نفعًا، ولا موتًا ولا حياةً ولا نُشورًا.
فانظر إلى لطفه عز وجل بنا فيما أوجَبَه من الصيامِ علينا، كيف أيقظ العقولَ له، وقد كانت عنه غافلةً أو متغافلةً، ونفع النفوسَ به ولم تكن لولاه مُنْتفِعةً أو نافعةً».
أَقُولُ قَوْلِي هذا وأَسْتَغْفِرُ الله لِي ولَكُمْ.
.
.
.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
الحَمْدُ لله، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رَسُول الله، وبَعْدُ:
أَيُّهَا المؤمِنُونَ:
إن قُدومَ شَهْرِ رمضانَ نِعْمَةٌ من أَجَلِّ النِّعمِ، والاستعدادُ لها واستقبالُها بما يَلِيقُ هو شأنُ الصالحين، ومن المُهِمِّ التذكيرُ بأن الاستعدادَ الإيجابي هو ما جَمَع بين التهيؤ النَّفْسيِّ والفعليِّ، وذلك بإخلاصِ العملِ، وتصحيحِ النِّيَّةِ، والإقبالِ على العبادةِ، وتجريد ِ القَصْدِ لله تعالى، مع توبةٍ نَصوحٍ تنفي عن القلبِ فَسادَه.
وأما ما يَفْعَلُه كثيرٌ من الناسِ من صُور الاستقبالِ التي لا تَلِيق، كالاستقبال بالأطعمةِ والأشربةِ، وأنواعِ المَلذَّات والمُشْتَهَيَات، أو بالبرامجِ المُشتمِلة على ما يَخْدِشُ رُوحانية الشهرِ ويَنْتهِكُ حرمتَه، أو بغيرِ ذلك، فلا شكَّ أن ذلك مما ينافي ما يجب لهذا الشهرِ، ويتناقضُ مع الحكمةِ التي جعلها الله غايةً لفَرْضيَّةِ صيامِ الشهر، فإذا لم يَدَعِ الإنسانُ قولَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ فَلَيْسَ للهِ حَاجَةً في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَه، كما جاء في الحديثِ.
ولا يَدْرِي المرءُ، فرُبَّما هذا آخِرُ رمضان يُدرِكُه، ولذا فَعَليهِ أنْ يَسْتَغِلَّه في أنواعِ القُرُباتِ استغلالَ مُودِّعٍ.
إنَّ شَهْرَ رمَضانَ شهرٌ عظيمٌ جليلٌ، شهر تَتنَزَّل فيه الرَّحَماتُ وتَتوارَدُ فيه البَرَكاتُ، شَهْرٌ، كان رسولُنا صلى الله عليه وسلم يَنْتظِرُه بفارغِ الصَّبْرِ ويُبَشِّرُ أصحابَه بهِ، فيقولُ: «أَظَلَّكُمْ شَهْرٌ عَظِيمٌ»، شهر فيه ليلةٌ ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ٣ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ٤ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 3 - 5].
شَهْرٌ تُصفَّدُ فيه الشَّياطِينُ ومَرَدةُ الجِنِّ، فلا يَصِلون إلى ما كانوا يَصِلون إليه في غيرِه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوابُ الْجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أَبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ».
شهرٌ كان الصحابةُ رضوان الله عليهم اقتداءً برسولِنا صلى الله عليه وسلم يُولُونه من العِنايةِ والاهتمامِ ما لا يُولونَ غيرَه من الأيامِ الأُخْرَى، ثم بعدَ ذلك إذا سَلَّموه يَدْعُونَ الله عز وجل سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَعلَّ اللهَ يَتقبَّله منهم، شهر تَرَى الناسَ فيه يُقْبِلون على الخيراتِ، وتَرْكِ المُنْكراتِ، شهر تَهْدَأُ به النفوسُ، وتَطْمَئِنُّ به القُلوبُ، ويَتدافَعُ الناسُ فيه إلى الإحسانِ، وبَذْلِ النَّدَى، وكَفِّ الأَذَى وتَحَمُّلِه، شهر يَسْعَى فيه كلُّ مؤمنٍ إلى أن يزدادَ من الأجورِ والحسناتِ؛ لأنه كما هو مَعلوم أن الأماكنَ والأزمنةَ الفاضلةَ تُضاعَفُ فيها الحسناتُ كَمًّا، كما أنه تُضاعَفُ فيها السِّيئاتُ كَيْفًا، شهر يُعانُ فيه المُحتاجُ، ويُفْطِرُ فيه الصائمون، وتُبْذَلُ فيه الصدقاتُ والزكواتُ، ومن هنا جاءتِ العنايةُ الواضحةُ من اللهِ عز وجل والاهتمامُ البَالِغُ من رسولِه صلى الله عليه وسلم بهذا الشهرِ صِيامًا وقِيامًا وعَمَلًا كَبِيرًا أو صغيرًا دَقِيقًا أو جَلِيلًا.
يَقولُ اللهُ عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183].
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وإِقَامِ الصَّلَاةِ، وإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ».
وأخـرج البخـاريُّ ومسلـمٌ في صحيـحيهـما من حــديث أبي هُـرَيـرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، فَإِنَّهُ لِي وأَنَا أَجْزِي بِهِ، والصِّيَامُ جُنَّةٌ، وإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ، والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ، لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وإِذَا لَقِيَ رَبَّهُفَرِحَ بِصَوْمِهِ».
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا في الحديثِ الحَسَنِ: «الصِّيَامُ والْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ والشَّهَواتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، ويَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ».
الله أَكبرُ، فهذه إذن عِبادةٌ ليست كغيرِها من العباداتِ، لها ميزات ومَحاسِنُ وحَسناتٌ، لو ذَهَبْنا إلى تَعْدادِها وبيانِها لطالَ بنا المُقام، وإنَّ هذه الآيةَ وهذه الأحاديثَ التي تلوناها فيها أحكامٌ جَمَّةٌ ودُروسٌ وعِبَرٌ وعِظَاتٌ مُهِمَّةٌ، لو وعَيْناها وأدركناها وفَهِمناها وحَقَّقناها وأدَّيْناها وقُمنا بها كما أمرَ الله ورسولُه صلى الله عليه وسلم لرَأَيْنَا خيرًا، بل خيراتٍ تَتنَزَّلُ علينا ورحماتٍ تَطْمئِنُّ بها نُفوسُنا وترتاحُ لها قُلوبُنا.
عبادَ اللهِ؛ صَلُّوا وسَلِّمُوا على خَيْرِ عبادِ اللهِ، الرحمةِ المُهداةِ، والنِّعْمَةِ المُسْدَاةِ، محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا محمدٍ، وارْضَ اللهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِين، وصَحابَتِه الغُرِّ المَيَامِينِ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَذِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، ودَمِّرْ أَعْدَاءَكَ أعداءَ الدِّينِ، اللهم اجْعَلْ هذا البلدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائِرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهُمَّ آمِنَّا في أَوْطَانِنا، وأَصْلِحْ أئِمَّتَنا ووُلَاةَ أُمُورِنا، اللهُمَّ وفِّقْ وليَّ أَمْرِنا خَادِمَ الحرمينِ الشريفينِ سلمانَ بنَ عبدِ العزيزِ ووليَّ عَهْدِه الأَمين بتَوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورعايتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصِّحَّةِ والعافيةِ، وزِدْنا وإيَّاهُمْ عِزًّا ونَصْرًا وتمْكِينًا وقِيامًا بكِتَابِكَ وبسُنَّةِ رَسُولِكَ صلى الله عليه وسلم ، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأمةِ.
اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا البَوَاسِلَ، ورِجَالَ أَمْنِنا دَاخِلَ البلادِ، وعلى الحدودِ والثُّغُورِ، اللهُمَّ انْصُرْهُمْ ومَكِّنْ لهمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قلوبَهُمْ، وارْبِطْ على جأشِهِمْ، واخْذُلْ عَدُوَّهُمْ، وزِدْهُمْ قُوَّةً وبصيرةً، واحْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بَيْنِ أيْدِينا ومِنْ خَلْفِنا، وعنْ أَيْمَانِنَا، وعَنْ شَمَائِلِنَا، ومِنْ فَوْقِنا، ونَعُوذُ بِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنا. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القَضَاءِ، وشَمَاتَةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ. اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبْنِ والبُخْلِ، والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ اهْدِنَا لِأَحْسَنِ الأقوالِ والأعمالِ والأخلاقِ، لا يَهْدِي لِأَحْسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنَّا سَيِّئَها، لا يَصْرِفُ عنَّا سَيِّئَها إلَّا أنتَ، اللهُمَّ زِدْنَا تَوْفِيقًا وعِلْمًا، وارْزُقْنَا الإخلاصَ والاحْتِسَابَ في القولِ والعَمَلِ، واحْفَظْ بِلادَنا، وأَدِمْ أَمْنَنَا، ورَغَدَ عَيْشِنا، واسْتِقْرَارَنا، وأَبْعِدْ عنَّا كلَّ حاسدٍ وحاقدٍ وفاسِدٍ.
وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ على نَبِيِّنا محمدٍ.