الإسراء والمعراج

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يا عباد الله:

بعث الله عز وجل محمدا ﷺ رسولاً نبيًا، وأيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، وإن أعظم معجزاته القرآن، فهو معجزة ما بقي الزمان.

وإن من الآيات الكبرى التي أوتيها حبيبنا ونبينا محمد ﷺ: الإسراء والمعراج، يقول ربنا : «سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي بركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير»

في ليلة الإسراء - يا عباد الله - شُقَّ عن صدر نبينا ﷺ الشريف، ثم غُسل بماء زمزم، وأُتي بطست من ذهب مملوء إيمانا وحكمة، فحُشي به قلبه، ثم أعيد إلى مكانه، وأُتي بالبراق، وهو دابة أبيض طويل، فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه، فركبه نبينا ﷺ -وهو أكرم من ركبه - حتى أتى بيت المقدس، فربطه جبريل الله بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخل المسجد، فصلى فيه ركعتين إماما بالأنبياء الله.

ثم خرج وجاءه جبريل الله بقدحين من حمر ولبن، فنظر إليهما، فأخذ اللبن، فقال له جبريل: الحمد الله الذي هداك للفطرة، لو أخذت الخمر غوت أمتك.

وعُرج به -يا عباد الله- حتى أتى السماء الدنيا، فاستفتح له، فقيل: من هذا؟ قال جبريل الله : جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له، فرأى فيها آدمُ عليه السلام، وعلى يمينه أَسْوِدَة، وعلى يساره أَسْوِدَة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بکی، فقال: مرحبا بالنبي الصالح، والابن الصالح، قال النبي ﷺ لجبريل: «من هذا؟»، قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة - جعلني الله وإياكم منهم - والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بکی، فسلم عليه، فسلم عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد به جبريل حتى أتى السماء الثانية، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له، فرأى فيها يحيى وعيسى وهما ابنا خالة، قال: هذا يحيى وعيسى، فسلم عليهما، فسلم، فردا، ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد به جبريل إلى السماء الثالثة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له، فرأى فيها يوسف ، قال: هذا يوسف فسلم عليه، فسلم عليه، فرد عليه، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد به جبريل حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فرأى فيها إدريس

عليه السلام ، قال: هذا إدريس فسلم عليه، فسلم عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد به جبريل حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد ﷺ ، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، ففتح له، فرأى فيها هارون الله، قال: هذا هارون فسلم عليه، فسلم عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح.

ثم صعد به جبريل حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبا به، فنعم المجيء جاء، فرأى فيها موسى ، قال: هذا موسى فسلم عليه، فسلم عليه، فرد، ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزه ﷺ بکی موسى الله ، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي.

ثم صعد به إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبا به، ونعم المجيء جاء، فرأى فيها إبراهيم عليه السلام، قال جبريل: هذا أبوك عليه، فسلم عليه، فرد السلام، ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح، وقال: يا محمد، أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر.

ورفع ﷺ إلى سدرة المنتهى، فإذا نَبْقُها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرة المنتهى، وإذا أربعة أنهار، نهران باطنان، ونهران ظاهران، قال: «ما هذان جبريل؟»، قال: أما الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.

ثم أتي بإناء من حمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذ اللبن، فقال جبريل: هي الفطرة، أنت عليها وأمتك.

فلما غشي السدرة من أمر الله عز وجل ما غشي تغيرت، فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى، فخر جبريل عليه السلام ساجدا حتى قضى الله إلى عبده ما قضى، ثم رفع رأسه فرآه النبي ﷺ في خلقته التي خلق عليها، له ستمائة جناح، منظوم أجنحته بالزبرجد واللؤلؤ والياقوت، فخُيِّل للنبي ﷺ أن ما بين عينيه قد سد الأفق.

وفرضت عليه الصلاة خمسين صلاة كل يوم، فرجع، فمر على موسى، فقال عليه السلام : بم أمرت؟ قال: «أمرت بخمسين صلاة كل يوم»، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم، وإني -والله- قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت النبي ﷺ إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار أن نعم، إن شئت.

فرجع نبينا ﷺ إلى ربنا ، فوضع عنه ربه عشرا، فرجع إلى موسى ، فقال مثله، فرجع إلى ربه فوضع عنه عشرا، فرجع إلى موسى الله، فقال مثله، فرجع إلى ربه فوضع عشرا، فرجع إلى موسى الله، فقال مثله، فرجع، فأمر بعشر صلوات كل يوم، فرجع إلى موسى، فقال مثله، فرجع إلى ربه، فأمر بخمس صلوات كل يوم، فرجع إلى موسى الله، فقال: بم أمرت؟ قال: أمرت بخمس صلوات كل يوم، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال نبينا ﷺ وهو الحيي: «سألت ربي حتى استحييت، ولكن أرضى وأسلم».

فلما جاوز نادى مناد: أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي.

وسُئل رسول الله ﷺ : هل رأيت ربك؟ فقال: «نور، أنى أراه؟!»

وأدخل ﷺ الجنة، فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ، أي قباب اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك، وأتى ﷺ على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ محجوفا، فقال: «ما هذا يا جبريل؟» قال: هذا الكوثر، أعطاكه الله عز وجل.

ولم يمر ﷺ على ملأ من الملائكة إلا أمروه أن يأمر أمته بالحجامة.

ورأى ﷺ أناسا يعذبون، منهم رجال تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقال ﷺ : «من هؤلاء يا جبريل؟»، قال: الخطباء من أمتك، يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وهم يتلون الكتاب، أفلا يعقلون؟

ومنهم قوم لهم أظفار من نحاس يخدشون وجوههم وصدورهم، فقال: «من هؤلاء يا جبريل؟» قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم.

وفي ليلة الإسراء - يا عباد الله - وجد ﷺ رائحة طيبة، فقال: «ما هذه الرائحة الطيبة يا جبريل؟» قال: هذه رائحة ماشطة بنت فرعون وأولادها، قال: «ما شأنها؟» قال: بينا هي تمشط بنت فرعون إذ سقط المشط من يدها، فقالت: بسم الله! فقالت بنت فرعون: أبي؟ فقالت: لا، ولكن ربي ورب أبيك الله، قالت: وإن لك ربا غير أبي؟ قالت: نعم، فأعلمت أباها بذلك، فدعا بها، فقال: يا فلانة، ألك رب غيري؟ قالت: نعم، ربي وربك الله الذي في السماء، فأمر الطاغوت ببقرة من نحاس فأحميت، ثم أخذ أولادها، يلقون فيها واحدا واحدا، فقالت: إن لي إليك حاجة، قال: وما هي؟ قالت: أحب أن تجمع عظامي وعظام ولدي في ثوب واحد، فتدفنا جميعا، قال: ذلك لك بما لك علينا من الحق، فلم يزل أولادها يلقون في البقرة حتى انتهى إلى ابن لها رضيع، فكأنها تقاعست من أجله، فقال لها ابنها الرضيع: يا أمه، يا أمه، تقحمي، فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، ثم ألقيت مع ولدها.

ثم أصبح ﷺ بمكة، وعرف أن الناس ستكذبه، فقعد معتزلاً حزينا، فمر عدو الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهرئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول اللہ ﷺ: «نعم»، قال: ما هو؟ قال: «إنه أسري بي الليلة»، قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس»، قال: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: «نعم»، فلم يظهر أنه يكذبه مخافة أن يجحده الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيت إن دعوت قومك، تحدثهم ما حدثتني؟ فقال رسول اللہ ﷺ: «نعم»، فقال عدو الله: هيا معشر بني كعب، فانتفضت إليه المجالس، وجاءوا حتى جلسوا إليهما، قال: حدث قومك بما حدثتني، فقال رسول الله : «إني أسري بي الليلة»، قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس»، قالوا: ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال: «نعم»، فمن بين مصفق منهم، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا، قالوا: وهل تستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفي القوم من رآه، فذهب يصف، حتى التبس عليه بعض الوصف، فجيء بالمسجد وهو ينظر حتى وضع قريبا منه، فنعته وهو ينظر إليه، قال القوم: أما النعت فوالله لقد أصاب، فكان حجة عليهم، ولكن كثيرا منهم يكابرون .

فالحمد لله الذي جعلنا من أتباع رسول اللہ ﷺ، وجعلنا من المصدقين.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فيا عباد الله:

إن وقوع الإسراء والمعراج من يقينيات الشريعة وقطعياتها، فيجب على كل مؤمن أن يصدق بها، وأن يصدق بأخبارها، بدون شك ولا ريب يا عباد الله.

واعلموا -عباد الله- أنه لم يشرع لنا أن نحتفل بالإسراء والمعراج وأن نجعلها عيدا، لا في ليلة سبع وعشرين من رجب ولا في غيرها من الليالي، ولم يشرع لنا أن نخص ليلة سبع وعشرين من رجب بالقيام، ولا أن نخص يومها بالصيام، ولا أن نعتمر في ذلك اليوم يا عباد الله.

وذلك لأمرين عظيمين شريفين يقدرهما المؤمن تقديرا عاليا:

أما أولهما: فهو أن النبي ﷺ وهو الذي أنعم الله عز وجل عليه بهذه الآية الكبرى، وهو العبد الشكور لم يحتفل بتلك الليلة أبدا، ولم ينقل عنه من ذلك شيء أبدا يا عباد الله، وهو إمامنا وقدوتنا في الخير، وقد قال ﷺ: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد».

ولذا - يا عباد الله - لم يحتفل الصحابة رضوان الله عليهم بالإسراء والمعراج، ولا التابعون، ولا الأئمة الأربعة المتبعون، لأنهم يتبعون رسول اللہ ﷺ، فهنيئا -عباد الله - لمن تمسك بهذا الطريق القويم.

وأما الأمر الثاني يا عباد الله: فهو أنه لم يثبت أن ليلة الإسراء والمعراج وقعت في ليلة سبع وعشرين من رجب، بل لم يثبت - يا عباد الله - أن ليلة الإسراء والمعراج وقعت في شهر رجب أصلا، فلم يأت في حديث صحيح ولا أثر يعتمد عليه ولا في تقرير مستقيم أن ليلة الإسراء والمعراج وقعت في ليلة سبع وعشرين من شهر رجب، وقد اختلف العلماء في تاريخ وقوعها اختلافا عظيما، وهذا يدلنا - يا عباد الله على أن الاحتفاء بليلة الإسراء والمعراج ليس من الدين، لأن الله تكفل بحفظ الدين، ولو كان في ليلة الإسراء والمعراج عبادة لحفظ الله لنا تاريخ الإسراء والمعراج، ولاهتمّ سلف الأمة بتقييد تاريخها تقييدا واضحا بينا، فلما لم نجد ذلك علمنا أن ربنا يُعلمُنا أنّ الاحتفاء بليلة الإسراء والمعراج ليس من الدين.

فاتقوا الله عباد الله، وكونوا من المتبعين، وإياكم أن تكونوا من المبتدعين، فإن اقتصادا في خير وسنة

خير من اجتهاد في بدعة.

ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله أمرنا بأمر شريف، بدأ فيه بنفسه، ثم ثنى بملائكته، فقال -عز من قائل: «إن الله ومليكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما» [الأحزاب: 56].

وقال النبي ﷺ : «من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشرا».

فأكرموا أنفسكم -عباد الله- بكثرة الصلاة والسلام على رسول الله ﷺ.

اللهم صل على محمد ...