عباد الله:
إن اليمين بالله - سبحانه وتعالى ـ شأنها عظيم، وخطبها جسيم؛ فهي ليست مجرد كلمة يتلفظ بها المسلم فحسب؛ بل هي عهد وميثاق يقف عنده المسلم، ويلتزمه، ولا يتعداه، وقد أمر الله - جل وعلا ـ بحفظ اليمين في قوله تعالى : «واحفظوا أيمانكم» [المائدة: ٨٩ ] أي: بترك الحلف؛ كما قال ابن عباس وغيره.
وعلى هذا؛ فينبغي للمسلم أن لا يتسرع في اليمين إلا عند الحاجة الملحة؛ ذلـك بـأن كثرة الأيـمان تـدل على قلة تعظيم المحلوف به من قِبَل الحالف، كما أن كثرة الأيمان سمة من سمات الكفار والمنافقين؛ كما قال الله جل وعلا: «ولا تطع كل خلاف مهين» [القلم: 10]، والحلاف هو كثير الحلف.
وفي هذه الأزمان ـ أيها الأحبة ـ كثر الحلف بالله على كثير من ألسنة الناس، وهذه ظاهرة سـوء تـنـم عـن ضـعف الديانة وقلة الورع ـ عافانا الله وإياكم -.
فمن الصور التي يكثر فيها الحلف بالله - سبحانه وتعالى ـ: الحلف به ـ جل وعلا ـ عند البيع والشراء، وقـد قـال أهل العلم: إن الحلف عند البيع والشراء مكروه إذا كان البائع والمشتري صادقين، أما إذا كانا كاذبين فإنه محرم تحريما شديدا، يقول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فيه: «إياكم وكثرة الحلف في البيع والشراء؛ فإنه ينفق ثم يمحق».
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «الحلف منفقة
للسلعة ممحقة للبركة» .
فالحلف في البيع يروج السلعة ويزيد في ثمنها، ولكـن هـذه الزيادة نقصان، وهذا الترويج خسران؛ إذ أن البركة قد نُزعت من هذا المال الذي قد صار إليك من قِبَل هذا الحلف بالله ـ جل وعلا ، وإذا نزعت البركة من المال؛ فلا خير فيه، وإن كثر.
وقد ثبت في (الصحيحين) الوعيد الشديد على من استعمل الحلف في بيعه وشرائه؛ فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم وذكر منهم: «رجل حلف على سلعته لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب».
وثبت في (الطبراني) وغيره عن سلمان ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: «ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم: أشيمط زان، وعائل مستكبر، ورجل جعل الله سلعته؛ لا يبيع إلا بيمينه، ولا يشتري إلا بيمينه».
فعلى المسلم أن يتقي الله ـ جل وعلا ـ، وأن يتحاشا من اليمين في البيع والشراء، فإن اضطر إليها فعليه أن يتحرى الصدق والأمانة، وأن يتقي الله ـ جل وعلا ـ فيه، والسلعة أخسّ من أن يجعل فيها اليمين بالله - سبحانه وتعالى ـ مُنَفِّقاً لها.
ومن الصور أيضا التي كثر فيهـا الحـلـف عند الناس: تلك الأيمان التي تكون عند التقاضي والخصومات في المحاكم؛ فإن الخصم يحلف بالله ـ جل وعلا ـ كاذبا؛ ليكسب القضية ويفوز بها دون خصمه، دون مبالاة بحرمة اليمين، بل جراءة على الله رب العالمين.
وقد ورد الوعيد الشديد على من فعل ذلك وتجرأ عليه؛ يقول الله ـ تبارك وتعالى -: «إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم» [آل عمران: ۷۷] .
وقد ثبت في (الصحيحين) عن ابن مسعود - رضي الله عنه ـ أن النبي - صلى الله عليه وسلم ـ قال: «من حلف على حق امرئ مسلم؛ لقي الله وهو عليه غضبان»، ثم قرأ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم -: «إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا» إلى آخر الآية.
وثبت في (صحيح مسلم) أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال: «من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، أوجب الله له النّار، وحرم عليه الجنة». فقال رجل: يا رسول الله، وإن كان شيئا قليلا؟ قال: «وإن كان قضيبا من أراك».
واليمين التي يتلفظ بها المسلم كاذبا ليقتطع بها حق امرئ مسلم هي (اليمين الغموس)؛ التي تغمس صاحبها في النار، والتي قرنها النبي - صلى الله عليه وسلم ـ بالكبائر العظام في قوله: «الكبائر : الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس. فسئل عنها فقال: الذي يقتطع حق امرئ مسلم» يعني: بيمين كاذبة.
فاتقوا الله ـ جل وعلا ـ عباد الله ... وراقبوه، «واحفظوا أيمانكم» [المائدة: 89]، «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم» [البقرة: ٢٢٤].
أيها الأحبة في الله، ومن صور الحلف المنهي عنه: تلك الأيمان التي يصدرها المسلم ليمتنع بهـا عـن فـعـل الخير، والتي قد نهى الله ـ جل وعلا ـ عنها في قوله ـ جل وعلا -: «ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسَّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله» [النور: ٢٢ ] أي: لا تحلفـوا عـلى أن لا تتصدقوا على الفقراء والمساكين، ولا تحلفوا على أن لا تصلوا أقاربكم.
وإذا وقع المسلم في هذه اليمين؛ فيستحب له أن يفعل ما حلف عليه، وأن يكفـر عـن يـمـينه؛ لقول الله جل وعلا-: «ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكـم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس» [البقرة: ٢٢٤ ] أي: لا تجعلوا أيمانكم مانعة لكم من فعل البر والتسابق في أبواب الخيرات .
ولذا؛ ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «والله إني ـ إن شاء الله ـ لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها؛ إلا فعلت الذي هو خير، وكفرت عن يميني» .
وثبت ـ أيضا ـ عنه - صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها؛ فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير».
أما إذا حلف المسلم على أمر مباح فإنه يُخَير بين الاستمرار على يمينه والامتناع عـن المحلوف عنه، وبين أن يأتي المحلوف عنه ويكفر عن يمينه؛ «قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم» [التحريم: ٢]، وتحلتها تكون بالكفارة المذكورة في (سورة المائدة) في قوله ـ جل وعلا -: «فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم» [المائدة: ٨٩].