عباد الله:
إن فقدان الخشوع في الصلاة داء بُلي به كثير من الناس، وهو في الحقيقة داء خطير؛ يميت القلب، ويصرفه عن الله - سبحانه وتعالى ـ؛ ذلك أن الخشوع هو أول ما يُرفع من هذه الأمة؛ كما ثبت ذلك في (مسند الإمام أحمد) عن عوف بن مالك ـ رضي الله تبارك وتعالى عنه .
عباد الله:
إن الصلاة لها حرمتها، ولها قدرها، رتّب الشارع عليها فضائل كثيرة؛ فهي كفارة للذنوب، وهي نـور للعبد في دينه ودنياه، وهي صلة بين العبد وبين ربه ينزل حاجته لله - سبحانه وتعالى ـ عن طريقها.
وإن هذه الفضائل لا تحصل لكثير من الناس؛ لأنهم يفرطون في الخشوع فيها.
وقد ثبت في (صحيح مسلم) عن عثمان بن عفان ـ رضي الله تعالى عنه ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: « ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيُحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما بينها، مـا لـم تُـؤْتَ كبيرة، وذلك الدهر كله».
وكـثـيـر مـن الـنـاس يؤدون الـصـلاة، ولكـن لا تـنـهـاهـم صـلاتهم عن الفحشاء والمنكر؛ ذلـك بـأنهم ضيعوا الخشوع فيها.
ولقد حث الله ـ جل وعلا ـ على الخشوع في الصلاة، وأمر به، ورتّب على فعله أجرا كبيرا؛ كما قال ـ جل وعلا -: « قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون» [المؤمنون: ۱-۲]، فبـدأ بـأول صـفة ـ وهي الخشوع في الصلاة ؛ لعظمها، ولكبير قدرها.
وانظر ـ يا عبد الله ـ في صلاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ لترى كمـال الهـدي فيها؛ فإن عبد الله بن الشخير ـ رضي الله عنه ـ يقول: «جئت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهـو يـصلي، ولجوفه أزيـر كـأزيز المرجل؛ من البكاء».
ولما مرض ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال: «مروا أبا بكر فليصل بالناس، فقالت عائشة ـ رضي الله عنها - يا رسول الله، إن أبا بكر رجل رقيق؛ إذا قام مقامك لم يُسمع الناس من البكاء . قال: مروه فليصل».
وثبت أن عمر - رضي الله عنه ـ [ كان يُسمع نسيجه من بين الصفوف وهو يقرأ (سورة يوسف) ].
ذلك هو الذي جعلهم يتلذذون بالصلاة، ويركضون إليها إذا حـزبتهم الأمور، ذلـك هـو الـذي جعلهـم يحبُـون الصلاة حبا جما؛ فيرونها أسعد لحظات حياتهم.
يقول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كما في (المسند) بإسناد حسن: «يا بلال، أرحنا بالصلاة».
ويقول كما في (السنن) و(المسند) بإسناد جيد: «وجعلت قرة عيني في الصلاة».
فإلى أولئك الذين يجعـلـون مـن صـلاتهم أوديـة للخطـرات والوساوس والتفكيرات، والنظر في أمـور الـدنيا والملذوذات، إلى أولئك نقول: رويدا على أنفسكم؛ فلقد خسرتم كثيرا، وفرطتم في أجر كبير.
يقول ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: «ما لك من صلاتك إلا ما عقلت» ومصداق ذلك في سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ يقول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كما في (سنن أبي داود) وغيره بإسناد لا بأس به: «إن الرجل لينصرف وما كتب له من صلاته إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها، إلا سبعها، إلا سدسها، إلا ربعها، إلا ثلثها، إلا نصفها».
فما حالك ـ يا عبد الله ـ إذا كان الله ـ جل وعلا ـ قد كتب لك من ثواب هذه الصلاة العشر ؟!
لا شك أنك مغبون، وأنك مفرط.
عباد الله: تعلمون من تقابلون في هذه الصلاة؟
إنكم تقابلون الله ـ تعالى ـ، إنكم تقابلون ملك الملوك؛ فبئس من رجل يقابل الله ـ جل وعلا ـ ثـم ينـصـرف عـن الله يمينا وشمالًا؛ ألا تعلمون أن ربنا ـ جل وعلا ـ إذا كبر أحـدنا تكبيرة الإحرام نصب وجهه لوجه عبده، حتی يلتفت العبد من صلاته، عندئذ ينصرف الله عنه، وإذا كان كذلك خلى الله ـ جل وعلا ـ بينه وبين الشيطان؛ فأفسد صلاته.
إن كثيرا من الناس إذا دخل على الملوك، أو الأمراء، أو على مـديره في دائرتـه ــ عظمه، وأصغى إليه، وخشع في حضرته؛ فلا تمايل، ولا انصراف، ولا خطرات؛ بل يظهر لهذا المسؤول أنه مهتم بأمره، معتن بـما يقوله، فكيف لا يفعل المسلم ذلك مع ربه - سبحانه وتعالى ـ وهو ملك الملوك، المطلع على ما تخفيه الضمائر والصدور؟! .
فيا ـ عباد الله ـ، اتقوا الله ـ جل وعلا ـ في صلاتكم، وارعوا الخشوع فيها، واجلبوا ما يرقق قلوبكم في التفكر فيما يتلى عليكم من كتاب الله، وفيما تتلفظون من أذكار في الصلاة.
فإذا قال المسلم: (الله أكبر) تأمل معناها قليلا؛ فوجدها أن الله أكبر من كل شيء، أكبر من هذه الدنيا وما فيها من زخارف وشهوات؛ عندئذ يوحي إليه ذلك أن لا يلتفت عن هذا الكبير الذي هو أكبر من كل شيء.
يتأمل المسلم في قراءة القرآن وما فيه من العِبر والعظات، هذا القرآن الذي لو أُنزل على جبل لتصدع وتلاشى من عظم هذا القرآن، فما بال قلوبنا ـ يا عباد الله ـ أصبحت كالحجارة أو أشد قسوة؟! إن الواجب علينا مراجعة أنفسنا، والنظر في حال صلاتنا؛ كم من مصل لا تنفعـه صـلاته نفعا كبيرا؟! كـم مـن مصل لا تكون صلاته نورا له في هذه الدنيا وفي الآخرة؟! كم من مصل لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر؟!.
فإلى أولئك المصابين بداء فقد الخشوع نقول: إن هذا الداء له شفاء في كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم .
ومن أعـظـم الشفاء: ما ثبت في (صحيح مسلم) عن عثمان بن أبي العاص ـ رضي ال الله عنه ـ أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله، إن الشيطان قد حال دوني ودون صلاتي؛ فـلا أعـلـم مـا قـراءتي مـا صلاتي. فقال ـ عليه الصلاة والسلام -: ذاك شيطان يقال له خنزب؛ فإذا أحسسته؛ فاستعذ بالله من شره، وانفث عن يسارك ثلاثا، فإنه لا يأتيك». قال عثمان بن أبي العاص: ففعلت ذلك؛ فأذهبه الله ـ جل وعلا ـ عني.
فما عليك ـ يا عبد الله ـ إذا تسلط عليك الشيطان وأراد أن يصرفك عن لذة المناجاة مع ربـك في هذه الصلاة إلا أن تلتجأ وتحتمي بمن؟ بملك الملوك مِمَّن؟ من أحقر عباده وأذلهم، من الشيطان الرجيم؛ فتقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) استعاذة صادرة من القلب؛ ليتقبلها الله - سبحانه وتعالى -.