الاعتبار بشدة الحر

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم المحسن البر، يذكر عباده بشدة البرد وشدة الحر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أعد للمتقين الجنة ونعم المستقر، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله عبد ربه وما فتر، وسكن المدينة وعلى شدة بردها وحرها صبر، صلى الله عليه وسلم عدد قطرات المطر، وأوراق الشجر، ورضي الله عن آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وثبت على دينه واستمر.

أما بعد فيا عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا بتوحيد ربكم فهو العروة الوثقى، {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتون إلا وأنتم مسلمون}.

عباد الله، عباد الله، إن الله لم يخلق الناس عبثا ولم يتركهم هملاً، بل خلقهم ليعبدوه مخلصين له الدين، وأرسل لهم رسلا، وجعل لهم في طريق سيرهم إليه مذكرات تذكرهم وتنبههم، ومن تلك المذكرات تقلب أحوال الدنيا، ومن ذلك يا عباد الله ما يجده أهل الأرض اليوم من شدة الحر، وإن في شدة الحر لعبرة وإن فيه لفكرة لمن نظر وتفكر وتأمل وتدبر فاعتبر.

عباد الله، إن التقي الزكي يتذكر بشدةِ حر الدنيا شدةَ حر جهنم، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرَّا}، ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: ((إن شدة الحر من فيح جهنم))، ويقول صلى الله عليه وسلم ((اشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبِّهَا، فَقالَتْ: يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فأذِنَ لَهَا بنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهْوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ)).

عباد الله، عباد الله، إن ذلكم الحر الشديد في نار جهنم يجده الشقي في قبره إذا فشل في الإجابة عن الأسئلة الثلاثة: من ربك، وما دينك، ومن نبيك، فينادي منادٍ أن كذب فأفرشوه من النار، وألبسوه من النار، وافتحوا له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويعذب به الشقي في الأخرة، {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق}.

يا عبد الله، يا عبد الله، إذا اشتد بك الحر فذهبت تخففه بالظل أو المكيفات، فتذكر أن حر جهنم لا يخفف عن أهلها، وإذا نُقلوا منه فإنهم يُنقلون إلى زمهرير لا يطاق، فلا ظل ظليل يقيهم حر جهنم، ولا واقيَ يقيهم شر لهبها.

يا عبد الله، يا عبد الله، إذا إشتد بك الحر فناديت من يحبك ليأتيك بالماء البارد تخفف به الحر، فتذكر قول ربك سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِأْسِ الشَّرَابُ وَسَاءتِ مُرْتَفَقًا}.

فاتقوا الله عباد الله، وتذكروا ما أمامكم، وأحسنوا سيركم في بقية أيامكم.

عباد الله:

{يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون}.

أقول ما تسمعون، واستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد فيا عباد الله، إن حر جهنم يُتقى: بتوحيد الله عز وجل وطاعته، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والبعد عن محارمه، كما يُتقى بكثرة الدعاء، فقد كان من دعاء حبيبنا ونبينا صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل، أعوذ بك من حر النار ومن عذاب القبر)).

كما أن حر جهنم يا عباد الله يُتقى بكثرة الصدقات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((فمن استطاع منكم أن يقِي وجهه حر النار بشق تمرة فليفعل)).

كما يُتقى حر جهنم يا عباد الله بكثرة الصيام في سبيل الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من صام يوما في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم حر جهنم عن وجهه سبعين خريفا)).

عباد الله، عباد الله، يا أهل المدينة اصبروا على حرها ولا تجزعوا ولا تتبرموا، وإن مما يخفف عليكم حرها، الوعدُ الصادق من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال عن مدينتكم: ((من يصبر على لأواءها وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة))، وفي رواية ((لا يصبر على لأواءها وشدتها أحد إلا كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة))، فمن كان من الموحدين من أهل المدينة وكان من الصالحين فإنه موعود بأن يشهد له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم عند الله، ومن كان من الموحدين من أهل المدينة من العصاة فإنه موعود بأن يشفع له النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه، وشرط هذه الكرامة الكبرى -يا عباد الله- أن يصبر المسلم على شدة حر المدينة وعلى شدة بردها وعلى ما قد يلاقيه فيها من المشاق.

نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الصابرين على شدة حرها، بل أسأل ربي أن يجعلنا جميعا من الراضين الشاكرين على ذلك.

عباد الله، عباد الله، صلوا على رسولكم صلى الله عليه وسلم ...

وارض اللهم عن الصحابة أجمعين، وارض عنا معهم بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار، اللهم إنا نعوذ بك من النار.

اللهم رب جبرائيل وميكائيل ورب إسرافيل إنا نعوذ بك من حر النار وعذاب القبر.

اللهم يا ربنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن ترزقنا الجنة أجمعين. اللهم يا ربنا أقوي جماعتنا وأدم أمننا وكثر خيرنا وبارك لنا في ولاة أمرنا.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار، والله تعالى أعلى وأعلم،

عباد الله، عباد الله، صلوا على رسولكم صلى الله عليه وسلم،