الخطبة الأولى:
أما بعد: فيا أيها المؤمنون: اتقوا الله حق التقوى، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يحاسب المرء منا في ذلك اليوم العصيب على لسانه وعلى جوارحه وعلى فرجه وعلى قلبه، يحاسب على كل ما عمل وعلى كل ما نطق به وعلى كل ما عقده قلبه، وكلُ شيء في ذلك اليوم سيعرض عليك من عمل إن كان خيرًا وإن كان شراً {فمن يعمل مثقال ذرة خيرًا يرهومن يعمل مثقال ذرة شرًا يره} [الزلزلة:7-8].
أيها المؤمن: إن الله جل جلاله عظّم في كتابه شأن العلماء، شأن علماء الدين؛ لأنهم الذين حملوا في صدورهم كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم بينوا ذلك للناس، فرفع الله المؤمنين بالله ورسوله، رفعهم درجات، وجعل أرفع المؤمنين درجات أهل العلم {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة:11].
فأهل العلم هم أرفع هذه الأمة درجة، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا هم درجات، وأرفعهم علماؤهم، والعشرة المبشرون بالجنة هم أرفع أولئك، وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم الله خير هذه الأمة؛ لأنه رضي عنهم واختارهم لصحبة نبيه {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} [الفتح:18].
ومع ذلك، مع ثناء الله جل وعلا على صحابة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وقوله في شأنهم: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعًا سجدًا} [الفتح:29]. ومع ما أثنى الله عليهم بقوله: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان} [التوبة:100].
ومع ما أثنى الله عليهم في آيات كثيرة فقد ظهر أناس في زمن الصحابة يضللون الصحابة ويرون أن ما هم عليه ليس بحق، بل كفروا بعضًا منهم، لأنهم رأوا أنهم لم يحملوا دين الله وأنهم فرطوا في الدين، وأنهم رضوا بالدنيا عن الآخرة، وأنهم حكموا الرجال في دين الله ورضوا بغير كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فضللت الأمة من وقع في الصحابة، ثم أجمع المسلمون من أهل السنة والجماعة على أن من ذكر الصحابة أو ذكر علماء هذه الأمة بغير الخير فإنه على غير السبيل، يعني على غير سبيل أهل السنة والجماعة؛ لأن علماء هذه الأمة هم الذين ورثوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، ورثوا أقواله، وورثوا القرآن، وورثوا السنة، وورثوا أفعال النبي عليه الصلاة والسلام، ونقلوها إلى الناس، فمن طعن في الصحابة فإنه يطعن في الدين؛ لأن الصحابة هم الذين نقلوا الشريعة، وهم الذين بلغوها إلى الناس، فإذا طعن فيهم رجع الطعن إلى من نقل الشرع، وهذه من أكبر وسائل الملحدين في الطعن في الإسلام، أنهم يقولون: إن الصحابة مطعون فيهم، وكيف يرضى في نقل الشريعة بنقل من طعن فيه، ومن قتل، وعمل، ومن ارتكب بعض المعاصي، ومن قاتل لأجل الدنيا، ونحو ذلك من الأمور التي أجمع العلماء وأجمعت الأمة على تضليل من قال بذلك.
كذلك لما توالى الزمان طعن أناس كثيرون في أئمة أهل السنة وفي أئمة أهل الحديث، طعنوا فيهم، تارة بعدم معرفتهم بالدنيا، وتارة بأنهم يدخلون على الولاة، وتارة بأنهم لا يفقهون إلا النصوص ولا يعلمون العقليات، وتارة وتارة، والغرض من ذلك كله أن يطعنوا في العلماء، وإذا طعن في أهل العلم طُعن في الشريعة؛ لأن الشريعة إنما يبينها أهل العلم، يبينون كتاب الله ومعانيه، ويبينون السنة ومعانيها، فمن طعن في أهل العلم رجع طعنه إن كان مريدًا أو غير قاصد، رجع الطعن إلى الشريعة؛ لأن الشريعة إنما يبلغها هؤلاء العلماء الذين ورثوا محمدًا صلى الله عليه وسلم بشهادته عليه الصلاة والسلام حين قال: ((إن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر)).
العلماء ورثة الأنبياء، فالطعن فيهم حقيقته أنه راجع إلى الطعن في الشريعة، وإن الطعن في العلماء وتشويه سمعة العلماء بحقٍ أو بغير حق عند العامة، إن ذلك يورث الشك فيهم، وإذا أُورث الشك في أهل العلم رجع ذلك إلى عدم الثقة بأقوالهم وعدم الثقة بالعقيدة التي ينشرونها وعدم الثقة ببيانهم لكتاب الله وبيانهم للسنة، وعدم الثقة ببيانهم للفتاوى المعاصرة وللنوازل الحاضرة التي تجدُّ في أحوال المسلمين وما يجدُّ في أحوالهم أفرادًا وجماعات، وإذا نزعت الثقة تسلط الجهال فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا.
أيها المؤمنون: إن الله جل جلاله لما رفع منزلة العلماء جعل غيبة كل المسلمين كبيرة من كبائر الذنوب، فإن الله جل جلاله قال: {ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} [الحجرات:12].
فجعل الغيبة من جنس أكل الميتة، وأكل الميتة كبيرة من الكبائر، فهكذا الغيبة كبيرة من الكبائر وتعظم الغيبة إذا كان المغتاب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إذا كان المغتاب العلماء الذين يعلمون الكتاب والسنة ويبصرون أهل العمى وينصرون السنة بالاعتقاد والعمل، تعظم الغيبة وتكبر الكبيرة.
وإذا كانت الغيبة تلك كبيرة، فمن ذكر العالم بغير ما يرضى فإنه قد اغتابه، وإذا اغتابه فإنه قد ارتكب تلك الكبيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغيبة، نهى عن الغيبة ثم سئل عنها: ما الغيبة؟ فقال: ((ذكرك أخاك بما يكره)) قال: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: ((إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته))، والبهتان أعظم من الغيبة، {والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا} [الأحزاب:58].
إن الغيبة إذا كانت كبيرة من كبائر الذنوب، فمن مارسها بين الصلوات فإن الصلاة إلى الصلاة ليست مكفرة لما بينهما؛ لأن من شرط تكفير الذنوب أن تجتنب الكبائر، فمن أصر على هذه الكبيرة ولم يستغفر، ولم يتب ولم يُنب إلى ربه فإن صغيرته لا تكفرها الصلاة ولا يكفرها الصيام، ولا تكفرها الجمعة، ولا تكفرها العمرة، ولا يكفرها الحج، قال تعالى: {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريمًا} [النساء:31]. إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم، فشرط تعالى لتكفير السيئات أن تجتنب الكبائر، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: ((الصلاة إلى الصلاة مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر))، وفي لفظ: ((ما لم تغش كبيرة))، وكذلك قال: ((رمضان إلى رمضان والعمرة إلى العمرة والجمعة إلى الجمعة مكفراتٌ لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر)).
فهذا الذي وقع في الغيبة بذكره أخاه بما يكره إن كان في أخيه ما يقول، وإن كان في أهل العلم ما يقول فقد ارتكب تلك الكبيرة، وإن كان ما يذكر كذبًا وبهتانًا، إن كان ما يذكر زورًا وإفكًا فإن مصيبته وكبيرته أعظم، وصلاته إلى صلاته ليست مكفرة لما يرتكبه من الذنوب، بل تجتمع عليه الذنوب إن لم يشأ الله أن يغفر له في الآخرة، تجتمع عليه الذنوب كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي يصف فيه الذنوب، ويصف فيه صغارها، بل الكبار. يقول: ((كمثل قوم تفرقوا في وادٍ فأتى هذا بعود صغير، وأتى ذاك بعود، وأتى الثالث بعود فجمعوه تحت قدرهم فأنضجوا قديرهم)) يعني ما بداخل القدر، وهكذا الذنوب تهلك صاحبها.
أيها المؤمن: إن الله رحمك بأن جعل صلاتك إلى صلاتك مكفرة لما بينهما، فإنك إذا ارتكبت تلك الكبيرة من الغيبة والبهتان، أو من الكذب على أهل العلم فإنك على خطر عظيم.
النجاة النجاة، النجاة النجاة،
وإيانا وسبيل المبطلين الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، ويرتكبون النهي مع علمهم بذلك، ويطعنون في أهل العلم ويعلمون أنهم هم خيرة أهل الأرض بما يحملون في صدورهم من القرآن، من كلام الله، ومن كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم، إذا تحدثوا تردد في أنفاسهم كلام الملك العلي العظيم، وإذا تحدثوا تردد مع أنفاسهم كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم كأنه حيٌ حاضر يحدثنا, يفقهوننا ويعلمون الجاهل ويفتون ويعلم الناس أثرهم إذا قام الأشهاد يوم القيامة، من أخذ من عالم كلمة فاهتدى بها فنفعته في دينه فإنه سيعلم عظم أثرها يوم القيامة فكيف يكذب المبطلون على أهل العلم، وكيف يبهت المبطلون أهل العلم، وكيف يغتاب الناس أهل العلم وهم خيرة الله في أرضه؟ ومن ذكرهم بغير خير فهو على غير السبيل.
إن الكذب على أهل العلم كبيرة من الكبائر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من حدث بحديث يُرى أنه كذب فهو أحد الكاذبَين)) وفي رواية أو في ضبطٍ: ((فهو أحد الكاذبِين))، وقد قال الله جل وعلا: إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك هم الكاذبون[النحل: 105]، فالكذب في هذا الزمان راج ونتج عن الكذب الغيبة والبهتان، ونتج عن ذلك أمور كثيرة فشت في الناس.
أيها المؤمن: إن إيمانك يعصمك من ارتكاب الزنا، إن إيمانك يعصمك بإذن الله وتوفيقه من شرب الخمر، ومن أكل الربا، ومن السرقة، ومن الموبقات، ومن الشرك بالله، ومن السحر، ومن التولي يوم الزحف، ومن قذف المحصنات الغافلات.
وهذه يجتمع المؤمنون على إنكارها وعلى بغضها، ولكن هل عصمك إيمانك من الغيبة؟ هل عصمك إيمانك من الكذب؟ هل عصمك إيمانك من البهتان؟!!
قال شيخ الإسلام: إنه يكثر في الصالحين أن يجتنبوا الزنا وشرب الخمر، ولكنهم يقعون في كبائر الذنوب باللسان من الغيبة ونحوها، ومن كبائر الذنوب في القلب من العجب والكبر, ونحو ذلك.
وهذا الذي قاله صحيح؛ لأن الكبائر متنوعة، والله جل جلاله جعل للسان كبيرة، وقد سأل معاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال له: ((كف عليك هذا)) قال معاذ: يا رسول الله أوإنا لمؤاخذون بما نقول؟ قال: ((ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على مناخرهم ـ أو قال على وجوههم ـ إلا حصائد ألسنتهم)).
فماذا يقول أولئك الذين اجتمعوا في المجالس فأخذوا يغتابون هذا العالم ويغتابون ذاك، ويقذفون القاضي هذا، ويقذفون القاضي ذاك، ولا يرعون للشرع حرمة، ولا يرعون لما في صدور العلماء من كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حرمة، ولا يرعون للعقيدة الصحيحة التي يبلغها أهل العلم وينشرونها، لا يرعون لها حرمة، ويرتكبون هذه الكبيرة بذكرهم العلماء بما يكرهون، ومع ذلك يأنسون وكأنهم على طاعة، وكأنهم في طواف أو في تلاوة قرآن، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
اللهم نسألك سؤال مُلحّ يرجو الإجابة أن تجعل ألسنتنا عفيفة، اللهم اجعل ألسنتنا عفيفة وقلوبنا محبة للمؤمنين، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا اجعلنا ممن يتكلم بالخير، اللهم اجعلنا ممن ينطق إذا نطق بالخير ونعوذ بك من لسان يؤول بنا إلى النار، نعوذ بك اللهم من لسان يؤول بنا إلى النار، واسمعوا قول الله عز وجل بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحيم الرحيم: والعصرإن الإنسان لفي خسرإلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر[العصر].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب فاستغفروه من قلوبكم حقًا، وتوبوا إليه صدقًا، إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حق الحمد وأسماه وأجله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، نشهد أنه بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد، اللهم صل على نبيك محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم تقوى الله؛ فإن بالتقوى الفخار والرفعة، فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يعني قد حققتم إسلامكم ظاهرًا وباطنًا.
هذا واعلموا رحمني الله وإياكم أن الله جل جلاله أمركم بالصلاة على نبيه فقال قولاً كريمًا: {إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، الأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.