موقف المسلم عند ترويج الأكاذيب والإشاعات

الشيخ سليمان أبا الخيل

الخُطْبَةُ الأُولَى: 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحْمَدُه ونستغفِرُه ونَتُوبُ إليهِ، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا ومِنْ سيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وحْدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ١٠٢ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾ [آل عمران: 102-103].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ٧٠ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 70-71].

عِبَادَ اللهِ:

إنَّ هناكَ مَرَضًا خَطِيرًا، وداءً عُضَالًا، وأمرًا يتلَبَّسُ به بَعْضُ الناسِ ويَلُوكُونَهُ بألْسِنَتِهِمْ وأقوالِهِمْ، ويَتَحَدَّثُونَ به في مجالِسِهِمْ دُونَ وازعٍ دِينِيٍّ، أو رَادِعٍ عَقْلِيٍّ، وهو مِنَ الأمورِ الضارَّةِ والمُفسِدةِ والمُهْلِكةِ في الدِّينِ والدُّنْيَا والآخِرَةِ، لا يَعْرِفُ ذلك ولا يُدْرِكُه إلَّا مَنْ حَقَّقَ ودَقَّقَ في قواعدِ الشريعةِ وأَدِلَّتِها الواردةِ في الكِتَابِ والسُّنةِ، وما سار عليه سَلَفُ الأُمَّةِ، إنَّه الشائعاتُ، وما أدراكَ ما الشائعاتُ! وهي تلك الأقاويلُ التي يَتَحَدَّثُ بها بعضُ الناسِ؛ مِنْ أَجْلِ الإرجافِ، وإخافةِ الآمنينَ، وإفسادِ أحوالِ المجتمَعاتِ.

وقد حَذَّرَ اللهُ عز وجل مِنْ ذلكَ أيَّما تحذيرٍ، وبيَّنَ الضررَ والشرَّ والخَطَرَ المترتِّبَ على تلكَ الأقاويلِ والأخبارِ التي يُطْلِقُها ضِعافُ العقولِ، ويَتَلَقَّفُها الناسُ عَنْ قَصْدٍ أو غير قَصْـدٍ. يقـولُ اللهُ عز وجل: ﴿وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ﴾ [النساء: 83].

يقولُ الإمامُ القُرْطُبِيُّ في بيانِ مَعْنَى ذلكَ: إنَّ الناسَ في عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا جَاءَهُمْ خَبَرُ خَيْرٍ عن نُصْرَةِ المسلمينَ، أو جاءهم أَمْرٌ غيرُ ذلكَ مِمَّا يَقَعُ مِنَ الحوادثِ على مُختلَفِ أنواعِهَا وأشكالِها قاموا بالحديثِ عنه، وإشاعَتِه، وإذاعتِه، دُونَ معرفةِ حقيقَتِه، وما يترتَّبُ عليه، ومِنْ هنا جاءَ التشديدُ والوعيدُ على كُلِّ مَنْ كانَ هذا نَهْجَه وطَرِيقَهُ وسُلُوكَه؛ لأنَّ الأمرَ أَكْبَرُ ممَّا يُتَصَوَّرُ، والخَطَرَ والفسادَ والإفسادَ الذي يتحقَّقُ مِنْ خلالِ ذلكَ، لا يَعْلَمُ مداهُ إلَّا اللهُ عز وجل؛ ولذلكَ فإنَّ صِمَامَ الأمانِ الذي يَمْنَعُ الإنسانَ مِنَ الوقوعِ في هذه المزالقِ والمخاطِرِ يَكْمُنُ في أُمُورٍ:

منها: مَعْرِفَةُ نُصُوصِ الكِتَابِ، ومعرفةُ ما جاءتْ به مِنَ التوجيهاتِ السديدةِ، والبيانِ الحكيمِ الذي إذا أَخَذَ به المسلمُ وعَمِلَ به سَلِمَ مِنْ كُلِّ الشـرورِ ودُعَاتِهـا والمرَوِّجِــينَ لها، يَقُـولُ اللهُ عز وجل:   ﴿وإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ولَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [النساء: 83].

ويقولُ سبحانه وتعالى مُحَذِّرًا من ذلك، ومُبَيِّنًا عاقبةَ مَنْ يتولَّاه ويكونُ دَيْدَنَه وعادَتَه: ﴿لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا * مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وقُتِّلُوا تَقْتِيلًا﴾ [الأحزاب: 60-61].

هذا هو حالُ المُشِيعِينَ، والمُذِيعِينَ، والمُرْجِفِينَ، والذين في قلوبِهِمْ مَرَضٌ، والجَهَلَةِ، والذين يَقْصِدُونَ زَعْزَعَةَ الأَمْنِ والآمنينَ، وكذلك كُلِّ عدوٍّ من أعداءِ المسلمينَ. يقولُ اللهُ سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ واللَّهُ يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].

إنَّ هذه النصوصَ القواطِعَ، والأدلةَ الشوامِخَ؛ لو أَخَذْنَا بها، وفَهِمْنَا معَانِيَها، ودَقَّقْنَا فيما أَمَرَتْنَا به، مِنْ لُزُومِ هَدْيِ الكِتَابِ الكريمِ، والعملِ بما جَاءَ به؛ لَمَا استطاعَ أَحَدٌ أنْ يُشِيعَ أو يُلبِّس أو يُدلِّس أو يَأْخُذَ بعقولِ الجَهَلَةِ، وبعضِ مَنْ يَرْتَكِبُ هذه الخطايا والذنوبَ التي تُوقِعُه في شرٍّ لنَفْسِه ولأُسْرَتِه ولمجْتَمَعِهِ ولأوطانِهِ.

ومنها: الالتزامُ بما جَاءَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في التحذيرِ مِنَ الشائعاتِ، والعَمَلُ على أنْ يَكُونَ قولُ الإنسانِ وفِعْلُه كلُّه خَيْرًا، فقد ثَبَتَ في الحديثِ الصحيحِ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قَالَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ».

ويَقُولُ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ الآخَرِ أيضًا: «الْـمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ ويَدِهِ».

وثَبَتَ في الحديثِ الصحيحِ عن مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِلِسَانِه وقَالَ: «يَا مُعَاذُ، كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا»، فقال مُعاذ: أنحنُ مُؤاخَذُونَ بما نَتَكَلّمُ به؟! قال: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي النَّارِ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ!».

وثَبَتَ في «سُنَنِ أبي داودَ»، و«مصنَّفِ عبدِ الرزاقِ»، وفي «السُّنَنِ الكُبْرَى للنَّسائِيِّ» رحمهمُ اللهُ مِنْ حَدِيثِ ماعزِ بْنِ مالكٍ المرويِّ عَنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّه لمَّا جَاءَ مُقِرًّا بِالزِّنَى رَجَمَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ، وسَمِعَ رجُلَيْنِ يقولُ أَحَدُهُما للآخَرِ: انظرْ للَّذِي سَتَرَ اللهُ عليه، فقادَتْه نَفْسُه إلى أن يُرْجَمَ رَجْمَ الكَلْبِ، ثم سَارَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم ساعةً فرَأَى جِيفَةَ حمارٍ شائلٍ رِجْلَه، فقال: «أَيْنَ فُلَانٌ وفُلَانٌ؟»، فقالا: ها نَحْنُ ذا يا رسولَ اللهِ، فقال: «انْزِلَا وكُلَا مِنْ جِيفَةِ هَذَا الْـحِمَارِ»، فقالا: يا رسولَ اللهِ، ومَنْ يَفْعَلُ ذلكَ ويأكلُ مِنْ هذه الجِيفَةِ؟ فقال -وانْظُرْوا إلى هذا التوجيهِ النبويِّ العظيمِ، والسَّدِّ المنيعِ مِنَ الشائعاتِ والأراجيفِ والغِيبَةِ والنميمةِ- قال: «إِنَّ مَا نِلْتُمَا مِنْ عِرْضِ أَخِيكُمَا أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُؤْكَلَ مِنْ هَذِهِ الْجِيفَةِ، والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ -أَوْ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ- إِنَّه الْآنَ فِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ يَتَغَمَّسُ فِيهَا».

ولذلكَ فإنَّ المسلمَ الكيِّسَ الفَطِنَ الحصيفَ هو الذي يَأْخُذُ بهذا المنهجِ، ويَسِيرُ على هذا الطريقِ، ولا يَلْتَفِتُ إلى قائلٍ أو ناعقٍ، مهما كان قَوْلُه أو فِعْلُه؛ لأنَّ الإنسانَ سيُحاسَبُ على ما يَصْدُرُ منه مِنَ الأقوالِ والأفعالِ، ولا يُحاسَبُ على ما يَكُونُ مِنَ الآخَرِينَ؛ ولذلك يَقُولُ الشاعرُ:

لِسَانُ الفَتَى نِصْـفٌ ونِصْفٌ فُؤَادُهُ

فَلَمْ تَبْقَ إِلَّا صُورَةُ اللَّـحْمِ والـدَّمِ

وكَائنٍ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجبٍ

زِيَـادَتُه أَوْ نَـقْصُــهُ فِي التَّـكَـلُّمِ

وهل يُورِدُ الإنسانَ في المهالِكِ إلَّا لِسَانُهُ وما يَقُولُه مِنَ الأقوالِ التي لا يَعْلَمُ حَقِيقَتَها ولا ضَرَرَهَا؟!

ومنها أيضًا: أن يُدركَ المسلمُ -كائنًا مَنْ كَانَ- أنَّه كما يَدِينُ يُدانُ، فكما أنَّه يَتَحَدَّث عَنِ الآخرينَ ويُشِيعُ ويُذِيعُ في حُقُوقِهِمْ؛ فإنَّ ذلك سينالُه قريبًا أو بعيدًا، وهذا تَوْجِيهٌ لكُلِّ مَنْ أرادَ أن يَسْلَمَ وينجوَ مِنْ كُلِّ المخاطرِ والشرورِ والأقوالِ والأعمالِ التي إذا تتابَعَ فيها، ولم يَرْقُبِ الله في التحدُّثِ عنها؛ فإنه سيُوَاجِهُ الخزيَ في الدنيا، والعذابَ في الآخِرَةِ.

ومنها: أنَّ إشاعةَ الشائعاتِ وإذاعَتَها والقَوْلَ بها وتَفْعِيلَها، هي مِنَ الأمورِ التي يَدْعُو إليها أعداءُ الإسلامِ، ويُرَوِّجُونَ لها في كل وقتٍ وحِينٍ؛ وذلك مِنْ أَجْلِ أنْ يَقَعَ الخلافُ والاختلافُ والشرُّ والتدابرُ والتباغُضُ والتحاسُدُ بيْنَ أُمَّةِ الإسلامِ، مما يَجْعَلُها تَضْعُفُ وتَهُونُ عند الأُمَمِ الأُخْرَى، وتُصْبِح فَرِيسَةً سهلةً لأولئكَ الأعداءِ أيًّا كان نَوْعُهُمْ، ومهما كان جِنْسُهُمْ؛ ولذلكَ فإنَّكَ عندما تَتَأَمَّلُ ما يُسَمَّى (بروتوكولات حُكَمَاء صُهْيُون) تَرَى أنَّهُمْ رَكَّزُوا مِنْ خِلَالِ موادِّها وما جَاءَ فيها على إشاعةِ الكَذِبِ والأراجيفِ والشائعاتِ؛ لأنها تُحْدِثُ الفَوْضَى، وتُسبِّبُ الفِتَنَ والمشاكلَ، وتجعلُ الأُممَ في مَهَبِّ الريحِ، ليس لها رائدٌ ولا قائدٌ ولا ضابطٌ، ممَّا نراهُ واقِعًا في بعضِ البُلْدَانِ الإسلاميةِ، التي سَهُلَ فيها إطلاقُ هذه الشائعاتِ، وتَوَلَّى كِبَرَها بعضُ الدُّعاةِ الواقفينَ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مما أَذْهَبَ أوطانًا كاملةً فلم يَكُنْ لها وُجُودٌ، ونَرَى أنَّ القتلَ والدماءَ فيها له صَوْلَةٌ وجولةٌ، فليسَ بينهم مِنَ الخيرِ إلَّا القليلُ، وليسَ هناكَ مَنْ يُوَجِّهُهُمْ أو يَعْمَلُ على القيامِ بكُلِّ ما أَمَرَ اللهُ به ورَسُولُه صلى الله عليه وسلم ؛ لِيُخْرِجَهم ممَّا وقَعُوا فيه، ويُعِيدَ إليهمُ الأمنَ والأمانَ، والسلامةَ والطُّمَأْنِينَةَ والاستقرارَ؛ حتَّى يَكُونُوا أُمَمًا مسلمةً ملتزِمَةً بشريعةِ اللهِ، سائرةً على منهَجِهِ القويمِ.

يقولُ اللهُ عز وجل: ﴿مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [سورة ق: 18].

بارَكَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُمْ بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ.

أَقُولُ قولي هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لي ولكمْ، إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

.

.

.

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ: 

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ أجمعينَ.

عبادَ اللهِ:

إنَّ فيما جَاءَ في كِتابِ اللهِ دُرُوسًا وعِبَرًا وعِظَاتٍ لِمَنْ تمعَّنَ في الخَبَرِ، وحادِثَةُ الإِفْكِ نَقْرَأُها ونَتْلُوها دائمًا وأبدًا؛ ولكِنْ هل تَأَمَّلْنا فيها؟ هل عَرَفْنَا مَقَاصِدَها ومَعَانِيَها ومَبَانِيَها؟ .

إنَّكَ أيُّها المسلمُ عندما تَقْرَأُ هذه الآياتِ تَتَبَيَّنُ أنَّها جاءتْ في تَبْرِئَةِ أمِّ المؤمنينَ عائشةَ رضي الله عنها التي كانتْ مقصودةً مِنْ حَدِيثِ الإفكِ، وتِلْكَ الشائعاتُ التي تَوَلَّاهَا الجَهَلَةُ ومَرْضَى القلوبِ والمنافقونَ والمُرْجِفُونَ وأصحابُ الهَوَى والشهوةِ والشُّبْهَةِ، عَنْ قَصْدٍ أو عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ؛ ولذلكَ عندما تَقْرَأُ سِيرَةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وحالَه مع أَهْلِهِ عندما حَدَثَ ذلكَ الحَدَثُ العظيمُ الأليمُ الذي مسَّ خَيْرَ البشرِ وأَفْضَلَهُمْ وأَصْدَقَهُمْ وأَكْرَمَهُمْ وأَنْزَهَهُمْ نبيَّنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، المعصومَ مِنْ كُلِّ زَلَلٍ ونَقْصٍ؛ جاء ذلك كالصاعقةِ والطامَّةِ الكُبْرَى في أقربِ الناسِ إليه، وأحَبِّهِمْ إلى قَلْبِهِ، عائشةَ رضى الله عنها، الأمرُ الذي معه احتارَ المُصْطَفَى وتَرَدَّدَ وحَزِنَ مما وقَعَ له ولِأَهْلِهِ، وتَرَى المنافقين ومَرْضَى القلوبِ يُدِيرُونَ ذلكَ الأمرَ في الليلِ والنهارِ، دُونَ أَنْ يَرْقُبُوا اللهَ عز وجل، أو يَعْلَمُوا أنَّ هذا الأمرَ أَحْزَنَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وأَوْجَعَ قَلْبَه، وأَضَاقَ صَدْرَه، وجَعَلَهُ يَئِنُّ ويَتَأَلَّمُ بطريقةٍ لا يُمْكِنُ أنْ نَعْرِفَها، ولو أنَّها كُتبتْ وجاءتْ عَبْرَ السِّيَرِ وكُتُبِ التاريخِ لَكَانَ الأمرُ أعظمَ مِنْ ذلك، أَرَادُوا أنْ يُهَوِّنُوا مِنْ شَأْنِ صاحبِ الرسالةِ، ويَطْعَنُوا فيه، ويَجْعَلُوا الناسَ يَتَحَدَّثُونَ في عِرْضِهِ، ولا يَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، فهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ أنْ يَتَحَقَّقَ لهم، فرَبُّ العالمينَ لهم بالمرصادِ، وقد أَنْزَلَ براءةَ أُمِّ المؤمنينَ رضي الله عنها مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سمواتٍ.

تقولُ أُمُّ المؤمنينَ عائشةُ رضي الله عنها: «لَمْ أَكُنْ أَتَوَقَّعُ أنْ يُبَرِّئَنِي اللهُ بآياتٍ تُتْلَى إلى يَوْمِ القيامةِ»، ولَكِنْ شَأْنُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم ومَنْزِلَتُهُ العظيمةُ ومكانَتُهُ الكريمةُ عِنْدَ رَبِّهِ جَعَلَتِ اللهَ عز وجل يُنْزِلُ هذه الآياتِ، فأينَ نَحْنُ مِنْ مكانَتِه؟! وأين نحن مِنْ مقامِهِ؟! ولكِنْ هَلِ اعْتَبَرْنا ممَّا جَاءَ في الكتابِ الكريمِ في هذه الآياتِ؟! هل أَخَذْنَا الدروسَ واسْتَفَدْنَا في حَيَاتِنَا ممَّا نَتْلُوهُ أو نَقْرَأُه في هذه القصةِ؟! الجوابُ عندَكُمْ.

يقولُ اللهُ عز وجل: ﴿لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ((١٢)) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ((١٣)) ولَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ورَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا والْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ((١٤)) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وهُو عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ((١٥)) ولَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: 12-16].

يَدْخُلُ في هذا ومِنْ ضِمْنِهِ كُلُّ حَدِيثِ إفكٍ أو غِيبَةٍ أو شائعةٍ تتناوَلُ أيَّ مُسْلِمٍ كَبُرَ أَوْ صَغُرَ، بَعُدَ أو قَرُبَ، ويكونُ الأمرُ أَخْطَرَ وأَعْظَمَ إذا كانتِ الشائعاتُ موجَّهةً إلى ثلاثٍ مِنَ الناسِ:

الفئةُ الأولى: الحُكَّامُ وولاةُ الأَمْرِ، فإنَّ الشائعاتِ في حَقِّهِمْ والأراجيفَ والأكاذيبَ والأباطيلَ أَعْظَمُ ممَّا تكونُ في حَقِّ غيرِهِمْ؛ لأنَّها لا تَتَوَجَّهُ إلى أشخاصِهِمْ وذواتِهِمْ؛ بل هي سائرةٌ وواقعةٌ على ما يَقُومُونَ به مِنَ الحُكْمِ وإدارةِ شُؤُونِ البلادِ، وإذا كَانَ الأمرُ كذلك وظَهَرَتِ الشائعاتُ وذاعتْ وانتشرتْ؛ فإنَّ الناسَ سَيَسْتَقِلُّونَ في شَأْنِهِمْ، ولا يَأْخُذُونَ بتَوْجِيهَاتِهِمْ، ولا يَسِيرُونَ على الأنظمةِ التي يَسُنُّونَها ويَفْرِضُونها ممَّا يُحَقِّقُ المصالحَ ويَدْرَأُ المفاسِدَ.

وإنَّكَ عندما تَتَأَمَّل بعضَ أولئكَ الذين يتولَّوْنَ هذه الشائعاتِ في حَقِّ وُلَاةِ الأَمْرِ والحُكَّامِ تَرَى أنهم يَقْصِدُونَ إفسادَ أَمْنِ الناسِ وأمانِهم وطُمأنينتِهم واستقرارِهم، الأمرُ الذي مَعَهُ لا يَرُوقُ لهم أنْ يَرَوُا المجتمعاتِ المسلمةَ هادئةً مُطْمَئِنَّةً مستقرةً، تَنْعَمُ بالأمنِ والأمانِ، وتُؤَدِّي شعائرَ اللهِ وأحكامَ دِينِهِ، وتُؤَدِّي واجِباتِها.

الفئةُ الثانيةُ: التي إذا تناولَتْها الشائعاتُ وكانت في حَقِّها كانتْ أَشَدَّ خَطَرًا وأَعْظَمَ ضَرَرًا: هُمُ العلماءُ؛ لأنَّ الشائعاتِ عندما تُوَجَّهُ إليهم لا تَقْتَصِرُ على أشخاصِهِمْ وذَوَاتِهِمْ؛ وإنَّما تَنْصَرِفُ إلى ما يَحْمِلُونَه مِنَ العلومِ النافعةِ، والمعارفِ التي يبصِّرُونَ بها الناسَ، ويُبَيِّنُونَ لهم مِنْ خِلَالِها ما يحتاجونَ إليه في أُمُورِ دِينِهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيَسِيرُونَ على هُدًى وبَصِيرَةٍ؛ ولذلك فإنَّها -أي: هذه الشائعاتِ- إذا كانتْ لهؤلاءِ العُلَمَاءِ فإنَّ الناسَ سَيَبْتَعِدُونَ عنهم، وسَيَسْتَقِلُّونَ بشَأْنِهِمْ، ولن يَأْخُذُوا بِفَتَاوَاهُمْ، ولا بتَوْجِيهَاتِهِمْ، ولا بِمَا يَقُولُونَهُ لهم، ومِنْ هُنَا يَعِيشُ الناسُ فَوْضَى لا سُراةَ لهم، ولا قَائِدَ، ولا ضَابِطَ، ولا رَائِدَ، ممَّا يَجْعَلُ الناسَ يَنْصَرِفُونَ عَنِ العلماءِ المُحَقِّقِينَ الربَّانِيِّينَ إلى أولئكَ الضالِّينَ المُضِلِّينَ الذين وصَفَهُمْ لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصحيحِ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْتَزِعُ هَذَا الْعِلْمَ انْتِزَاعًا مِنْ صُدُورِ الْعُلَمَاءِ؛ ولَكِنْ بِمَوْتِهِمْ»، ولكِنْ إذا كَانَ الأمرُ كَذَلِكَ «اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسَأَلُوهُمْ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وأَضَلُّوا».

وثَبَتَ عَنْ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه فيما أَخْرَجَهُ الدارِمِيُّ في سُنَنِهِ عَنْ زِيَادِ بنِ حُدَيْرٍ أنَّ أَمِيرَ المؤمنينَ عمرَ بنَ الخطابِ رضي الله عنه قال: «يَا زِيَادُ أَتَدْرِي ما يَهْدِمُ دَعَائِمَ الإسلامِ؟ قال لا، قال: يَهْدِمُ دَعَائِمَ الإسلامِ زَلَّةُ عَالِمٍ، وخِصَامُ مُنَافِقٍ بِكِتَابِ اللهِ، والأئمةُ المُضِلُّونَ».

ولهذا إذا رأيتَ مَنْ يَتَكَلَّمُ في وُلاةِ الأمرِ، أوِ الحُكَّامِ، أو المسؤولينَ، أوِ العلماءِ، فاعْلَمْ أنَّه داعيةُ سُوءٍ، ومُرِيدٌ للشرِّ والفتنةِ، وأنه مِثْلُ المرضِ الخطيرِ، والجَرَبِ المُعْدِي الذي يَجِبُ أنْ تَبْتَعِدَ عنه وتَحْذَرَ منه، وقبلَ ذلك تُنَاصِحُهُ مُنَاصَحَةً إيمانيةً أَخَوِيَّةً؛ ليُقْلِعَ عَمَّا وقَعَ فيه، فإنْ لم يَكُنْ كذلكَ؛ فإنَّكَ لا بُدَّ أنْ تُحَذِّرَهُ وتُبَيِّنَ له عِظَمَ خَطَرِ ما يَدْعُو إليهِ ويُشِيعُهُ ويُذِيعُهُ، وأنَّ اللهَ سبحانه وتعالى سيُحَاسِبُه ويُعَاقِبُه على فِعْلِه ذلكَ.

الفئةُ الثالثةُ: ممَّا تَعْظُمُ فيه الشائعةُ خَطَرًا وأَثَرًا وشَرًّا وفَسَادًا وإفسادًا: هو ما يَتَعَلَّقُ باجتماعِ الناسِ ولُحمَتُهُمْ وتماسُكُهُمْ وأَمْنُهُمْ وأمانُهُمْ وطُمَأْنِينَتُهُمْ؛ لأنَّ المجتمعاتِ المسلمةَ إذا كانتْ على هذا النحوِ فإنَّها سَتُؤَدِّي عباداتِها وطاعاتِها، وتَقُومُ بأحكامِ رَبِّها بكُلِّ يُسْرٍ وسُهُولَةٍ، بعيدًا عَنِ الخوفِ وعَنْ كُلِّ المُكَدِّرَاتِ والمُنَغِّصَاتِ والمؤثِّراتِ؛ لكِنْ إذا ذَاعَتِ الشائعاتُ وكَثُرَتْ، وحَصَلَ بسَبَبِها الخلافُ والاختلافُ والشرُّ والفسادُ؛ فإنَّ الناسَ سيَلْزَمُونَ بُيُوتَهُمْ، ويَتْرُكُونَ طاعةَ رَبِّهِمْ وشعائِرَه الظاهرةَ، مِنَ الصلاةِ في المساجدِ، ومِنَ الحجِّ، ومِنَ الزكاة، ومِنْ غَيْرِها مِنَ الواجباتِ التي افْتَرَضَها اللهُ عليهم.

ولْنَعْلَمْ أنه كما أنَّ الغِيبَةَ لولاةِ الأمرِ وللعلماءِ كَبِيرَةٌ مِنَ الكبائرِ، بَلْ هي مَعْدُودَةٌ مِنْ أَكْبَرِ الكبائرِ؛ فإنَّ الشائعاتِ إذا كانتْ مُوَجَّهَةً لهاتَيْنِ الفئتينِ فإنَّها مِنْ أَكْبَرِ الكبائرِ، كما نَصَّ على ذلك شَيْخُنا العلَّامةُ الشيخُ محمدُ بن صالح العثيمينَ رحمه الله.

ثم اعْلَمُوا -هَدَانَا اللهُ وإيَّاكُمْ، ودَلَّنا إلى الصوابِ في القولِ والعملِ- أنَّ هناك فئةً باغيةً طاغيةً انقلابيةً، اسْتَغَلَّتِ الشائعاتِ ووَسَائِلَ الإعلامِ على مُخْتَلَفِ مستوَيَاتِها وتَنَوُّعِ تَخَصُّصَاتِهَا؛ مِنْ أَجْلِ القضاءِ على الخيرِ والاجتماعِ في بَلَدٍ شَقِيقٍ قَرِيبٍ منَّا، ألَا وهو اليَمَنُ، وهذه الفئةُ اسْتَخْدَمَتْ أساليبَ مُتَعَدِّدَةً؛ حتَّى إنَّهُمْ قَتَلُوا، وشَرَّدُوا، وأَخَافُوا الآمنينَ، وأَرْجَفُوا، وأَفْسَدُوا، واسْتَغَلُّوا مَوَاقِعَ الخدماتِ مِنْ مدارسَ ومستشفياتٍ وغَيْرِهما؛ مِنْ أَجْلِ نَشْرِ فِكْرِهِمُ الفاسدِ، ومعتقداتِهِمُ الفاسدةِ، وكذلكَ العَمَل على أنْ يَكُونَ ذلك المجتمعُ بَعِيدًا كُلَّ البُعدِ عن الاجتماعِ والأُلْفَةِ، وعَنِ المعتقدِ الصحيحِ، وتَطْبِيقِ شَرِيعَةِ اللهِ عز وجل، الأمرُ الذي معه أَجَابَ نِدَاءَ إِخْوَانِنا وأشِقَّائِنا في اليَمَنِ ولاةُ أَمْرِنا في هذه البلادِ المباركةِ، وعلى رَأْسِهِمْ خَادِمُ الحرمَيْنِ الشريفَيْنِ الملكُ سلمانُ بنُ عبدِ العزيزِ في عَاصِفَةِ الحَزْمِ، ثم إعادةُ الأَمَلِ، وذلك نُصْرَةً للمَظْلُومِ، وإغاثةً للمَلْهُوفِ، وقيامًا بالواجبِ على هذهِ الدولةِ السُّنيةِ السلفيةِ في مِثْلِ هذه المواقعِ.

ومن هنا رَأَيْنَا قُوَّةً وعَزْمًا وحَزْمًا ودَحْرًا للأعداءِ، ووُقُوفًا قَوِيًّا في مواجهةِ الأخطارِ والمشاكلِ، ممَّا جَعَلَ هذه الفئةَ الانقلابيةَ تَنْدَحِرُ وتَخْشَعُ وتَنْهَزِمُ، في وقتٍ نحنُ أَحْوَجُ ما نَكُونُ فيه إلى التعاضُدِ والتعاونِ والتراحمِ، والوقوفِ صَفًّا متراصًّا قويًّا مع قِيَادَتِنا وولاةِ أَمْرِنا ضِدَّ كُلِّ مَنْ يَرُومُ هذه البلادَ بِسُوءٍ، أيًّا كان نَوْعُه، وأيًّا كَانَ جِنْسُه، وأيضًا أنْ نَتَعَاوَنَ على البرِّ والتقوى مع أبناءِ الأُمَّةِ الإسلاميةِ في مشارقِ الأرضِ ومَغَارِبِها.

أيُّها الطلابُ النُّجَبَاءُ والأبناءُ الأبرارُ، إنَّكُمْ تَقْدَمُونَ على اختباراتِ نهايةِ هذا الفَصْلِ، ولا شَكَّ أنَّ الاختباراتِ هي مُحَصِّلَةُ ما بَذَلْتُمْ مِنْ أَجْلِهِ جُهُودًا كبيرةً، ووَفَّرْتُمْ له أَنْفُسَكُمْ وأَوْقَاتَـكُمْ وكلَّ إمكاناتِكُمْ، وعندَ الامتحانِ يُكْرَمُ المَرْءُ أو يُهانُ، ومَنْ جَدَّ وجَدَ، ومَنْ زَرَعَ حَصَدَ، فإني أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ عز وجل، وأنْ تَجْعَلُوا كلَّ أَوْقَاتِكُمْ في التعلُّمِ والتعليمِ والاستفادةِ والاستزادةِ، وخُصُوصًا فيما أنتمْ مُقْدِمُونَ عليه مِنْ هذه الاختباراتِ؛ لأنَّ الأوقات لا تُعوَّضُ، والفرصَ التي تَذْهَبُ لا تَعُودُ، فلا تَشْغَلْكُمُ الشواغلُ، ولا تُلْهِكُمُ اللواهي، ولا تُكْثِرُوا التجمعاتِ والاجتماعاتِ، والقِيلَ والقالَ، وكَثْرَةَ السؤالِ، وإضاعةَ المالِ.

ثَبَتَ في مُوَطَّأِ مالكٍ، ومُسندِ الإمامِ أحمدَ، وصحيحِ مسلمٍ عَنْ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا ويَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، يَرْضَى لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوهُ ولَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وأَنْ تَنَاصَحُوا مَنْ ولَّاهُ اللهُ أَمْرَكُمْ، وأَنْ تَلْزَمُوا جَمَاعَةَ الْـمُسْلِمِينَ، ويَكْرَهُ لَكُمُ الْقِيلَ والْقَالَ، وكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وإِضَاعَةَ المَالِ».

وإنَّ شياطينَ الإنسِ الذين يَسِيرُونَ على مَنَاهِجَ قد يَعْجِزُ عنها شَيَاطِينُ الجِنِّ لِيَتَخَطَّفُوا ضعافَ العُقُولِ، والذين لا يَعْرِفُونَ الصوابَ مِنَ الخَطَأِ، وما يَصْلُحُ لهم ويُصْلِحُهُمْ في مَعَاشِهِمْ ومَعَادِهِمْ وأُمُورِ دِينِهِمْ ودُنْيَاهُمْ؛ وهُمْ يَرَوْنَ أنَّ هؤلاءِ صَيْدٌ سَهْلٌ لِمَا يُرِيدُونَ أنْ يُوقِعُوُهُمْ فيه مِنْ شَرِّ الغُلُوِّ والتطرُّفِ والإفراطِ والتفريطِ، ثم هم يَسْتَثْمِرُونَ ويَسْتَغِلُّونَ وقْتَ الاختباراتِ، ويُدَغْدِغُونَ المشاعِرَ والعواطِفَ التي مِنْ خِلَالِهَا يَقُودُونَ مَنْ يُرِيدُونَ إلى أَنْ يَقَعَ في بَرَاثِنِ المخدِّراتِ والمؤثِّراتِ العقليةِ مِنْ حُبُوبٍ وغَيْرِها، فتَجِدُهُمْ يُحَسِّنونَ هذا القبيح، ويقولونَ لهؤلاءِ الشابِ -ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى-: خُذْ هذه وتَعَاطَاهَا، فإنَّها تُعِينُكَ على الاستذكارِ، وعلى التحصيلِ، وعلى الاجتهادِ، وعلى التميزِ والبروزِ، واللهِ إنهم لَكَاذِبُونَ، وما يُرِيدُونَ إلَّا أنْ تَكُونُوا فريسةً لهذه المخدِّراتِ، وهذه الأعمالِ التي نَرَى نَتَائِجَها عَبْرَ حقائقَ ووثائقَ مُرَّةٍ أليمةٍ.

ألَا تَعْلَمُونَ أنَّ الإنسانَ إذا تَنَاوَلَ واحدةً ممَّا يُذْكَرُ فإنه سيُجَرِّبُها مرةً واثنتينِ وثلاثًا، ثم يُدْمِنُ عليها؟! ألَا تعلمونَ أنَّ بَعْضَ ما يُتعاطَى مِنَ المخدِّراتِ والمؤثِّراتِ العقليةِ والجسميةِ إذا تَنَاوَلَهُ مَنْ يَتَعَاطَاهُ مَرَّةً أو مرتينِ قَضَى على خَلَايَاهُ المُخِّيَّةِ؟! ألَا تَعْلَمُونَ أنَّ فرائسَ هذه الشرورِ والمخاطرِ تَقْطَعُ أجسامَهُمْ إِرْبًا إِرْبًا؟!

فَاحْذَرُوا أولئكَ، وانْتَبِهُوا لهم، واعْلَمُوا أنَّ صِحَّةَ الإنسانِ في دِينِهِ وبَدَنِهِ لا يُمْكِنُ أنْ تُتْرَكَ لمثلِ هؤلاءِ العابثين، أو يُتَسَاهَلَ بها، فإذا أردتَ أَنْ تَكُونَ مُسْتَحْضِرًا مُسْتَذْكِرًا مُنْتَبِهًا فَاهِمًا فعَلَيْكَ بِلُزُومِ ما جَاءَ في هذه الشريعةِ المُطهَّرَةِ مِنَ الأوامر والنواهي، وابْتَعِدْ كُلَّ البُعدِ عَنْ هؤلاءِ وأمثالهم، فأنتَ لَدَيْكَ وقتٌ يُمْكِنُ أنْ تُنَظِّمَهُ وتَعْمَلَ على تَنْظِيمِهِ، وفْقَ ما تَرَاهُ. وأَهَمُّ شَيْءٍ هو أنْ تَكُونَ ممَّنْ يَرْقُدُونَ مُبَكِّرًا، وممَّنْ يَقُومُونَ بأداءِ الصلاةِ مَعَ جماعةِ المسلمينَ، وممن يكفُّون أَلْسِنَتَهُمْ عَنْ أعراضِهِمْ، ويُؤَدُّونَ الحقوقَ والواجباتِ.

سَأَلَ رجلٌ ابنَ عمرَ رضي الله عنهما فقال: «اكْتُبْ لي في العِلْمِ، فأَجَابَهُ ابنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: إنَّكَ قد سَأَلْتَنِي عَنْ شَيْءٍ كبيرٍ؛ ولكِنْ إنْ قَدَرَتْ أَنْ تَلْقَى اللهَ عز وجل خَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ دماءِ المسلمينَ، خَمِيصَ البَطْنِ مِنْ أموالِهمْ، كَافًّا لِسَانَكَ عَنْ أَعْرَاضِهِمْ، لازمًا جَمَاعَتَهُمْ فَافْعَلْ».

وما أَحْوَجَنَا اليومَ إلى ذلكَ، وما أَكْثَرَ مَنِ ابْتَعَدُوا وشَرَدُوا ونَدُّوا بِنَاءً على أنهم لم يَعْرِفُوا ذلك.

هذا وقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ بأَمْرٍ بَدأهُ بنَفْسِهِ، ثم ثنَّى على ملائِكَتِهِ فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ ومَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 56].

اللهُمَّ صلِّ وسَلِّمْ وزِدْ وبارِكْ على نَبِيِّنا وصَحْبِهِ وآلِهِ وسلِّمْ تَسْلِيمًا كبيرًا، اللهُمَّ ارْضَ عَنِ الخلفاءِ الراشدينَ الأربعةِ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، وعَنْ سَائِرِ الصحابةِ أجمعينَ، بِرَحْمَتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ، اللهُمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأَزِلَّ الشِّرْكَ والمشركينَ، واجْعَلْ هذا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وسائرَ بِلَادِ المسلمينَ، اللهُمَّ ولِّ عَلَيْنَا خِيَارَنا، واكْفِنَا شَرَّ شِرَارِنَا، اللهُمَّ وفِّقْ ولِيَّ أَمْرِنَا خَادِمَ الحرمينِ الشريفين سَلْمَانَ بنَ عبدِ العزيزِ، ووليَّ عَهْدِه بتوْفِيقِكَ، واكْلَأْنَا وإيَّاهُمْ بِعِنَايَتِكَ ورِعَايَتِكَ، وأَلْبِسْنا وإيَّاهُمْ ثَوْبَ الصحةِ والعافيةِ، وزِدْنَا وإيَّاهُمْ نَصْرًا وتَمْكِينًا، وقِيَامًا بِكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ نَبِيِّنا صلى الله عليه وسلم، وما كَانَ عليه سَلَفُ هذه الأُمَّةِ، اللهُمَّ انْصُرْ جُنُودَنا، ورِجَالَ أَمْنِنَا البواسل في الحدودِ والثغُورِ على عَدُوِّكَ وعَدُوِّنا وعَدُوِّهِمُ، اللهُمَّ ثَبِّتْ قُلُوبَهُمْ، وارْبِطْ على جَأْشِهِمْ، وقوِّ عَزَائِمَهُمْ، وارْفَعْ معنويَّاتِهِمْ، وسَدِّدْ سِهَامَهُمْ ورَمْيَهُمُ، اللهُمَّ احْفَظْنَا وإيَّاهُمْ مِنْ بينِ أَيْدِينَا ومِنْ خَلْفِنَا وعَنْ أَيْمَانِنَا وعَنْ شَمَائِلِنَا ومِنْ فَوْقِنَا، ونَعُوذُ بعَظَمَتِكَ أنْ نُغْتَالَ وإيَّاهُمْ مِنْ تَحْتِنَا، اللهُمَّ اجْعَلْ ما يَقُومُونَ به مِنْ جِهَادٍ ودِفَاعٍ عَنْ مُقَدَّسَاتِنَا ومُكْتَسَبَاتِنَا ومُقَدَّرَاتِنا وبِلادِنَا وقيادتنا وعُلَمَائِنَا وأبناءِ مُجْتَمَعِنا في ميزانِ حسناتِهِمْ، وارْفَعْ به درجاتِهِمُ، اللهُمَّ أَعِدْهُمْ إلينا وإلى أَهْلِهِمْ سالمينَ غانِمِينَ مُنْتَصِرِينَ يا ربَّ العالمينَ، اللهُمَّ مَنْ أرادَنا أو أرادَ دِينَنَا وعَقِيدَتَنَا أو بلادَنا وولاةَ أَمْرِنَا بِسُوءٍ فاشْغَلْه بنَفْسِهِ، واجْعَلْ كَيْدَهُ في نَحْرِهِ، ومَزِّقْهُ كلَّ مُمَزَّقٍ يا ربَّ العالمينَ إذا لم يَكُنْ في سَابِقِ عِلْمِكَ هِدَايَتَهُ، ورُدَّهُ إلى الصوابِ، اللهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ جَهْدِ البلاءِ، ودَرَكِ الشقاءِ، وسُوءِ القضاءِ، وشماتةِ الأعداءِ، وغَلَبَةِ الدَّيْنِ، وقَهْرِ الرجالِ، اللهم إنَّا نعوذُ بِكَ مِنَ الجُبْن والبُخلِ والهَمِّ والحَزَنِ والكَسَلِ، اللهُمَّ احْفَظْنَا بالإسلامِ قَائِمِينَ، واحْفَظْنَا بالإسلامِ قاعدين، واحْفَظْنَا بالإسلام رَاقِدِينَ، ولا تُشْمِتْ فِينَا الأعداءَ ولا الحاسدينَ، اللهُمَّ ارْحَمْ ضَعْفَنا، واجْبُرْ كَسْرَنا، امْحُ حَوْبَتَنا، واعْفُ عَنْ زَلَّتِنا، واسْتُرْ عوراتِنا، وآمِنْ رَوْعَاتِنَا، برحمتكَ يا أَرْحَمَ الراحمينَ، اللهم أَغْنِنَا بحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وبفَضْلِكَ عمَّنْ سواكَ، وبارِكْ لنا فيما رَزَقْتَنَا، اللهُمَّ إنَّا نَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الكريمِ برَحْمَتِكَ يا أرحمَ الراحمينَ.

وآخِرُ دَعْوَانَا أنِ الحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، وصَلَّى اللهُ وسَلَّمَ وبَارَكَ على نبيِّنا محمدٍ.