أصول المعاملة الحسنة

الشيخ سليمان الرحيلي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم يا عباد الله:

إن الناظر في تعامل المسلمين مع بعضهم يجد في ذلك خللاً كبيرا، فمن المسلمين آباء قد امتلأت قلوبهم حزنا بسبب سوء معاملة أبنائهم وبناتهم، ومن المسلمين أمهات لا يكاد الدمع ينقطع من أعينهن بسبب سوء معاملة أبنائهن وبناتهن، ومن المسلمين أزواج وزوجات يتنافرون في البيوت -إن لم يصل الأمر إلى الطلاق - بسبب التعامل فيما بينهم، ومن المسلمين أقارب وجيران لا يحب بعضهم بعضا من غير سبب شرعي، بسبب سوء التعامل بينهم.

وإنك -يا عبد الله- لتعجب كيف يقع هذا من أقوام يقرأون القرآن، ويسمعون القرآن، فإن القرآن كلام ربنا أنزله على نبينا ﷺ وجعل لنا فيه الهداية، «إن هذا القرءان يهدي للتي هي أقوم» [الإسراء:9] .

فلو أن المسلم -ذكرا كان أو أنثى- أقبل على كلام الله، يقرأه ويتعلمه ويفهمه ويعمل به، لعاش في الدنيا مستقيما غاية الاستقامة، وعاش سعيدا في غاية السعادة، وكان في الآخرة من الفائزين.

ربنا سبحانه علمنا في القرآن كيف يعامل بعضنا بعضا، فأدبنا بأحسن الأدب، جمع الله لنا أصول التعامل الحسن بيننا في آية واحدة، حيث قال ربنا : «فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم وأستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين» [ آل عمران : 159 ]

الله أكبر! إن الله عز وجل يمتن علينا في هذه الآية، ويؤدبنا بجميل الأخلاق في المعاملات في هذه الآية، يمتن علينا بجميل صفات نبينا ﷺ.

فبرحمة من الله عليك وعلى أمتك لنت لهم: فكنت لينا في فعلك، لينا في قولك، طيبا في فعلك، طيبا في قولك، غير فظ ولا غليظ القلب، فليس في كلامك قسوة، وليس في قلبك جفوة.

«ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك»: وانصرفوا عنك، ولم يجتمعوا عليك.

«فاعف عنهم»: أي تجاوز عن تقصيرهم في حقك الدنيوي.

«واستغفر لهم »: أي استغفر لهم ربك في تقصيرهم في حق الله، وفي أمور دينهم.

«وشاورهم في الأمر» النبي مسدد من ربه، مسدد بالوحي، لكن الله عز وجل أمره أن يعامل الصحابة بالمشاورة تأليفا لقلوبهم، وليشركهم في الأمر، ولتقتدي به الأمة من بعده .

«فإذا عزمت» :وإذا أردت أن تفعل الفعل فتوكل على الله : فإنه لن يتحقق لك العزم إلا بالتوكل على الله، ولن توفق إلا بالتوكل على الله، وإن الله يحب المتوكلين.

وهذه - يا عباد الله - صفات نبينا ، «لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم» [التوبة: ۱۲۸] .

سئلت أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق : كيف كان خلق رسول الله؟ فقالت: لم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا سخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، وفي رواية: ولكن يعفو ويغفر .

وهذه - يا عباد الله - صفة نبينا ﷺ في التوراة، فقد أخبرنا عبد الله بن عمرو بنا أن من صفة نبينا ﷺ في التوراة: أنه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو

ويصفح، فهذه أعلى الأخلاق، وأكمل الأخلاق، وأجمل الشمائل، كان عليها نبينا ﷺ.

ومع امتنان ربنا علينا في هذه الآية فإنه بين لنا أصول التعامل الحسن فيما بيننا:

الأصل الأول: أن نتعامل بالرحمة فيما بيننا، أن تعامل - يا عبد الله - والديك بالرحمة، فتكون رحيما معهما، لا يريان منك إلا ما يحبان، فتفعل ما أمراك به إن لم يكن معصية الله عز وجل، وتبادر إلى ما يحبان إن لم يكن في ذلك ضرر عليك، «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما (*) وأخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» [الإسراء:٢٣-٢٤].

«وأخفض لهما جناح الذل» أي: تذلل لهما رحمة وإحسانا، فكن رحيما بهما متذللاً لهما، قال بعض السلف: كن لهما كالعبد الخاشع في صلاته، أي تذلل لهما، وقف أمامهما بأدب، ولا ترفع يديك عند الكلام معهما، ولا تجرحهما بكلمة، وإنما كن رحيما بهما.

الله أكبر يا عبد الله! لن تنال رحمة الله إلا إذا رحمت والديك، ثم إنك مع معاملة والديك بالرحمة فإنك تسأل الله لهما الرحمة «وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا».

تعامل -يا عبد الله- زوجتك وعيالك بالرحمة، يقول أنس رضي الله عنه: ما رأيت أرحم بالعيال من رسول الله ﷺ.

جاء أقوام من الأعراب وقالوا للرسول ﷺ ومن معه: أتقبلون صبيانكم؟ فقالوا: نعم، فقالوا: إنا لا تقبل صبياننا، فقال : «أوَأَملك لكم أن نزع الله منكم الرحمة؟» وفي رواية: «أوأملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة؟».

وجاء الأقرع بن حابس رضي الله عنه فرأى النبي ﷺ يقبل الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحدا منهم، فقال : «من لا يرحم لا يرحم».

ترحم زوجتك بألا تكلفها فوق ما تطيق، ترحم زوجتك بأن تعينها على عمل بيتها، ولا ينقص ذلك من رجولتك، كان النبي ﷺ في بيته يكون في مهنة أهله، يحلب شاته، ويخصف نعله، ويخيط ثوبه، ويقرب دلوه، وهو أشرف من وطئ الأرض، ترحم زوجتك بأن تكرم أهلها وألا تسمعها في أهلها سوءا.

والزوجة ترحم زوجها بالقيام بحقه، وبإكرامه، وبجعل القوامة له، وبكف لسانها عنه، وبإكرام أهله وإظهار الكرامة لأهله عنده.

تعامل -يا عبد الله- جيرانك وأقاربك بالرحمة، واعلم -يا عبد الله- أنك كلما زدت في رحمة المسلمين رُحِمْتَ من رب العالمين، «ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء».

والأصل الثاني يا عبد الله: أن تعامل الناس باللين، بلين الفعل ولين القول.

بلين الفعل: فتكون رفيقا بالناس، تعامل أهل بيتك بالرفق، فإن الرفق إذا دخل البيت دخل الخير والإحسان، والسعادة والاطمئنان، يقول النبي ﷺ: «إن الله إذا أراد بأهل بيت خيرا أدخل عليهم الرفق»، ويقول ﷺ : «إن الرفق ما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»، ويقول النبي ﷺ : «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه».

النبي ﷺ كان يعامل الناس بالرفق، دخل أعرابي فتنحى ناحية المسجد فبال، فقام إليه الصحابة ليزجروه، فقال الرفيق ﷺ : «دعوه لا تزرموه»، فلما فرغ دعاه فقال له: «إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والخلاء، وإنما هي لذكر الله والصلاة»، أو كما قال ﷺ.

جاء معاوية بن الحكم رضي الله عنه وأرضاه فصلی خلف رسول اللہ ﷺ فعطس رجل من القوم، فقال له معاوية: يرحمك الله، فأخذ القوم ينظرون إليه بأبصارهم، فقال لهم: واثكل أمَّياه! ما بالكم تنظرون إلي؟ فأخذوا يضربون على أفخاذهم يسكنونه، فلما رأى ذلك سكت، فلما سلم النبي ﷺ وأُخبر بذلك قال معاوية: فبأبي هو وأمي، ما رأيت معلما أحسن منه قبله ولا بعده، والله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، وإنما هو القرآن والتسبيح والتكبير».

الله أكبر! ما أعظم هذا الخلق، وما أعظم هذا اللين! تلين للناس في كلامك -يا عبد الله- بأن تكون طيب الكلام.

الأصل الثالث: ألا تكون فظا، ألا تكون قاسيا في كلامك، بل تكون -كما تقدم- طيب الكلام، لين الكلام، مع من تتعامل معه من الناس.

الأصل الرابع: ألا تكون غليظ القلب، ألا تكون جافيا، ألا تكون قاسيا، ألا تكون معرضا عن رحمة الناس، بل تكون لين القلب، هينا لينا قريبا سهلاً، فإنك إذا فعلت ذلك -يا عبد الله- كنت من الأخيار القريبين من الناس.

والأصل الخامس: أن تعفو عن الناس، ومعنى أن تعفو عن الناس: أن تقبل منهم ما يستطيعون، وألا تكلفهم ما لا يطيقون، وأن تتجاوز عما فيه يخطئون، فخذ العفو يا عبد الله، اقبل من الناس ما يقدمون ويستطيعون، ولا تدقق، ولا تحقق، ولا تطلب من الناس ما فوق طاقتهم، ومع ذلك اعف عنهم إذا قصروا وإذا أخطأوا في حقك، فإن العفو سبب للعز، وإن العفو سبب لمزيد الإكرام من الله عز وجل، فما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، خذ -يا عبد الله- العفو وادفع بالتي هي أحسن، فإن هذا يؤلف قلوب الناس لك.

والأصل السادس: أن تستغفر للناس ليرى الناس منك أنك تحب لهم دخول الجنة، وتخاف عليهم من دخول النار، تستغفر لهم، وتظهر الاستغفار لهم، إذا كنت مع أبنائك كان في لسانك: غفر الله لكم يا أبنائي، غفر الله لك يا أم فلان، إذا كنت مع جيرانك: غفر الله لكم، إذا كلمت قريبك سمع منك الاستغفار: غفر الله لك، وأعلى درجتك، جعلك الله من أهل الجنة، تستغفر لهم في حقيقة أمرك، وتسمعهم الاستغفار من أجل أن تؤلف قلوبهم.

والأصل السابع: أن تشاورهم ولو في بعض الأمور، شاور أبناءك، وشاور امرأتك في بعض أمورك، لتتألف قلوبهم، ولتشركهم في أمرك وأمرهم، بل -يا عبد الله- حتى جارك، شاوره في بعض أمورك، من أجل أن تشعره باهتمامك به وباهتمامك برأيه، ولعلك أن تستفيد منه خيرا، وأن تسمع منه خيرا.

ما أحوجنا -يا عباد الله - إلى أن تحيي مبدأ التشاور فيما بيننا! فإذا شاورنا وبذلنا الأسباب وظهر لنا الهدى فإنا نعزم على أمرنا، ونتوكل على ربنا، والله يحب المتوكلين، ومن أحبه الله أعانه وسدده ووفقه.

الله أكبر يا عباد الله! هذه أصول التعامل الحسن من آية واحدة من كتاب ربنا.

ألا فاتقوا الله عباد الله، وتدبروا كلام الله، واعملوا بكلام الله فيما بينكم، لعلكم تفلحون.

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

.

.

.

الخطبة الثانية:

الحمد الله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد فيا عباد الله:

إن دينكم الكامل الشامل دين الألفة، ودين الأخوة، ودين المحبة، يقول النبي ﷺ : «المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف».

المؤمن يأنس بإخوانه المؤمنين، ويأنس به إخوانه المؤمنون، ولا خير في عبد لا يأنس به المؤمنون، ولا يأنس بالمؤمنين.

ويقول النبي ﷺ: «المسلم أخو المسلم، كونوا عباد الله إخوانا».

ويقول النبي ﷺ : «من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان».

وما أجمل ما قاله بعض العلماء حيث قالوا: المؤمن للمؤمن كاليد للعين، إن دمعت العين مسحت اليد الدمع، وإن تألمت اليد بكت العين.

هكذا هو المؤمن لأخيه المؤمن، محب له، ساع في صالحه، يحب له ما يحب لنفسه، يتألم لألمه، ويسعى في رفع الألم عنه ما أمكنه ذلك.

واعلموا -عباد الله- أن من اتصف بهذه الصفات في معاملة الناس كان من الفائزين بالجنة الناجين من النار، فقد أخبرنا النبي ﷺ أن من يدخل الجنة: كل هين لين سهل قريب، فالذين يدخلون الجنة هم المؤمنون الذين يتصفون بهذه الصفات التي بيناها.

فيا عبد الله، إن أردت إرضاء الله، إن أردت رحمة الله، إن أردت أن تلين لك قلوب عباد الله، إن أردت أن تندفع المشاكل عن بيتك، إذا أردت أن تجتمع مع أقاربك، فكن هينا وكن لينا وكن سهلاً وكن قريبا، فإنك إذا فعلت ذلك تعان من الله على أمورك.

ألا فاتقوا الله عباد الله، وتمسكوا بدين الله، تقربوا إلى الله بالإحسان فيما بينكم، وبحسن التعامل مع

المسلمين، لعلكم تفلحون.

ثم اعلموا -رحمني الله وإياكم- أن الله أمرنا بأمر عظيم، بدأ فيه بنفسه، ثم ثنی بملائكته، فقال -عز من قائل-: «إن الله وملائكته يصلون على النبي يأيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما»

[الأحراب: 56]۔

وقال ﷺ : «إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة، فيه خلق آدم، وفيه قبض، وفيه النفخة وفيه الصعقة،

فأكثروا علي من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضة علي»، قالوا: وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ فقال : «إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء» .

فاللهم صل على محمد ...