الحمد لله الذي أمرنا باتباع أوامره، ونهانا عن ارتكابِ نواهيه، أحمده - سبحانه - وأشكره على نعمةِ الإيمان، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله، قوله الحق وله المُلْك وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل: ((إياكم ومُحدَثاتِ الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الذين تمسَّكوا بكتاب ربهم؛ فصَفتْ عقيدتهم ورسَخ إيمانُهم، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاعلموا أيها الناس، أن أعظم النِّعم على الإنسان العقل؛ لأنه الآلة في معرفة الإله - سبحانه وتعالى - والسبب الذي يُتوصَّل به إلى تصديق الرسل، فالعقل لاستبصار الحق مِثل العين لرؤية الشمس والقمر والطرق، فعلى كل ذي عقل سليم أن يَحذَر من البدع ومحبتها والعمل لإظهارها وتشجيع أصحابها، وألا يَستحسِن ما ليس بالحسن؛ ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ﴾ [فاطر: 8]، فهناك للبدع شيطانان: شيطان إنس وشيطان جن يُزيِّنانها ويُحسِّنانها، فالعاقل يَحذر ذلك؛ ﴿ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 63]، ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ [الأنعام: 112].
أيها المسلمون:
إن البدع المذمومة هي: ما حدث على خلافِ دليلٍ شرعي وتضمَّنت معصية الله تعالى ومعصية رسوله -صلى الله عليه وسلم- لارتكاب أصحابها ما نهتْهم عنه شريعة الله تعالى، وفي هذه الأيام ظهرت في بلادنا بدعٌ كثيرة: اعتقاديَّة وعمليَّة، وبلادنا التي حباها الله - جل وعلا - بنور العلم والمعرفة على أيدي دعاتها وحكامها المخلصين! وقد طهَّرها الله تعالى - ولله الحمد - من درن الشرك والأدناس وظهور البدع، وانتشار المعاصي، إلا أننا بحكم الانفتاح في وسائل الحياة واحتياجاتنا في الأعمال لغيرنا، الأمر الذي أثَّر فينا بالاختلاط، فالاختلاط أوجد بعض المعاصي والبدع وتكاثَرتْ، ووجودها من بعض الأفراد غير مُستغرَب ولا مُستنكَر، وإنما الخوف من الدعوة إليها حتى تُصبح السنة بِدعة، والبدعة سنة، ولقد حذَّرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أشدَّ التحذير من البدع التي تُخالِف السنة، وأمرَنا بأخذ ما آتانا، وأن نترك ما نهانا عنه، وقد جاء في الحديث في خطبةٍ عظيمة، التي وصفها العرباض بن سارية - رضي الله عنه - بقوله: "وعظنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موعظةً وجلتْ منها القلوب، وذرَفتْ منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع، فأوصِنا"، قال: ((أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - والسمع والطاعة، وإن تأمَّر عليكم عبد حبشي، وإنه من يَعِش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا؛ فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار)).
فقول الصحابي: "ذرفت منها العيون" صفة مدح، مدح الله تعالى بها المؤمنين عند سماع الذِّكر؛ كما قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾ [الأنفال: 2].
وقال إبراهيم بن ميسرة: "من وقَّر صاحبَ بدعة، فقد أعان على هدْم الإسلام"[1]، وقال الفضيل بن عياض: من أحبَّ صاحبَ بدعة، فقد أحبط الله عملَه، وأخرج نور الإسلام من قلبه، وكان السلف الصالح يَستبشِرون ويفرحون وكانوا يسجدون لله شكرًا إذا مات صاحب بِدعة، قال بعضهم: جاء موت هذا الذي يُقال له بشر المريسي وأنا في السوق، فلولا أن الموضِع ليس موضع سجود لسجدتُ؛ شكرًا لله؛ الحمد لله الذي أماته.
فالواجب الحَذَر من البدع ونُصرةِ أصحابها، فصاحب البدعة أحبُّ إلى إبليس من صاحب المعصية؛ لأن العاصي يعصي ويتوب، وصاحب البدعة يجيء ويدعو إليها ويَعتقِد حلَّها، ومهما اجتهد هذا وزاد من اجتهاده، ازداد من الله بعدًا.
فيا أيها الإخوة المسلمون، احذروا البدع، وتمسَّكوا بكتاب ربكم وهدي نبيكم، واعلموا أن ما أحدث قوم بدعة إلا رفَع الله مِثلَها من السُّنة؛ فتمسُّكٌ بسنةٍ خيرٌ من إحداث بدعة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ﴾ [ الزخرف: 43-44].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.