الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي اصطفى لنا الدين، وجعلنا له مسلمين، أحمده سبحانه على نعم تامة سابغة تترى علينا ممسين ومصبحين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، أمر أن لا تعبدوا إلا إياه، ذلك الدين القيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم، عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى ودين الحق إلى الجن والإنس كافة، بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فأقام الله به الملة، وأكمل به الشرعة، وأوضح به المحجة، وتحققت ببعثته الحكمة، وزالت المعذرة، ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس، ولكن أكثر الناس لا يشكرون.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم يبعثون.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اتقوا الله ما استطعتم، واستغفروه وتوبوا إليه من سائر ما اقترفتم، واشكروا له نعماً لن تحصوها ولو اجتهدتم، فاشكروا نعمة الله عليكم إن كنتم إياه تعبدون، واذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون، وتذكروا قوله سبحانه في معرض الوعد والوعيد: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
عباد الله:
إن مِنْ مِنَنِ الله العُظمى ونعمه الكُبرى أن جعلَ لكم في دينكم سلفاً صالحاً، هم خير قرون الأمة على الإطلاق، وأفضل أتباع المرسلين والنبيين باتفاق.
الذين أثنى الله تبارك وتعالى عليهم وزكاهم في محكم القرآن، وحظكم على إتباعهم بإحسان، وألحقكم بذلك بهم فيما وعدهم به من عظيم الرضوان وعَلِيِّ الجنان.
ذلكم السلف الصالح هم أصحاب رسول الله ﷺ من خلفائه الراشدين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وآل بيته المكرمين، وكلِّ مَنْ لقيه ورآه مؤمناً به من سائر المسلمين، ومن اتبعهم بإحسان من أهل القرون المفضلة، ومن جاء بعدهم مؤمناً بالله ورسوله ومتبعاً سبيلهم على ما كانوا عليه من العلم والإيمان والعمل، وهم المعنيون بقول الحق سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:8-10].
أيها الناس:
الصحابة جمع صاحب أو صحابي، وهم كل من لقي أو رأى النبي ﷺ مؤمناً به ومات على ذلك، فدخل في هذا التعريف خلفاء النبي ﷺ الراشدون، وأزواجه أمهات المؤمنين، وقراباته من مسلمي الهاشميين، وكل من لقيه أو رآه مؤمناً به وثبت على إيمانه حتى لقي به رب العالمين.
قال غير واحد من أهل العلم: [ كل من صحب النبي ﷺ أفضل ممن لم يصحبه مطلقاً، فإنه يحصل لهم بالصحبة بالدرجة أمر لا تساويه ما يحصل لغيرهم بعلمه وعمله، ولم يبلغ أحد مثل منازلهم التي أدركوها بصحبة النبي ﷺ ].
أيها الناس:
لا مقام بعد النبوة ولا رتبة أعلى وأشرف من مقام ورتبة الصحابة رضي الله عنهم الذين ارتضاهم الله تبارك وتعالى لصحبة محمد ﷺ، سيد الناس، وخاتم النبيين، وأشرف المرسلين، المبعوث رحمة للعالمين، وأعظم شفيع للخلائق بين يدي رب العالمين.
فإنهم رضي الله عنهم أجمعين قد سبقوا إلى الإيمان، واتبعوا النبي ﷺ مغتبطين بفضل الرحمن، وهاجروا وآووا ونصروا وجاهدوا وصدقوا وفُتنوا وصبروا واستقاموا وما بدلوا.
فهم رضوان الله عليهم خير الناس بعد المرسلين والنبيين علماً، وعملاً، وتصديقاً، وصُحبة لرسول الله ﷺ، وجهاداً في سبيل [الله]، ودعوة إلى دينه، وسبقاً إلى كل خصلة جميلة، وحازوا قصبات السبق، وبلغوا الغاية في الفضل والمعروف والعلم والعمل، وجميع خصال الخير، ما لم يبلغه أحد، فلم يُسبقوا، ولم يُلحقوا في شيء من ذلك أبداً.
وحسبكم في بيان منزلتهم عند الله تعالى ومكانهم من رسوله المصطفى، وفضلهم على جميع قرون الأمة، وعلى سائر أتباع المرسلين والنبيين من كل أمة، قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، وقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]
وفي الصحيحين عن النبي ﷺ قال: ((خير الناس قرني))
وقوله سبحانه: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 117-119].
أيها المسلمون:
إن الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان، قوم اصطفاهم الله تعالى لتلقي تنزيله الكريم، وصحبة رسوله العظيم، وأول من عمل بدينه القويم، فكانوا في جميع أمورهم على الصراط المستقيم، إذ منَّ الله وأثنى عليهم بحسن الإيمان، وسلامة المنهاج، وسداد القول، وصالح العمل، وكمال الخُلُق، بقوله: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]،
وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح:29].
فأخبر سبحانه عن فضل أصحاب نبيه ﷺ، وشهد لهم بصلاح بواطنهم، وكمال ظواهرهم، ورضاه عنهم ورضاهم عنه ووعدهم بجناته ومغفرته وعظم أجر ذلك الفوز العظيم، وأدخل معهم في ضمن هذا الثناء العظيم، والوعد الكريم، الذين اتبعوهم بإحسان، بكلام محكم في القرآن، الذي يتلى على مسامع الناس على مر الزمان، كما توعد سبحانه من يشاقق الرسول ﷺ من بعد ما تبين له الهدى، ويتبع غير سبيل المؤمنين، بأن يوليه ما تولى، ويصله جهنم وساءت مصيراً، لمجانبته ما كانوا عليه من الدين والهدى.
فاجتمع للصحابة رضوان الله عليهم تزكية الله تبارك وتعالى لهم، وثناؤه عليهم، وإخباره برضاه عنهم، وما أعد لهم من المغفرة والأجر العظيم، والوعد الكريم بجنات لهم في نعيم مقيم، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أخبر عن حبه لهم، واغتباطه بهم، وبيّن جملاً من فضائلهم وفضلهم، كقوله ﷺ: ((خير الناس قرني)) وقوله: ((أنتم توفون يوم القيامة سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل))، وكإخباره أنهم أول من يدخل الجنة، وأكثر أهل الجنة، ونهيه ﷺ عن سبهم، وأذيته فيهم، وإخباره أنه لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق.
وأجمعت الأمة -المعصومة من أن تجتمع على ضلالة- على فضلهم وعدالتهم، وما ثبت من مناقبهم وخصائصهم، وكل وصف كريم في القرآن والسنة لأهل الإسلام والإيمان، والإحسان والبر والتقوى، والألباب والنهى، فهم رضي الله عنهم أول من يدخل فيه، وأحق الناس به وثوابه وأثره.
معشر المسلمين:
لقد اختص أصحاب النبي ﷺ من بين قرون الأمة بالسبق إلى الإسلام أول ظهوره، وقبل أن تظهر وتشتهر دلائل نبوة النبي ﷺ، وكذلك سبقوا إلى نصرة الرسول ﷺ، وإلى الجهاد لإظهار دينه، وتبليغه للناس، وهداية الخلق إليه، فهم أول من آمن بالله ورسوله ودينه، وأول من نصر النبي ﷺ ودافع عنه، وأول من جاهد في سبيل الله لإعلاء كلمته.
فآمنوا وقت الغربة، وجاهدوا وقت العسرة، ودعوا إلى الله تعالى بالحكمة، وبذلوا في سبيل ذلك كله النفس والنفيس، وصبروا على جفاء وعداوة القريب والبعيد، فاجتمعت لهم فضائل كثيرة، ومناقب كبيرة، فدخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، ونالوا ذرى الشرف والمجد بكل أسبابه، بالسبق في الإسلام، والصبر، وحسن الصحبة، والهجرة، والإيواء والنصرة، والجهاد والإمامة في العلم والعمل، والتبليغ للدين والذكر الحسن.
أيها المؤمنون:
إن الصحابة رضوان الله عليهم طراز فريد، ونخب متميز، وجيل لن يتكرر، قوم اختارهم الله تبارك وتعالى على علم، لتلقي تنزيله، وصحبة رسوله، والعمل بدينه على الوجه الذي ارتضاه، وجعلهم خلفاء نبيه ﷺ بعد موته في أمته، فائتمنهم على دينه، وكلفهم بتبليغه، وجعلهم أئمة الأمة وقدوتها في العمل به، والمرجع فيما اختلف الناس فيه من تأويل كتابه، وفهم هدي النبي ﷺ، وما أشكل فهمه من خطابه، ذلكم الجيل الفذ، والأنموذج الكامل لتطبيق الدين.
وفي ذلكم عباد الله لهم حقوق كثيرة على الأمة، تنبئ عن اعتراف اللاحقين بقدر وفضل أولئك السابقين، ومنزلتهم من الديانة، ورعايتهم للأمانة، وموقعهم من الأسوة، وما خصهم الله به، وآتاهم من فضله، من أدى هذه الحقوق فهو تابع موافق لاحق، ومن جحدها أو عكسها فهو ملحد منافق، قد ولاه الله ما تولى، وسلكه في سبل إلى نار لظى.
معشر المؤمنين: إن من حقوق الصحابة رضي الله عنهم على الأمة:
أولاً: الاعتراف بما ثبت من فضلهم وفضائلهم ومحبتهم بالقلوب، والثناء عليهم بالألسن، وتحبيبهم إلى الأمة، وحظِّها على حسن التأسي بهم.
ثانياً: الاعتقاد بأنهم خلفاء النبي ﷺ بعد موته في الأمة، في العلم والعمل، والدعوة والأمر والنهي، والجهاد، والأخلاق، والتلقي عنهم، وحسن التأسي بهم لكمال علمهم وإيمانهم، وعملهم ونصيحتهم، وجهادهم ورحمتهم بالأمة، وشدتهم وغلظتهم على أعداء الملة، وأهل النفاق والبدعة.
ثالثاً: الترحم عليهم، والاستغفار والدعاء لهم، عملاً بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
رابعاً: الاغتباط برضا الله تعالى وتزكيته لهم، ومحبة النبي ﷺ لهم وثنائه عليهم، وبجهادهم للكفار والمشركين والمنافقين، ونصرتهم ووفائهم للنبي الأمين، وإخوانه في الدين، والثناء عليهم بذلك.
خامساً: أن لا تعتقد عصمة أحد من الصحابة، أو الآل والقرابة، فإن العصمة لم تثبت إلا للنبي ﷺ، وهو بشر يصيبون ويخطئون، فالكل مأجور وخطأه مغفور، فإن لهم رضي الله عنهم من السبق إلى الإيمان والجهاد والنصرة والإحسان والدعوة والنصيحة، ومنزلتهم من النبي ﷺ، والأحقية بشفاعته ما هم به أحرى بأن يغفر لهم من ذنوبهم، ما لا يغفر لغيرهم، كيف وقد أخبر سبحانه بأنه قد رضي عنهم، ورضوا عنه، وشهد النبي ﷺ بأنهم خير الأمم، وأكرمها على الله عز وجل، وأكثر وأول من يدخل الجنة.
سادساً: الكف عن الخوض فيما حدث بينهم من خلاف، وعن إشاعة ما قد ينسب إلى شخص منهم أو طائفة من مساوئ، واعتقاد أنهم فيما حديث منهم مجتهدون مأجورون، فالمصيب منهم له أجران على اجتهاده وإصابته، والمخطئ مأجور على اجتهاده ومغفور له خطأه، وما ينسب إليهم أو إلى أحدهم من مساوئ فأكثره كذب مختلق ملفق من أهل النفاق والبدع والغلو والعصبية والجهال، وما قد يثبت فلا يُدرى ما وجهه مع أنه قد زيد فيه ونُقِص وضُخِّم من أهل الغل والحقد، لتسويد القلوب، وتحزيب الأمة، والطعن في سند الشريعة، وعطف الناس على أهل الأهواء والبدعة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19]، وقال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
سابعاً: الحذر من سبهم أو سب أحد منهم، أو تنقصهم، أو لعن أحد منهم، فإن ذلك إجرام محقق، وظلم موبق، لما فيه من تكذيب الله عز وجل في تزكيتهم والثناء عليهم والطعن في النبي ﷺ على صحبتهم ومحبتهم، فإنهم أئمة المؤمنين، وخاصة النبي الأمين، وقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، مع ما في ذلك من ظلمهم وأذيتهم، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب:58] وقال النبي ﷺ: ((لا تؤذوني في أصحابي))، وقال: ((لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))، وقال تعالى في الحديث القدسي: ((ما عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب))، وهم خاصة أولياء الله تعالى، والقوم الذين اختارهم الله تعالى على علم بفضلهم لصحبة نبيه ﷺ، وتبليغ دينه، وخلافة نبيه في أمته.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء:66-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه، وأنزل له من الهدى والبيان، واستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
.
.
.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على هداه، وأسأله للجميع التوفيق لما يحبه ويرضاه، أحمده سبحانه، وأشكر له فضله وإحسانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، وصدق عبده، وهزم الأحزاب وحده.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، وخيرته من خلقه.
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه المهاجرين والأنصار، ومن سلك سبيلهم واقتفى أثرهم، في مختلف الأعصار والأمصار.
أما بعد: فيا أيها الناس:
اتقوا الله واعرفوا شأن سلفكم الصالح، فإنهم أئمتكم وهداتكم إلى كل عمل صالح، ومتجر رابح، فاستغفروا لهم، واسألوا الله أن يلحقكم بهم، وأحسنوا الإتباع لهم، واغتبطوا بالهدى إلى سبيلهم، حتى تحققوا قول الحق: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]، فإنهم هم القوم لا يشقى بهم جليسهم، ولا يخيب لاحقهم.
أيها المسلمون:
لقد امتاز الصحابة رضوان الله عليهم عن سائر الناس بأنهم أول من خاطبهم الرسول نزل إليهم القرآن، فأُرسل الرسول ﷺ بلسانهم، ونزل القرآن بلغتهم، فحضروا التنزيل وشاهدوا الرسول، وسمعوا الخطاب وفهموا المراد، وما أشكل عليهم فهمه استوضحوا من النبي ﷺ بشأنه، فعلموا الهدى، وكيفية الأداء، ورأوا النبي ﷺ يعمل بما أُنزل إليه من ربه، وبادروا إلى التأسي به، فعملوا لله تعالى بما أنزل إليهم، ونبيه ﷺ حي بين ظهرانيهم، فما أصابوا فيه أُقِروا عليه وأثنى عليهم به، وما أخطأوا فيه نُبِّهُوا عليه، وبين لهم وجه الصواب فيه.
فجمع الله تبارك وتعالى لهم بين العلم النافع المحقق، والعمل الصالح الموفق، فعلموا بمجموعهم دين الله كله، وعملوا به لله فقبل الله منهم، وتاب عليهم، وزكاهم وأثنى عليهم، وأخبر برضاه عنهم، ورضاهم عنه، ووعدهم الجنة وهم أحياء يمشون على الأرض، وعد الله لا يخلف الله وعده.
مما يدل على ثباتهم على دينهم حتى يلقوا ربهم، وعدالتهم في عملهم ونقلهم، وأنهم بحق قد ورثوا الفقه والإمامة في الدين، بعد نبيهم خاتم الأنبياء والمرسلين، فما علموه وعملوا به وبلغوه فهو من دين الله، وما لم يتكلموا به ولم يعملوه ولم يبلغوه فليس من عند الله، فهديهم رضي الله عنهم مع الكتاب والسنة، براهين الحق وقواصم والعواصم من البدعة، فنعم سند الشريعة هم، ونعم الحجة الدامغة للأهواء والبدعة هم، ولذلكم أثنى الله تبارك وتعالى على متبعيهم بإحسان، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:100]، وجعلهم شركاء للصحابة فيما وعدهم من الرضوان وأعلى الجنان، وحذر سبحانه من إتباع غير سبيلهم تحذيراً خطيراً بقوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
أيها المسلمون:
خير الأمة بعد النبي ﷺ صنفان:
أحدهما: الصحابة المبشرون بالرضوان والجنان.
والثاني: الذين اتبعوهم بإحسان، الملحقون بهم في محكم القرآن، وما سواهم فمتوعدون بالنيران
قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115]
وقال ﷺ: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)) قيل: من هم يا رسول الله، قال: ((من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي))
وقال ﷺ: ((أصحابي أَمَنةٌ لمن بعدهم))
فهم رضي الله عنهم خلفاء النبي ﷺ الراشدون، الذين حظ النبي ﷺ الأمة على إتباعهم بقوله: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار))
وقال ﷺ: ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة، فاغفر للمهاجرين والأنصار))
فدعا لهم بالمغفرة مما يتضمن رضاه عنهم، وعن أعمالهم وأقوالهم، وقال عمر رضي الله عنه: [ إنكم أيها الرهط -يعني الصحابة- أئمة يقتدي بكم الناس ].
وقال ابن عباس رضي الله عنهما مثنياً على أصحاب النبي ﷺ المهاجرين والأنصار: [ عليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله ].
وقال الحسن البصري رحمه الله عن أصحاب محمد ﷺ: [ كانوا أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه فتشبوا بأخلاقهم وطرائقهم فإنهم ورب الكعبة على الصراط المستقيم ].
وقال الأوزاعي رحمه الله: [ العلم ما جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يجئ عنهم فليس بعلم ].
وقال الإمام أحمد رحمه الله: [ أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم وترك البدع ].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين