الفوائد اللُّمع في التحذير من الجشع والطمع

الشيخ عبدالله النجمي

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وصفيه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، ومن تبعهم واكتفى، وسلم تسليماً كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ۝ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا}.

جعلني الله وإياكم من عباده المتقين وأولياءه الصالحين المصلحين إنه سميع مجيب.

عباد الله:
إنَّ الطمع سلاح ذو حدين، فما كان في حق الله عزَّ وجل، بمعنى أن المخلوق يطمع فيما عند الله، ويؤمِّل فيما عند الله، فيكون بهذا الاعتبار محمودا، قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}.

عبادُ اللهِ الذين يقومون الليل {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}، طمعا فيما عند الله عزَّ وجل.

أما إذا كان الطمع في هذه الدنيا ومن أجل الدنيا لأموالها ومناصبها وشرفها فإنه يكون مذموماً، وهذا -عباد الله- لا يتعارض مع السعي في الرزق، كلا! إنما المقصود أن من وجد ما يكفيه وزيادة، فإنه لا يقتصر على ما لديه بل يطمع ويحرص على أن يتناول أكثر منه، وهكذا دواليك.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله كما في مكارم الأخلاق، يقول: [العبودية في الحقيقة هي رق القلب، فما استرق قلبك واستعبده فهو عبده] .

إذا استرق القلبَ المالُ فأنت عبد لهذا المال، إذا استرق قلبَك الشهوةُ أنت عبد لهذه الشهوة، إذا استرق قلبك اللهُ عزَّ وجل أنت عبدٌ لله عزَّ وجل، يقول الشاعر:
أطعت مطامعي فاستعبدتني *** ولو أني قنعتُ لكنت حرا

الطمع عباد الله قد يضيع العلم الشرعي من عالمه، الطمع قد يضيع المال الحلال من التاجر بسبب طمعه إذا خلطه بالحرام، الموظف قد يضيع وظيفته من أجل الطمع، ذو المهنة الشريفة التي لها مبادئ من طب أو هندسة أو نحو ذلك، قد يضيع عمله من أجل طمع.

فالواجب علينا أن نَنفر وأن نُنفّر من الطمع، فالناس بحاجة ماسة إلى التنفير من هذا الخلق، لأن الطمع لابد أن يودي بصاحبه إلى أن يخون، يخون في علمه الشرعي، يخون في طبه، في هندسته، في وظيفته، في تعامله مع الآخرين، نعم، وإذا خان، يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه قال: [أهل النار خمسة]، فذكر منها: [والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق شيء إلا خانه].

ولذلك؛ استعاذ النبي ﷺ كما في صحيح مسلم من الطمع ومن توابعه ومن نتائجه، فقال ﷺ: (وأعوذ بك من نفس لا تشبع)، النفس إذا لم تشبع فلا تسأل عن هلاكها! ولكن، كما قيل: "الطمع يُذهب ما جمع".

ولذلك كان النبي ﷺ يحذّر أصحابه، جاء في الصحيحين من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: كان الرسول ﷺ يعطيني العطاء، فأقول: يا رسول الله، أعطه من هو أفقر مني، فقلت له ذات يوم لما أعطاني: أعطه أفقر مني، فقال عليه الصلاة والسلام: (يا عمر: ما أتاك من هذا المال وأنت غير مشرف -يعني: من غير تطلع- ولا سؤال فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك) نعم، لأن النفس إذا ما رُبيت على القناعة والاقتصاد والاقتصار فإنها لا تشبع، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله: [ما طمحت نفس لشيء من هذه الدنيا فبلغته إلا طمحت إلى ما هو أعلى منه].

والأدلة واضحة، كما جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري، قال النبي ﷺ: (لو أن لابن آدم ملء وادٍ مالا لأحب أن له مثله، ولا يملأ عيني ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب).

تنشأ على صفة القناعة تقنع بينما لو تربيت على الطمع والجشع منذ الصغر واستمرت معك هذه الخصلة الذميمة، فإنها تزداد أكثر فأكثر، لم؟ لأن ابن آدم كلما كبر كلما تعلق بهذه الدنيا إلا من وفقه الله عز وجل.

يقول النبي ﷺ، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (لا يزال قلب الكبير شابا في حُب اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل<، وفي حديث آخر في الصحيحين: >يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: حب الدنيا وطول الأمل).

ولذلك ابتلينا في هذا العصر، وابتليت قلوبنا، ونسأل الله عزَّ وجل أن يلطف بنا وأن يحمينا وأن يعيذنا من شرور فتن هذا الزمن، أصبح الناس يتسارعون ويتكالبون ويتحاثون على المال .

لا شك أن للإنسان أن يحرص على أن ينفع نفسه وأن ينفع بلدته، ولكن ليس على حساب دينه، كما نرى بعض الناس، نسأل الله العافية.

ولذلك؛ اسمع إلى خطورة الحرص الشديد على المال وعلى المنصب، قال النبي ﷺ: (يا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها).

لأن الإنسان إذا طمع وجشع في جمع المال ولو من غير حله أو بالرفع الزائد من غير مراعاة لأحوال الناس وحالاتهم ومن غير استشعار لمقتضى الأخوة الإسلامية كان ذلك يشكل خطراً على دينه، ماذا قال النبي ﷺ كما عند الترمذي من حديث كعب بن مالك رضي الله عنه؟ قال: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه).

سبحان الله! تصور لو أن ذئبين جائعين أطلقا في قطيع غنم، ماذا سيفعل هذان الذئبان بهذا القطيع من الغنم؟ سيأتيان عليه كله، إذاً، كما سيأتي هذان الذئبان الجائعان على الغنم، سيأتي الحرص على المال والشرف فيتلفان دين الإنسان! (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لهما من حرص المرء على المال والشرف لدينه).

والنبي ﷺ فصل في الموضوع، قال، كما عند الحاكم وصححه الألباني: (منهومان لا يشبعان: طالب علم، وطالب مال).

وقد ذكر عن بعض الناس كان يسأل الناس، حتى إنه ليسأل الخبزة له ولزوجته حتى يفطر عليها، وكان الكل يرحمه، فلما توفي ظل الناس أسابيع، بل شهورا، يحصون تَرِكَتَهُ وما لديه من الأموال! سبحان الله! صدق النبي ﷺ لما قال، كما في المسند وعند الترمذي: (لا يفتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر). نسأل الله العافية! إلى هذه الدرجة بسبب الطمع؟!.

ولذلك، حكيم بن حزام رضي الله عنه كما في الصحيحين، قال: سألت رسول الله ﷺ فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، فقال: (يا حكيم، إن هذا المال خَضِرة حُلْو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى)، يعني اليد التي تنفق خير من اليد التي تأخذ.

ثم قال حكيم بن حزام: فوالذي نفسي بيده! لا أرزأ -أي: لا أنقص- أحدا بعدك شيئا، فكان أبو بكر يأتيه ويقول: خذ هذا العطاء، فيرفض، ويأتيه به عمر ويرفض، فمات حكيم بن حزام فما رزأ أحدا شيئا من ماله.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، أَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ وَلِسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
.
.
.
الخطبة الثانية:

الحمدلله الكريم التواب، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله الرحيم الوهاب، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الحساب.

أما بعد، عباد الله:
إنَّ من حقوق الأخوة الإسلامية أن التعامل بينهم بني على أساس من المحبة والأخوة والرحمة، يقول الله تعالى: {إِنَّمَا المُؤمِنونَ إِخوَةٌ}.

وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما، أنَّ رسول الله ﷺ قال: (الرَّاحمونَ يرحمهُمُ اللهُ، ارحَموا مَنْ فِي الأرض يَرْحمكُم مَن في السَّماءِ).

وأنَّ من الطمع والجشع المبالغة في الإيجارات فيما يتعب كاهل المستأجر، قال ﷺ: (من ضارَّ أضرَّ اللهُ به، ومن شاقَّ شقَّ اللهُ عليه).

وأنه من حرص ولاة أمورنا على رعيتهم وشفقتهم بهم جاء التوجيه الكريم من ولي العهد –حفظه الله وبارك في جهوده- من حث ملاك العقار من عدم الجشع والمبالغة في الإيجارات والحث على الاستقرار النفسي والاجتماعي للأسر؛ لتحقيق التوازن بالقطاع العقاري، والتي من أهدافها تسهيل تأمين السكن للمواطنين والمقيمين والتيسير عليهم.

فمَن كان طامعاً فليعتبر نفسه من الفقراء، يقول عمر رضي الله عنه: [الطمع فقر]، نعم، الطمع فقر، بل -والله- إنه لعذاب! .

قال عزَّ وجل عن المنافقين: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ}.

يقول ابن القيم رحمه الله: [إن العذاب يتناول هؤلاء ثلاث مرات، يعذبهم الله -عز وجل- بهذا المال ثلاث مرات، كيف؟ قال: يتعذب في تحصيله وجمعه، ثم يتعذب في تنميته وإكثاره، ثم يتعذب: كيف يحافظ عليه؟].

فنسأل الله عزَّ وجل أن يقنع نفوسنا.

الدعاء ...